ط
مسابقة القصة القصيرة

امرأة للحِذاء وأخرى للغِليون . مسابقة القصة القصيرة بقلم/ صايبة سعاد ( عفيفة أم الشيماء ) البلد: الجزائر

صايبة سعاد ( عفيفة أم الشيماء ) البلد: الجزائر  المشاركة في القصة قصيرة
امرأة للحِذاء وأخرى للغِليون

تربّعتْ على الثّرى عند أقصر الشّاهديْن حيث نُصِبتْ راية رحيله والغياب إلى الأبد…تفوح منها رائحة دُخّان نار غُمَّتْ. تَعْبثُ أناملها بحبيبات التّراب، اتّكأت على هشيم الذّكرى تتهدّج بين الحزن والفرح والفخر والعار، متورّمة العينين،تـجهلُ أهِيتَبْكيهِ، أم تَبْكي نفسها… لو سُئِلَت أَكُنتِ تُحبّينهُ؟ لَردَّتْ لست أدْري!… تعطي حفنة بلّوط لكلّ من يمرّ بها ،وهي تقول: كان يحبّ البلّوط كثيرا، رحمه اللّه…أقبلت عليها امرأة محتشمة اللّباس، مُتواضعة الهيئة حلوة القِصَر، مَسحتْ بناظريها شواهد القبور الحديثة تبحث عن اسم واحد يعنيها… وقفتْ عند أطول الشاهديْن شَبَهُها لَبَـن خَضّ منزوع الزّبدة…بادرَتْ بسؤال أخبرها قلبها سَلفا بجوابه: أنتِ الأولى؟، وعانقتها بـنظراتها، كأنّما تقول: أنتِ أكثر النّاس شبها بي!.
ردّتِ الأولى: أنت الأخرى… وتَسلّل مِنْ بين عبراتهما بريق ابتسامة لاحتْ من مُقلهما تُوَثّقُ أُخُوّتهما من كأس الـمُرّ، تؤثِّثُ لفرح في الأفق…
ـ الأولى: ظننتك فارعة الطوّل، أقلّ جمالا ممّا أنت عليه.
ـ الثّانية: تخيّلتك مَلكة جمال لحرصه على حَجْبك، وعزلك عن النّاس… لا تلوميني! لم يخبرني بوجودك، وما علمتُ بك إلاّ بعدعقد القران…
ـ الأولى: لا طائل من ذكر هذا، لاأرغب الآن إلا بتذكر أجمل الأيام التي قضيتها معه من زمن صُنع حُصُر الدّوم وسِلال القَصب…
رُعْبوب ارِتْكَة كانتْ، دعجاء العينين، كلّما فيها حسن، جميل عدا جُعودة شعرها، وقِصره على فَحْمتِه؛ اختارتها والدته له بعد أن عاينتها جزءا جزءا كنخّاس بَـخيل بعد عزوفه عن الدّراسة لعَوز والده؛ رغم اجتهاده في الدّراسة آثر شَدّ عضُدِه ومساعدته في حرفته كفخّارْجِيّ التي يعتصر بها أنامله لِـــــدَرّ دُريهمات تسُدّ رمق جوع تسعة أفواه. رأتْ والدته في “مَلِيكة” الأقْدرَ على تحمّل المشقّة، والضّنى…
كم كان عُمر اللّيال الملاح، والسّهر حتى الصّباح قصيرا مُنْكبّيْن على صُنع الحُصُر والسّلال، يتجاذبان أطراف الحديث ويتبادلان النوادر… يتَتَبَّع الأسواق على مدار أيّام الأسبوع ويقصدها لعرض سلعته يرافقة كثير من الحظّ. سرعان ما اجتهد وبرع في التّجارة على تواضعدخلها وأضحى صاحب دكّان صغير في منطقة متوسّطة الحركة لبيع السّلال والحصائر والقدور ومَكانس الدّوم وكلّ ما أصله يدويّ منزليّ الصّنع… ارتقى دكّانه في ظرف قصير الىبيع التُحف التّقليديّة، له زبائن من الضّواحي يقصدونه على الدّوام… اقترح عليه رجل صالح من صحب أبيه الانتقال إلى المدينة حيث يُقدّر النّاس أكثر هذا الصّنف من السّلع. استدان واكترى دُكّانا وسط المدينة. ما مضى من الزّمن إلاّ شهورا وارتفع دخله الشّهري الجديد إلى ما يقارب دخله السّنوي القديم لما تعجّ به المدينة من سُيّاح من داخل وخارج البلد… ما مرّ من الوقت إلاّ القليل وضمّ الدّكان المجاور لدكّانه، وجعلهما متجرا كبيرا، مُتنزّها رَمزيا لمختلف الثّقافات والحضارات… اختلط بالنّاس اختلاط سواد الغراب ببياض النّوارس، بينما يُشدّد فيضَرب الحُجُب، والسُّتُر على “مَلِيكة” والحيلولة دون اختلاطها بالعالم الخارجي لاعتقاده أنّ في ذلك مفسدة لها تعودعليه، إلانظرة من وراء شبابيك النّوافذ التي أحكم تحصينها بالفولاذ…
فَهِم قواعد اللّعبةسريعا… رَبَا ماله ربوا باهرا… أغلب زبائنه نساء صغيرات السّن…قضاءُ بضع دقائق يسترسل مع إحداهنّ في الحديث تُناقش ثمن التّحفة أو تطلبُ تُـحفا أخرى يُـحْضرها لها، وربّما انحرف مَجراه إلى غير ذي صِـلة بالتُّحف، وسَرَيان سِحر عطرهنَّ إلى مَعاقل جوعه، وتحريرها، وركوب تضاريسهنّ بمخياله جَـرَّه جرّا إلى اعتياد النّظر إلى مفاتنهنّ ومعاكستهنّ… عُرض عليه أحيانا ثمن قطعة فنّية بساعة في خلفية المتجر، أعرض في بداياته ثمّ استسلم دونما قَدِّ لقميصٍ من دُبُر، مع تعليق لافتة مغلق… يُهادن رواسب الخير والفطرة فيه، يتحايل على ضميره بالإقلاع؛ ولابأس بالمرة ثمّ بالمرّتين، ثمّ…تدحرج شيئا فشيئا إلى قعر حفرة ماظنّ يوما أنّه منزلق إلى قعرها… وحليلته مازال ثَوبُ نهارها ثَوبَ ليلِها، تَعَتّقتْ فيه رائحة الثّوم، والبصل والزّيت والعرق وحتى قَلَس رضيعها على كتفها، تُغيّره بعد الاستحمام مرّة في الأسبوع كما تعوّدت ذلك منذ طفولتها…
دخل مُنتشيا ذات مساء بعطورهنّ، مسحورا بذبذبات أصواتهنّ، قَــزّزه هِندامُها ورائحتها المعتّقة، وبـَـخْـــرُفمِها… أقلقه ضجيج أولاده، وفوضى الأشياء والأثاث في البيت والتي لم يشفع لها غلاء أثمانها بأن تحظى بما يليق بها من عناية وترتيب؛ صار على شفا سيل من الغضب بعد الخطوة الثّالثة من الباب. يتصيّد لها اللّمَمَ ليخاصمها ويرسل بها إلى غرفة الأطفال إذا حان وقت اللِّين، وأصبح للوقت طَعم التّوت البريّ كالعادة منذ فترة وينام مُنفردا… ثمّ يواسي نفسه بمشاهدة شريط أحمر الحروف. قال فيما استرخى على الأريكة مُرهقا: قَدَمَاي…هرولتْ إلى آنية قدميه تحْضِرها، رَفعتهما بقليل من الجُهد منه وكثيره منها، وضعتهما فيها، أفرغتْ عليهما ماء دافئا هيّأته قبل ولوجه، أضافتْ قليلا من الملح وهو يتعقبّ حركاتها؛ يقتنص خطأ ما … هزّر أسه مستحسنا، حرّك قدميه في الماء استعذابا… تمدّد قليلا على الأريكة وهي تُدَلّك قدميه، ماإن فرغت أومأ إليها بطرف عينه،أسرعت بإحضار فنجان قهوته السّاخنة تُظهر له الابتسامة والولاء غير متأفّفة، وتسأله هل أُدَلّكُ رقبتك وكتفيك؟
كثيرا ما كان ردّه بعد تفكير إشارةً بيده إليها؛ أن بَاشِري!… إيماءات وإشارات لغته إلاّ قليلا؛ لا يقيم لها وزنا؛ كيفما تـفانَتْ، واجتهدت في خدمته، لاتغنم منه بابتسامة؛ غلّق أبوابه، أوصدها، ورحل في حضور جُـثّته الكامل… كم هو موجع ذاك البعد الذي يزداد شسعا كلّما رغبنا في القرب!… على أثوابه أن تكون نظيفة مَكويّة على أُهبَة لِاختيار أي واحد منها وقتما شاء… تنحني تمسح حذاءه صباحا، وهو يحدّد قبل أن ينصرف إلى مَتجره الطّبق الذي ستُحضّره سواء كان سيَحضر لتناوله أم لا.
فَتَرَ ماكان بينهما تدريجيّا، واضمحلّ…اتَّسَعتِ المسافة بينهما حَدّ هروب العينِ مِن العين… نزلتْ “مليكة” إلى رتبة الخادمة… يجمعهما سّقف البيت الواحد ليس إلاّ، وثلاثة من الأولاد أفلتهم الموت من بين عشرة خرجوا إلى الدّنيا على امتداد عشرين سنة انسلختْ من حياتها البائسة… رابـَها سلوكه المتصاعد سوءًا، فسألته الأنثى التي مازالت تسكنها ذات سَهو مِنها أين يقضي لياليه التي يَغِيبها عن البيت؛فارْبَدَّ وجهه كقطعة مِن ليل عاصف، ضربها بآنية الماء الدافئ الـمُعدِّ لقدميه؛ هَتَمَ رباعيتها، هشّم أنفها. يفتعل الشّجار كلّما شعر بجوعه المتنامي، مُتحسّرا على القدر الذي ساقها إليه… هي الخاسر الوحيد بعد خوض معركة تَدخُلُها عزلاء تعوّدت الخروج منها بكدماتٍ وجروحٍ وخُصيلاتِ شَعر اقتلعها من رأسها وهو يجرّها إلى الحمّام لِكتْم صراخها وتوسّلاتها تناثرت هنا وهناك، وبصاقٍ على وجهها… تتجمهر كلمات ما عاد لها سبيل إلى قلبه الـمُسيّج، و تتهافت على شفتيها فتبتلعها كخناجر تَـفْتِـكُ بفؤادها…
ــ تترجّاه: سَرِّحْني! لست أريد منك غير حرّيتي…
يجيبها واثقا بنبرة الحاقد النّاقم و ليس بينهما غير ماضٍ يشهد لها بالأصالة، و الصلاح؛ أحسنتْ عونه؛ ساندته بما استطاعت و بما لم تسطعه تكلّفا و إلزاما: أنتِ لي و لن أقبل أن تكوني لغيري و لا حتّى لنفسكِ…
“سرّحني” لفظ تدحرج من الطّلب إلى الرّجاء ثمّ استقرّ أمنية في نفسها قنطتْ بتوالي الأيام من تحقّقها… رضيتْ بحالها و ركنَتْ مَهدودة الرّكن لا تكترثُ لشيء تنتظر موتها أو موته … لا أسْوَد أشدّ حزنا من امرأة في انكسار!… فقدتِ الشّعور بما حولها لا تحبّ، لا تكره، لا تشتهي، لا تغضب لا تحلم باشتداد ثقل جثّة الحزن الجاثم على صدرها… شيئا فشيئا زاد ألمها عن طاقة تحمّلها و فقدت الوعي؛ تسير كمُخدَّر أو نائم، أو آليّ مُبرمجة على الطّاعة و الإنصياع و الرّضوخ في صمت مُتَـناه، وحده حمار يحمل على ظهره قنطار قمح مُشتهاه حفنة شعير يُشْبهها. لم يـَخِبْ حِدس الأنثى التي تُـحْتَضَر بداخلها؛ بعد أن اتّسعت تجارته و شملتِ التّحف المغربيّة، و المصريّة، و التّركية، و الآسيويّة إلى التّحف الخزفيّة المحلّية الثّمينة دخلتْ امرأة دكّانه ذات نزهة… ما أكبر الشّبه بينها و بين زهرة النّرجس!؛ اسم على مُسمّى، اسم من تلحين البلابل، عذبة كماء الينابيع، جميلة كنهار مشمسٍ من فصل الشّتاء… وجهها صغير مُدوّر، يتوسّطه أنف حُلوُ الأرنبة، في النّظر إلى عينيها الزّرقاوين متعة وفرح، صوتها طفوليّ شجيّ… أغارتْ “نَرْجِس”على جوارحه، زعزعت كيانه، و بات يحلم بها…راودها فتعفّفت، و تأبّت عليه، فاختطبها… وحيدة والديها أعادها قَـفَرُ رَحِـمها إلى بيت والدها بِلقب “مطلّقة لِعُقرها”، ردّ والدها خطّابا كثر قبله، ما رضي به إلاّ لأنّه غنيّ لن تتطلّع عينه إلى بيت مهترئ من غرفتين في الطّابق الأخير من عمارة في حيّ عتيق كتبه باسم ابنته، وما تزوّجها هو إلاّ رجاء ملء فراغ و نقص يسكنانه منذ زمن طويل ولم يعرف ماهيتهما، و لا استدراكهما… أعظمَ ما يطلبه منها عنده و أروعَ مُتَعِه بها أن تحشُوَ غِليونه و هي في ثوب نومها السّندسيّ الفُستُقيّ، وخصلات شعرها الذّهبيّ تهدّلتْ على كتفيها تَنُـوسُ، و هي تتهادى إليه في غُنج تَـحْملُهُ إليه وهو مُستلق على سريره الفخم، فيتلبّسـه شعور كأنّما حاز حُمْر النَّعَم؛ طقس يمارسه و إيّاها بعد يوم مُبتسم.. اكتمل له ما كان ينقصه ليُشبهَ تماما شِلّته… ما انفكّ في ارتقاء ظاهِره وسُفُولِ باطنه… امتدّت دائرة معارفه إلى دوائر السّوء… صاحَبَ ذوي البطون البارزة و البدلات السّوداء، و عشّاق اللّيالي الحامية. أغراها ببيع شُقّتها ولا حاجة لها بها وهي تقيم في داره الخاصّة لاستقبال خاصّة الأصدقاء، و إقامة الحفلات الصّغيرة على شرف أحدهم أو إحداهنّ… رفضتْ بيعها بدون نقاش كأنّها صمّام أمانها تستمدّ منها قوّتها و تستند عليها… شعر بتهديد هذه الأخيرة له و خطرها عليه، فألحّ عليها ببيعها دون جدوى… نالَ مِنها بعد جَهْد التفكير و التّقدير حيث اهتدى إلى إقناعها بالسّفر بثمنها خارج الوطن من أجل التّلقيح الاصطناعي رغم تأكيد الأطبّاء لها بعدم نجاح الأمر، لكنّها آثرت تكذيبهم و التّمسّك بحلم “الأمومة… ” ألا تتوقين إلى سماع كلمة ماما؟” “ألا تحلمين بهذا البيتِ تُردّد جدرانه صدى طفلنا؟” ” أحْلمُ بالظّفر منكِ ببنت تكون نسخة عنك تماما!”… “كم أنتِ قاسيّة يا نَرجس!”… “هل تـُقارنُ شقّتكِ بولد تحلُمين به؟”… “سيمضي العمر سريعا و تفوتك فرصة الحصول عليه”… تلك قصيدتة يُسمعها إياها إذا اجتمعا، يحنو عليها بها كأفعى الأناكوندا تحتضن ضحيّتها وتلفّها، تعتصر أنفاسها الأخيرة لعشاء آخر.
ترافقه إلى المطاعم الفاخرة لحضور مأدبات عشاء على شرف أحد المقبوحين من ذوي الأسماء العريضة الذين يصنعون أوجه المدينة… خَلع عنها ثوبها، و حِـيدَتْ عن دَيْدنها شيئا فشيئا؛ من التّعرّي على الشّواطئ إلى مرافقته إلى الحانات والمراقص… إذا أحسّ منها رَيْبا ذكَّرها بالولد الذي تحلم به… سرعان ما فقد هذا الحلم بريقه؛ فأيّ أمّ هذه التي سيفخر بها ولدها؟!… ذات عشاء انضمّتْ و زوجها إلى طاولة زُيّنتْ بأمّهات النجاسات لتسهيل الهضم، تَحلَّق حولها ثلاثة من أشباه قرود “البُونُوبُو” إناثُهم عملة للحرب و للسّلام، شُيوع بينهم، سود الطّواقم، سُطوع الأضواء مُنعكِس على أذقانهم، ترافقهم ثلاث حسناوات… تفَحَّص أطوَلهم يدا ثنايا حُسن “نرجس” بنظراته غير البريئة من البراءة و قال فيما انسابتْ يده إلى خصرها: أَهذه لك؟ أليس لها توأم؟… أنا أريده!… نظرتْ إلى زوجها مُطأطئة الرّأس.. احمر وجهه، اتّسع منخراه، هَمّ بالوقوف… جذبه الجالس بقربة من طرف سترته و أجلسه بالقوّة خفية عن صاحب اليد … ردّدَ يُهامس غَضبه، يُـمْسِك بِـجبينه و يَفْركُه يَـحسدُ خنزيراً يُسلّم أنْثاه: متى سأتخلّص من عادتي هذه التي أدفع ثمنها في كلّ مرّة غاليا؟… تتمنّى لو تتمكّن من العودة إلى الوراء لتَسْطُر لحياتها مَسار الرّاهبات… و من قِصّر يدها أقنعت نفسها أنّه لا مفرّ لها منه إلاّ إليه، و قصارى ما بيدها الـمُضيّ إلى الأمام بخطى متثاقلة… مالتْ و لانتْ قليلا قليلا إلى الرّضا بحالها و الإذعان إلى طلباته تُدرك مصيرها كَفِيل يَقْتَفيهِ الدّرب إلى مَقبرة الفِيَلة… زهرة بريّة، “نَرْجسة” رَبَتْ بين أحضان السّواقي الصّافية روّضها إصّيص صدئ ضيّق أخمد في نفسها حبّ البراري و خضرة الأرض و زرقة السّماء… يصطحبها ليلا كما في النّهار إلى سهراته مع نُدمائه، يفاخرهم بجمالها الـمُسْبي و قَدّها الأخّاذ و هم برفقة رفيقات بالدّفع الـمُسبق…
حِين تتحوّل مشاعرنا نحو الآخرين إلى أعواد ثقاب تضيئ الطّريق المظلم إلى مآربنا المشبوهة تَستهلك زَحْفاً في كلّ الاتّجاهات ما كان بيننا من ودّ و ألفة و تستبدل عطر جميل الذّكرى بالحسرة و الوِحشة، فنَفْقِد القدرة على شمّ الرّوائح العطرة… كلّما اشتدّ جوعه؛ نَهَمَ من لحم وجهه… امتطى حُلمها يَسير بها إلى غاياته كناقة طاوِية عِشرين مُدّتْ أمام عينيها جَزَرة…كثيرا ما أبقاها للسّهر مع أحد كُبرائه ليَعْقد من وراء دَياثةٍ صفقةً خطّط لها أسابيع… الذّهب، القنب الهندي، الخمور المعتّقة، قطع غيار السّيارات و الشّاحنات؛ و أشياء أخرى ضمن دائرة هَوسه…
و تناول أخيرا قطعة اللّحم المسمومة … جَـمْعُ المال الذي حُرِمَه هَوَسُه ، غاية جَـمْعِهِ له الجمْعُ، و من سَطوةِ هَوَسه عليه استغبى في آخر صفقة له شركاءَه و آثر الانفراد بعائدها بإيهامهم بتعرّضه للسَرقة، بعد أن دفع لِذي سوابق ،كثير التّردّد على حانته المفضّلة ليضربه و يكسر زجاج سيّارته و هو في طريقه إلى بيته و لم يكن يعلم أنّ الرّجل هو ذاته العَيْن التي وضعها كبيره الأوّل عليه، ثمّ أخذ المال إلى بيت أولاده حيث ظنّ أنّ لا أحد منهم يَعرف عُنوانه… لكنّ عيونهم كانت واسعة الإحاطة؛ تعقّبوه و اقتحموا عليه بيته مُقَنّعين… بعد مراوغة دامت لأكثر من ساعة و هو يرفض دلّهم على مكان المال مدّعيا الجهل بما يطلبون، رماه أحدهم برصاص مُسدّس صامت و هو يركض مُكمّم الفم نحو المرحاض ليجلبه و قد خبّأه في خزّان الماء، فسقط مضرّجا بدمائه، رأسُه داخل الحوض التّركيّ لبيت الخلاء، غرغر في القذارة، وفاضتْ روحه في النّجاسة… تعلّم قواعد اللّعبة و لم يُتقنها… شتّان بين ” الدّامَّة” و ” الشّطَرَنج”. بعد مرور أسبوع على موته و ثلاثة أيّام من دفنه استأجرت”مَليكة” سيّارة أجرة إلى المقبرة حيث الشّاهِدان على مرور زوجها على الدّنيا، تحمل صَاعاً من “البلوّط” أحبّ الأشياء إلى نفس والد أولادها… في ذات اليوم وبغير تواعد مُسبق وبعد أن توارتْ عند قريبة لها قصدتْ “نَرجِس” المقبرة في هيئتها الأولى تريد دليلا على موته لتُصدّق… الْتقتْ هناك “بِـمَليكة”، وفاض صَدْراهما بـوشائج أسْرارهما، و مَضيتا إلى مستقبل سعيد لم يولد بَعْد، وقد آن مَـخاضه يَـستفزُّ فرحا لا سبيل له إلا أن يجمع بينهما.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى