ط
مسابقة القصة القصيرة

اليافطة ..مسابقة القصة القصيرة بقلم / كمال حمادة من العراق

كمال خمادة من العراق
مسابقة القصة القصيرة
،،،،،،اليافطة،،،،،،
قصة حقيقية… ..
المطر يبلل قمصاننا المستعارة ويقسوا علينا بالقشعريرة لكنه مع كل ذلك كان عزائنا لانه الوحيد الذي يبدد تلك الغيوم فلعل بعدها تصحوامن فوقنا السماء وربما تتبسم لنا الأيام كنت ومحمد هاني لانفترق كثيرا لان المصير واحد فالجيب واحد . لم نكن نستطيع دخول نادي الكليه لنحتسي كوب الشاي لانا لا نملك ثمنه. رغم رغبتنا العاليه فيه . كان يريد ان يحدثني بأشياء كثيرة عنه وعن حياته لكنه حياءه وعزة نفسه تمنعانه من ذلك دائما وحتى الحقائق التي كنت اعرفها عنه مع مرور الايام كان يجهد نفسه بالحديث ليشرح لي اسبابها ويبرر بعض افعاله. فوجدته هذه المره قد اطال الحديث ربما لاني سألته بإلحاح عن قصة امه وحالتها وعن غرفة القصب التي كانا يسكنان وعن تنورهم الطيني .او ربما تحدث كثيرا لينسى انه جائع. محمد هاني شاعر ،، خلقه الجوع،، بل هو ذات الجوع الذي انساه قول الشعر. كنا في قسم اللغه العربية، كلية المأمون الجامعة (نقابة المعلمين سابقا ) كان يقيم معي في غرفتي الصغيره الكائنه في منطقة البتاويين ، في بغداد،يشاركنا اثنان من ابناء عمومتي . كان محمد يغيب عنا اياما لا اعلم اين يذهب فيها رغم اسئلتي الكثيره له الا انه كان يعتذر بأدب وكياسة عاليه عن الاجابه. لذلك قررت ان اتجسس عليه بحكم الاخوه والصداقة، لا سيما وان حالته الصحيه مترديه ، كان يعاني الجفاف وسوء التغذيه . اليوم الخميس موعد العودة إلى البيت . كان طريقنا واحد نتوجه الى مرآب الكاظم لنستقل السيارات المتوجه الى مدينة،،بلد ،،شمال بغداد،،حيث كان يسكن محمد هاني وكنت استقل سيارة اخرى لأصل دارنا في الضلوعيه التي يفصلها عن بلد،نهر دجلة الخالد .وصلنا بلد، اتفقنا على على اللقاء هنا يوم السبت السابعه صباحا لنذهب الى بغداد حيث الجامعه. – وداعا محمد .. وداعا كمال.. خرج من المرآب اتجه يسارا حاملا الحقيبه السوداء السوداء التي لا اعرف لونا ثابتا لها ، فكل اسبوع تظهر بلون جديد وهي في الاصل سوداء لكن تقادم الايام عليها وتداول الظروف الطبيعيه يكستها كل اسبوع لونا اخر .فتارة سمراء تميل الى الاخضرار وتارة يميل لونها الى الحني وتارة الى لون لا اعرف له اسما مما علمت من الالوان .. مقطعة الحزام… لو لم اكن حاضرا يوم شرائها من عتيق الباب الشرقي لقلت بأنها (عليجه) وليست حقيبه… تركت محمد يبعد قليلا ثم تبعته اتجه صوب باب السور ثم انحرف يمينا داخل فرع الحمام الشعبي .. تبعته حتى دخل ذلك (سيباط) المصنوع من الحصران والخشب البالي وحبل نشرالغسيل لايحمل سوى قطعة سوداء انتهزت فرصه دخوله لاتقدم اكثر .. واسمع مايجري في الداخل.. محمد محيا امه الراقدة على الفراش الذي كان عبارة عن قطعة من البلاستك المخصص لتغليف السواقي وعبارات الماء.. تجيبه التحية بصوت خافت حزين يعكس حجم الامها… كانت امه تعمل يوميا على جلب الدقيق من البيوت المجاورة وتقوم بعجنه وخبزه لتعيده الى اهله قابضة الثمن الذي كان عبارة عن رغيفين من الخبز من كل عائله تقتات عليها مع الماء وقليلا من الزيت والبصل الذي تحصل عليه عند جمع فضلة اصحاب محلات (المخضر) .. محمد مخاطبا امه ..- ان شاء الله سيأتي اليوم الذي اجعلك تنامين على فراش وثير واجلب لك خادمة تعدلك الطعام واسكنك في قصر منيف .. امه-(ضحكة ساخرة)..قصرا منيف وعمك قد جاء البارحه يأمرني برفع التنور الطيني كي لا نطمع في الارض ونبني عليها غرفة طابوق في يوم ما ..وكي لايكون التنور علامة ثبات واستقرار ..انه لايرغب بأكثر من هذا (السيباط والحبل وقطعة البلاستك) انسحبت بهدوء متوجه الى الضلوعية… جاء صباح السبت وجاءت السابعة هاهو محمد قادم بأبتسامتة الحزينة وملابسه السوداء ولحيته الخفيفة وحقيبته المقطعة.. يبحث محمد مثل كل مرة عامر سائق السيارة (الريم) كي يأخذه.. فهمت في ما بعد بانه يطلب من السائق ان يقوم محمد بجمع الاجرة من الركاب مقابل عدم دفعه للاجرة… وصل الدور عندي (يصيح محمد بصوت متبختر.. كمال انت واصل على حسابي) وننفجر ضاحكين بضحكة لا يفهمها غيرنا ..نحن الآن في المرحلة الثالثة من الجامعة.. كان الدكتور علي عباس علوان -استاذ النقد الادبي الحديث- قد نصحنا انا ومحمد بدراسة علم النفس اذا كانت لدينا الرغبة في مواصلة مشوار كتابة الشعر والقصة.. وكان يحثنا على ذلك كثيرا . المحاضرة الثالثة… جدول المحاضرات يقول.. شاغر،… ..
التجوال في حديقة الكلية وقراءة وجوه الطلبة،كانت متعتنا..
سألني محمد: هل قررت ترك الكلية والانتقال الى مكان آخر لدراسة علم النفس??
أجبته: نعم…
وأنت ماالذي تنويه??
قال: انوي إكمال دراستي في اللغة العربية حتى الدكتوراة…

خرجنا الى الشارع العام طلب مني التوجه يسارا
بإتجاه المنصور،،كانت هناك اعدادية صناعة،،لها سور مرتفع يعلق عليه يافطات نعي موتى المناطق المجاورة…
شرع محمد بقراءة اليافطات ثم وقع اختياره على واحدة،،
وقال هذه تناسبني!!! لان تأريخها قديم!!!???
لم يكن لي ان اعرف بماذا سوف يستخدمها…
سحب اليافطة المقصودة،،تأبطها،،واستأذن بالرحيل..
غادر متلفتا خشية ان يراه احد من أهل الميت….
في اليوم التالي،حضر محمد وهو يرتدي قميصا اسودا
كالعادة،لكن الغريب في قميصه الجديد.. آثار الكتابة على ظهره،وقعت عيناي على عبارة..
(((((كل نفس ذائقة الموت)))))
عندها عرفت سر تمسك محمد بارتداء الأسود..
قد سألني ذات مرة ان احاول تدبير بعض المال له
وفعلت ،،بمساعدة من أصدقاء آخرين…….
فهمت لاحقا،انه كان يذهب الى أسواق الجملة في منطقة( جميلة)التجارية ليشتري كيسا كبيرا من الطحين..
ثم يقسمه على اكياسا صغيرة ليبيعها،،ليقتات على مايسمى ربحا من هذه العملية!!…..
وعرفت عندها ايضا اسباب غيابه عنا بين حين وآخر
وعرفت عمل اللاوعي…
حيث اختارعملا مكملا لعمل امه في وخبزالدقيق
وعرفت القضية العقدية عندنا ،انها،رغيف الخبز..

العطلة الصيفية،،العمل في بلد المعطلين عن الحياة
عبادة،، محمد يفوز بعمل في مطعم الطاووس،،،
ليساند امه،،ويوفر ثمن اجور خياطة القمصان من يافطات الاموات…
العام التالي،،إنتقلت لدراسة علم النفس،،في كلية الآداب /جامعة بغداد… واستمر محمد ،لينال الماجستير في اللغة العربية..
ثم انتقلت بعدعامين لدراسة الفلسفة في الجامعة المستنصريه…
ومحمد في هذه الاثناء يحاول ان يحصل على وظيفة حكومية.. وجميع محاولاته كانت تبووء بالفشل..
ودائما لأسباب غريبة لايجد لها مبررا….
حتى لو حصل على التعيين الحكومي
فكم سينال راتبا??? لايحصل منه وجبة دسمة او علبة دخان…..
ومرت الايام العجاف مثقلاة بالحزن ،،لانعلم كيف ،،،لكنها مرت…
قرر محمد دراسة اللغة( الانگليزيه)في محاولة للحصول على فرصة من خلالها…
وفعلا تفوق فيها…
وافترقنا،،،كل في طريق،،نبحث عن ثمن مايستر عوراتنا،،ويوفر رغيف خبز لأهلنا…

الى أن جاء يوم زيارتي لمدينة،،بلد،،
تلك المدينة الحزينة المضحية التي دفعت المئات من ابنائها في الحروب والمئات في المعتقلات والمئات اعدموا بتهم أغرب من الخيال….
دفعت بساتينها المثمرة الخضراء
وفرص ابنائها للعمل والحياة الكريمة
ومع كل ذلك حافظ اهل ،،بلد،،،
على أصالتهم وقيمهم وتقاليدهم…..

دخلت بلد من طريق جسر الضلوعية
حيث مدخلها الشرقي
حيث سور المشتل المخصص لبيع الزهور..
لا أعرف لماذا منظر يافطات الموتى المعلقة على ذلك السور،،،..
تذكرت ذهابنا انا ومحمد هاني الى جدار اعدادية الكرخ الصناعية لسرقة تلك اليافطة لتحويرها الى قميص لمحمد…
شرعت عيناي تتصفح اليافطات ، فاذا بواحدة كتب عليها..
(انتقل الى رحمة الله تعالى الشهيدالشاب البطل محمد هاني عبد الامير عيسى العگيدي)
تسمرت في مكاني معيدا قراءة اليافطة اكثر من عشر مرات..
لكنها الحقيقة،،،،رفيقي وخليلي،،رحل هكذا بصمت
ونسيان ونسيان ،،مثلما هي حياته،،صامتا منسيا…
قتلته يد التطرف والغلوا والتحزب الاعمى
لفئة ظالمة خارجه عن الملل والنواميس
مزقوه ومثلوا به والقوا باوصاله في النهر..
ذهبت لزيارة امه…..
لم يبق من جسد محمد هاني مايوارى الثرى
وليس هناك مايبرد قلب امه ، ،سوى يافطة
كتب عليها..
… كل نفس ذائقة الموت…
…… كمال حماده…..

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى