ط
الشعر والأدب

اليتيم..بقلم حسيبة طاهرجغيم

حسيبة طاهر

كان يزمجر جارا وراءه شكلا مقعرا إلى المصعد الكهربائيي ، كان ذلك الشكل المقوس عجوزا عديم الأمل أثقلت كاهله خطى الأيام و السنين العجاف ،سنين الجمر أكلت لحمه و وهّنت عضمه ، و غيرت خارطة جسمه بحفر الأخاديد العميقة و نحت التجاويف، هذا الشبح الشاحب الهزيل المرتعش من ألم الباركينسون المتعب من تلاطم أمواج الزمن و تخبطات الأيام و تقلبات المناخ، كم عصفت به الزوابع و تراقصت على ضهره الأشجان.

هذا الذي كان شجرة شامخة لا تهزها الرياح ،زيتونة عتيقة فروعها ضاربة في السماء و جدورها ثابثة في أعماق الأرض ، هذا الذي كانت تضرب جدعه فأس من فلاد فتكسر

أكلوا رطبه جنيا ورموه جدعا خاويا من كل شيء إلا من غصته و التناهيد ، إنه اليوم مهموم مدموم لاحول له و لا قرار…رأسه حبلى بالهواجس و التساؤلات :إلى أين يجرونه في ساعة كهذه كالبش إلى المدبح ، كالمحكوم إلى ساحة الإعدام … ما وزره أي ذنب اقترفت يداه ؟إلاّ أنه يوما وهب الحياة لمن سيسحبها منه و يرميه إلى هامشها و ينساه في رف مهمل مع الأشياء االقديمة يملأه الغباروتغشاه الوحشة الرهيبة, و يزيحه عن بقعة الضوء إلى الركن المضلم من الخشبة ها هي المسرحية قربت إلى النهاية و ستسدل الستارة السوداء دون تصفيق و سيحال مجبرا على التقاعد، و لن يكون له بعد اليوم لا دوربطولة و لا حتى دور كمبارس بائس ، لن يكون حتى متفرجا، و هو الذي كان بالأمس الكاتب و المخرج ..

.كانت السيارة تجري بسرعة في تواطئ خبيث مع من يقودها لإيصاله للمستقر المراد ، سأل بصوت متحجرش كمن يصعد في السماء : إلى أين نمضي يا ولدي ؟

لكن ذاك الذي كان هواه و سلهواه و منتهى مناه لم يجب لأن سماعة سوداء سدت منافد أدنيه ، و موسيقى شيطانية عابثة منعت عنه المسمع.

في الرواق الرمادي استقبله شخص بملامح قاسية ملامح من تعود رأية كل أشكال الضمار فاكتسب مناعة ضد التأثر و التفاعل ،قال بصوت خشن مستعجل كمن تسلم بضاعة يريد ركنها في مكانها المخصص و يستعّد لإسستلام أخرى : سريرك يا الشيخ .

استدارللوراء يستجدي عطف الزمان عل الدهر يحن و يغير قراره الجبري الظالم ، لكن الدهر كان قد مضى مسرعا كعادته غير عابئ بمن يسحق تحت عجلاته من ضحايا ، فالموت عندما يأتي يختطف فريسته و يمضي غير عابئ ببكاء الأيتام و لا نواح الثكالى و الأرامل ، يأس من أمل العودة فقد ضرب برزخ بينه و بين الحياة , ولا مجال للعودة ، قد منحه الدهر شهادة وفاة سابقة عن أوانها بدل شهادة تقدير طال انتظاها .

استدارليلقي نظرة على مثواه لأخير فرأى أباه جالسا على ذلك السريرالصدأ والأفرشة البالية في نفس الغرفة الحزينة من دار المسنين الكئيبة .

ليس اليتيم من فقد أمه أو أباه إنّما اليتيم من تخلى عنه وَلَدَهُ .

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى