امرأة من دخان
في ذلك الصباح البارد، خلوت إلى زاوية من المقهى، في مكاني المفضل و طلبت كأسا من الماء و قهوة ساخنة، سجل النادل طلبي و انصرف ليعود مرة أخرى في لمح البصر حاملا الطلبات، وضعها على الطاولة و انصرف دون أن ينبس بحرف واحد.
جلست أرقب الحركة من حولي بهذا المقهى العتيق، و الزبائن بين غدو و روحة، بين رشفة و رشفة كنت استرق النظر إلى الجريدة من حين لحين و أطالع عناوينها بغير اهتمام،كنت أنتظر قدوم سيدة ليست لدي سابق معرفة بها، كانت قد اتصلت بي في مكتبي في نهاية الأسبوع و لحد هذه اللحظة أجهل من أين جاءت برقم جوالي
الحركة بدأت تخف في هذا المقهى الذي لم يكن حكرا على الرجال فقط، بل كانت تقصده الفتيات بصحبة صديقاتهن و أصدقاءهن من الرجال أيضا، و صرت أستطيع سماع أغنية أم كلثوم التي كان يبثها المذياع المرفوع على احد الرفوف الخشبية المزينة و هي تؤدي بروعة أغنية “انت عمري”
هذه الزاوية البعيدة و المتوارية عن الأنظار كانت المكان المفضل لهؤلاء الفتيات حتى تتمكنن من الانزواء و الابتعاد عن النظرات المتلصصة ، فقد تصادف إحداهن أخا ، جارا أو قريبا يشي بها لعائلتها، وظل ذلك الخوف يستوطن بقلوبهن تغير الزمن و لكن العقليات البالية بقيت هي هي لم تتغير، تبا لتلك الأفكار المتحجرة ، كنت أكره الأحكام المسبقة و ظلم الآخرين
تحاشيت النظر إلى معصمي و إلى الساعة الأرجوانية اللون حتى لا أستعجل الرحيل و حتى لا أشعر بالضجر أيضا، و لكن بدا لي أنني انتظرت طويلا و مر كثير من الوقت من حولي
حينها انتصبت واقفا في حركة واحدة و هممت بجمع أشيائي المبعثرة، أشار إلي النادل من بعيد وبحركة عفوية و قال لي “هناك سيدة تسأل عنك”
عاودت الجلوس و رميت كل ثقلي على ذلك الكرسي الخشبي، نظرت ناحية النادل لكنني لم أتبين ملامح تلك السيدة جيدا ، فالمكان لفه الدخان و صعبت معه الرؤيا ، لكنها عندما دنت مني أكثر اكتشفت أن هذه السيدة كانت ترتدي نقابا أسودا غطى كامل وجهها و لم تظهر منه سوى عيناها الخضراوان
دعوتها للجلوس بمحاذاتي، و قبل أن أبادرها بالسؤال و كأنها كانت تعلم ما يجول في خلدي
“أكيد أنك تتساءل و تود معرفة من أكون؟؟ ، لكنني لن أفصح لك عن هويتي و كل ما استطيع قوله لك اللحظة هو أنني أعرفك تمام المعرفة، و أنت تعرفني أيضا من خلال رسائلي التي كانت تصلك إلى بريد المجلة والتي كنت تجيبني عنها بكل لباقة و بحكمة أيضا، فوقعت أسيرة غرامك و عشقت طريقتك في الكتابة حتى قبل أن أعرف ملامح وجهك
لم أجد أمام تلك الاعترافات ما أجيب به تلك المرأة الغامضة و الواثقة من نفسها بشكل رهيب ثم استطردت قائلا
“لكن كانت تردني الرسائل من النسوة و بالآلاف، فأي واحدة منهن أنت؟؟”
“كنت دائما أوقع في آخر رسائلي بالحائرة هاء”
“آه الآن تذكرت، أنت من كانت لديك مشكلة مع زوجك الذي يكبرك بعشرين سنة، أليس كذلك؟”
“نعم أنا هي ، بقيت وفية لوعد التواصل مع المجلة التي لم تنقطع صلتي بها و لا بك عن طريق البريد منذ سنوات ”
صمتت لحظة ثم قلت لها و معالم الحيرة بادية على وجهي
“هل لك أن ترفعي هذا النقاب لأعرف إلى من أتحدث؟”
فكرت في صمت و كأن حوارا داخليا بدأ بينها و بين نفسها، ثم تناولت حقيبة يدها الجلدية الداكنة السواد و فتشت بداخلها ، ثم أخرجت منها علبة السجائر و قالت حسنا و رفعت نقابها، وضعت السيجارة بين شفتيها و أشعلتها و أخذت نفسا طويلا و دخنتها بتوتر بائن
كانت شقراء، جميلة الملامح عيناها شديدتا الخضرة و شفتاها حبات كرز ووجهها دائري يشع أنوثة
سحبتني من تفكيري و قالت بجرأة “لا شك انك تتساءل كيف أجرأ و أدخن أمام الملاء و أنت اعلم بواقع النساء المدخنات في بلادنا و نظرة المجتمع القاسية إليهن”
التزمت الصمت عندما خانتني الأجوبة في لحظة ثم قلت لها ليس من عادتي إصدار الأحكام و لا من عادتي مجالسة امرأة تدخن و فوق ذلك ترتدي النقاب
هذا لا يلغي ذاك ردت هي بثقة و أضافت ما أكثر أوجه الظلم للمرأة، المرأة تحمل هموما في داخلها و هي مثقلة بالأوجاع مثل الرجل، فما الفرق إذا كانت تدخن قل لي بربك؟
“لا ، لا يوجد فرق على الأقل في نظري”
“كنت أدرك أنك لست ككل الرجال”
نظرت إليها و رسمت ابتسامة على شفتي و قلت لها هل هذا إطراء أم ذم؟
“لا هذا و لا ذاك، إنها و لا شيء سوى الحقيقة”
توقف سيل الحديث بيننا للحظة ، وواصلت هي في تدخين السيجارة تلو الأخرى بنشوة ، ثم فاجأتها بسؤالي
“هل ترغبين في شرب شيء ما؟”
“كأس من البارد فقط، أشعر بجفاف في حلقي”
طلبت من النادل الإتيان بكأس ماء بارد، فجاء بها للتو، ثم التفتت إلى تلك المرأة الغامضة الجالسة في مقابلتي و سألتها “هل لي أن أعرف اسمك؟
لا تسألني عن اسمي ، ل اكتفي فقط بالحائرة هاء على الأقل في الوقت الحالي ، فهناك أشياء لم يحن الموعد للخوض فيها بعد
فلما طلبتي مقابلتي إذن؟
“لأعرف كيف يفكر الرجل الذي ظل يجيب عن رسائلي منذ أزيد من خمسة عشر سنة،رجل ظل يسكن مخيلتي و هواجسي، و تمنيت لو كان الرجل الذين زوجوني به بالقوة يشبهه في إحدى خصاله”
سألتها بتردد “هل لا زلت على ذمته؟”
“نعم و لكنه حاليا في بلدة أخرى عند زوجته الجديدة فبعدما أذاقني المرارة لسنوات هاهو يفاجئني بالزواج من أخرى ، غريب أمر هذه الدنيا أليس كذلك؟”
نظرت إلى ساعة يدها ، ووقفت ثم أطفأت السيجارة الأخيرة بحركة توحي بكثير من النرفزة و قالت
“دعني أراك مجددا لا تنسى أن الحديث بيننا لا يزال في أول بداياته”
أسدلت نقابها و غادرت المقهى، و تركتني بين حيرة و ذهول في قصة امرأة قرأتها عبر رسائلها ثم جاءت تترجاني و تطلب مني لقاءها مجددا و هي التي رسمتني أيقونة في مخيلتها زينتها بمشاعر الإعجاب
الوقت كان متأخرا حين عدت إلى بيتي متعبا مرهقا، لم تأتني الرغبة في تناول العشاء الذي اعتدت في السابق أن أشتريه في طريق عودتي، فتحت باب الشقة كان الفراغ و الوحدة في انتظاري
نزعت معطفي و ألقيت بجسمي المرهق على الأريكة الجلدية التي ضاقت بجلوسي عليها لساعات بل لسنوات
داعبني النعاس و استسلمت إلى إغفاءته و قد تبعثرت الأشياء من حولي ، جرائد ، زجاجات الماء الفارغة و بقايا “البيتزا” التي انبعثت منها رائحة الحموضة
كان ذلك عالمي الذي لم يلجه احد سواي، عالمي السري ، و لربما الجانب المستتر من شخصيتي الخفية عن من لا يعرفني عن قرب، كنت قليل الأصدقاء و كان العمل بالمجلة يأخذ كل وقتي، كنت أجلس بالساعات خلف مكتبي أخربش في تلك الأوراق البيضاء محاولا أن أجد موضوع أكتبه و يكون جديرا بالقراءة
كنت أعلم أن عشاق كتاباتي كثيرون بدليل تلك الأكوام من الرسائل التي تصلني بشكل يكاد يكون شبه يومي
استسلمت لإغفاءة قصيرة حتى رن هاتفي الجوال فجأة، سحبتني رنته القوية من غفوتي بعنف، رفعت الهاتف إلى أذني لأستمع إلى صوت المتحدث فلم أسمع سوى صوت أغنية لأم كلثوم فأقفلت الخط ضنا مني أنه أحد المجانين ، كانت عقارب الساعة تشير إلى الواحدة و النصف ليلا، تسكعت طويلا في الشوارع اليوم على غير عادتي
رن الهاتف مرة أخرى و كان الرقم غير ظاهر، ترددت قبل أن أرد فاستمعت إلى نفس الأغنية “انت عمري” لكوكب الشرق، ثم صوت امرأة تسألني كيف حالك
أجبت من المتصل؟
أنا “الحائرة هاء”، لا شك أنني أزعجتك باتصالي في هذا الوقت المتأخر
لا أبدا فقط نمت قليلا من فرط التعب و الإرهاق
آسفة سأتصل بك لاحقا أعتذر
أقفلت الخط و استيقظت أنا من غفوتي وولجت إلى الحمام ، فتحت صنبور الماء الساخن وولجت و تركت الماء ينهمر على كامل جسدي المرهق و أخذت حماما عله يخلصني من ذلك التعب
خرجت بعدها و ألقيت نظرة على الثلاجة ، كانت فارغة إلا من زجاجة بيرة باردة ، فتحتها و شربت نصفها ثم توجهت إلى المكتب كعادتي وسحبت عددا من الأوراق و أخذت في التفكير عن ماذا سأكتب في العمود الأسبوعي، تلاطمت الأفكار في مخيلتي و لم أستطع التركيز .
عادت إلى مخيلتي صورة تلك المرأة التي ترتدي النقاب، صور ملامح وجهها و عينيها و شفتيها و كل تفاصيل جسدها الذي لم أر منه إلا الجزء القليل
تناولت علبة سجائري، فتحتها و أشعلت واحدة و شرعت في تدخينها بلذة كعادتي، و انطلق قلمي يحاول أن يجد و يشق له طريقا على صدر تلك الورقة البيضاء المفتوح
لم ادر كم استغرق ذلك من الوقت و كتبت و كتبت و غصت في بحر تلك الحروف، ثم احترت في وضع العنوان ن ثم كتبت “رسالة من القدر”، أعدت قراءة فحوى ما كتبت ، ثم وضعت تلك الأوراق في محفظتي التي اعتدت أن تصطحبني في كل جولاتي و تحقيقاتي الصحفية
في صباح اليوم التالي استيقظت متأخرا، متعبا، غادرت بيتي باتجاه المجلة، استقبلني رئيس التحرير كعادته غاضبا و قال لي بنبرة حادة
“دائما تتعمد المجيء متأخرا”
“لا فقط شعرت ببعض التعب أعتذر سيدي”
سحبت الأوراق من محفظتي و ناولتها إياه، ألقى نظرة خاطفة ثم أشار إلى السكرتيرة خذيها إلى القسم التقني ليشرعوا في كتابتها، سألقي عليها نظرة قبل أن تنشر
ذهبت إلى مكتبي و جلست أمام الحاسوب لألقي نظرة على ايميلاتي ، لم يصلني أي شيء، و ماهي إلا دقائق حتى جاءني الساعي برسالتين ، أعترف أنني لست من مناصري التكنولوجيا و أشعر بفرحة عندما أستلم رسالة من قرائي الأوفياء
الرسائل أشعرها أكثر حميمية من الايميلات التي تردني و تمكنني من أن ألامس مشاعر و قلوب مرسليها
قرأت تلك الرسائل وجهزت الردود لكل واحدة منها، و بذلك تخلصت من تعب الصفحة الأسبوعية
مر أسبوع كامل من العمل المرهق و الشاق، و كان علي أن أحزم أمتعتي و أسافر إلى ولاية تمنراست في أقصى الجنوب لزيارة أحد أقربائي الذي لم أره منذ أزيد من سبع سنوات وأغتنم الفرصة لأقوم بجولة سياحية ستبعدني لأسبوعين عن جو العمل الخانق.
جهزت أمتعتي و قدمت طلبا لرئيس تحرير المجلة ادعيت فيها أن والدي مريض جدا ، فسمح لي بأخذ إجازة لمدة ثلاثة أسابيع لكنه اشترط علي في المقابل إرسال بعض المواضيع على بريده الالكتروني فوافقت على مضض
سافرت في اليوم التالي على متن الطائرة و كنت قبلها قد مكثت ساعتين في مطار “هواري بومدين الدولي”، كعادتها سجلت الطائرة تأخرا بنحو ساعة و نصف شعرت خلالها بالملل و مزيدا من الإرهاق
رن هاتفي الجوال هممت بالرد فاءذا بصوت أنثوي جميل يخاطبني برقة
“عمت صباحا سيدي”
“عمت صباحا من معي”
“أنا “الحائرة هاء” هل من الممكن أن نلتقي؟”
“في الواقع أنا الآن غير موجود بالعاصمة سافرت في مهمة”
“مسافر ؟؟”
أحسست من ردها بخيبة أمل كبيرة و حزن ثم استطردت قائلة
“هل ستتأخر؟”
“أسبوعين أو ثلاثة على الأغلب و سأعود للعاصمة”
“هل يمكنني أن اعرف إلى أين ستسافر؟”
“إلى تمنراست”
“تمنراست؟؟”
“نعم…….”
حسنا اتصل بي بمجرد عودتك من السفر، هذا هو رقم جوالي سجله عندك
أقفلت الخط و في المطار أعلن عن قدوم الطائرة وأمرنا للتوجه إلى بهو المسافرين و ركوب الحافلة التي كانت ستقلنا إلى الطائرة
ربطت حزام الأمان بعد أن استمعت إلى التعليمات وكنت قد أخذت لي مكانا في الأمام ، شعرت باء قلاع الطائرة رويدا رويدا و تحليقها في الجو
في تمنراست في هذا الوقت بالذات ينظم موسم “الأسيهار” و الذي هو عن تظاهرة ثقافية جميلة و فريدة من نوعها تمتزج فيها المعارض مع الرقصات و الأهازيج الشعبية للطوارق و رقصاتهم الجميلة و المعبرة
سيجعلني ذلك أنسى جو العمل و ضغوطاته و الوجه العابس لرئيس التحرير
ماهي سوى أربع ساعات حتى بلغت الطائرة مطار تمنراست ، و هبطت الطائرة على المدرج ، و فتح الباب و استقبلني هواء حار و أنا أنزل من سلم الطائرة
لم تكن هناك أعداد كبيرة من المسافرين ، تمنراست لم أزرها منذ أزيد من عشر سنوات ، لقد تغيرت نوعا ما و باتت تشهد حركة كبيرة جعلت الحياة تدب في شوارعها و أزقتها و بناياتها الرملية
طيبة أهلها هي الشيء الوحيد الذي لم يتغير
اتصلت بقريبي لأخبره بوصولي و لم أكن أرغب في أن انزل عليه ضيفا بل فضلت حجز غرفة في الفندق الوحيد بالمدينة بعيدا عن الضجيج و الضوضاء و كنت بالإضافة إلى ذلك أريد أن أشعر بالراحة، لقد اعتدت على الوحدة
جاء قريبي “ميمون” إلى الفندق و اقسم بأغلظ الأيمان أن أصطحبه إلى بيته على الأقل هذه الليلة
وافقت أمام إلحاحه المخجل، في بيته المتواضع و المبني بسعف و جذوع النخيل لا شيء تغير، ارتحت في قاعة الضيافة، أحضر لي عباءة ترقية خضراء و شاش أبيض و قال لي
“خذ ارتدي هذه ستقيك من الحرارة و تخلص من لباسك الإفرنجي لتشعر بالراحة أكثر فالجو حار هنا”
انزويت في إحدى الغرف و ارتديت تلك العباءة الفضفاضة و عدت إلى قاعة الجلوس بدا الليل في إسدال رداءه الأسود و بدأت درجة الحرارة في الانخفاض نسبيا
اختفى قريبي لحظة زمن ثم عاد بجفنة الكسكسى متبوعا بصينية الشاي
تناولنا العشاء سويا و قال لي بفضول
“كيف جاءتك فكرة زيارتي؟”
“اعترف لقد غبت طويلا إنها مشاغل العمل”
“كيف هي أحوال العاصمة؟”
فوضى و ضجيج لا ينتهي، صرت اشتاق إلى هذا الهدوء انتم محظوظون حقا، و أنت كيف هي أحوالك؟
أنا الحمد لله رزقت بطفل آخر منذ شهرين، صار عندي الآن ثمانية أولاد ذكور، و أنت؟؟
“أنا؟؟؟،……لم أتزوج”
رمقني بنظرات ساخرة مستهزئة أشعرتني بالحرج
“مستحيل ،أنت قاربت الخمسين و لم تتزوج بعد؟”
“لقد ألفت الوحدة يا عزيزي”
“الوحدة قاتلة صدقني”
“دعك مني و قل لي هل ذهبت إلى معرض “الأسيهار”؟ ،كيف هي الأجواء هناك؟”
“رائعة و حركة السياحة نشيطة في هذا الموسم”
“جيد سنذهب معا غدا صباحا”
“لا أفضل أن نذهب في المساء بعد غروب الشمس، كم ستمكث هنا؟”
“أسبوعين أو ثلاثة لست أدري و لكنني سأبقى بعض الوقت لأنني أشعر بالتعب”
“حسنا سأتركك ترتاح”
“و لكنني سأقضي بقية الأيام في الفندق لأنني أفضل الوحدة و هناك يمكنني التواصل مع المجلة عبر شبكة الانترنت”
” الم تقل لي بأنك في إجازة؟”
“لا هي ليست إجازة بالمعنى الأصح و الدقيق للكلمة ، ووجود موسم “الأسيهار” يحتم علي إرسال بعض المواضيع للمجلة ، كان هذا شرط رئيس التحرير ليسمح لي بالمجيء إلى هنا”
في صباح اليوم التالي غادرت بيت ميمون قاصدا الفندق أين حجزت غرفة ، أخذت حماما باردا و بقيت طيلة النهار في الغرفة و لم أغادرها إلا بعد غروب الشمس، حيث وجدت ميمون في انتظاري في غرفة الاستقبال بالفندق الذي كان يعج بالسياح الأجانب
أخذت آلة التصوير الرقمي و حافظة أوراقي و توجهنا إلى أجنحة
معرض”الأسيهار”، تنوعت المعارض و الألوان و الأجناس و اللغات في مساحة ذلك المعرض و كان المشهد رائعا،التقطت بعض الصور لمختلف الأجنحة و في الليل كان الموعد قد ضرب للسهر على أنغام “الامزاد” و “التيندي” و زغاريد الترقيات بزيهن التقليدي الجميل و تسريحات شعورهن الغريبة و الجميلة في آن واحد.
استمرت السهرات إلى ما بعد منتصف الليل تخللتها رقصات الحرب لشباب أبدعوا في رسم لوحات راقصة جميلة، لم أفوت فرصة واحدة و التقطت الكثير من الصور ، كان قريبي ميمون يشرح لي جانبا هاما من تلك التقاليد مكنتني من جمع بعض المعلومات لكتابة مقال لأرسله للمجلة.
عدت إلى الفندق في وقت متأخر و قد نال مني التعب مناله، لم اعد أملك القدرة على الكتابة و لا على تناول العشاء، اكتفيت بكأس شاي و خلدت للنوم متعبا و خائر القوى.
تسللت الشمس في صباح اليوم التالي من خلف الستائر الأرجوانية و شعرت بحرارتها على وجهي ،استيقظت غيرت ملابسي و طلبت فطور الصباح ن و لم أبرح الغرفة طيلة النهار ، كان لزاما علي ا، أرسل بعض المقالات إلى المجلة ، فتحت الحاسوب و انطلقت في الكتابة التي أخذت مني وقتا طويلا و بعدها نزلت إلى قاعة الاستقبال أين توجهت إلى فضاء الانترنت بالفندق و أرسلت المادة و الصور و عدت مجددا إلى غرفتي أين استسلمت لنوم عميق
في الليل جاءني ميمون بصحبة ابنه الأكبر وعرض علي الذهاب إلى مكان رائع يأتي إليه السياح بكثرة، رحبت بالفكرة و توجهنا على متن سيارة “لاندروفر” إلى بحيرة “أسكرام”
سرنا حوالي ساعتين و نصف، كانت الرمال على مرمى النظر و الجو بارد، تسلل الهواء المنعش من النافذة، عندما اقتربنا من المكان شيئا فشيئا لاحت لنا الأضواء من بعيد، توقف بعدها محرك السيارة عن الدوران و ترجلنا أنا و ميمون من السيارة و توجهنا ناحية تلك الحشود المجتمعة حول البركة المائية ، منظر السماء المرصعة بآلاف النجوم كان رائعا ،أخذت مكانا لي بين السياح الأجانب، فرنسيين ، ايطاليين وآسيويين ، امتزجت اللغات و كأن ذلك المكان أضحى بقعة من العالم
أقيم حفل على شرف السياح امتزجت فيه الأنغام المحلية بالموسيقى الغربية ، استمر الحفل و أقيمت مأدبة شواء على شرف الحضور
المشهد كان آسرا و المتعة في ذروتها ، التقطت بعض الصور و أجريت بعض الأحاديث الصحفية مع السياح الذين استرسلوا في الكلام و بشغف كبير،قضينا ليلتنا في تلك الأجواء الجميلة الساحرة
عدت في اليوم التالي و بعد أن فرغت من الكتابة ، خرجت في جولة إلى أسواق المدينة
في الظهيرة اتصل بي قريبي ميمون و قال لي بأن هناك رحلة إلى “الزاوية التيجانية” فقلت له بأننا سنلتقي هناك
تقرر الذهاب على الساعة الخامسة و النصف، أعترف بأنني لست ممن يملكون قناعات دينية ثابتة وواضحة باستثناء إيماني بالله
رن هاتفي الجوال فاعتقدت للوهلة الأولى أن المتصل هو قريبي ميمون ن لكن تفاجأت برقم “الحائرة هاء” تتصل بي، تسلل إلى أذني صوتها الرقيق
“مرحبا كيف هي أحوالك؟”
“أنا بخير و أنت؟”
“لست بخير أنا متعبة جدا…..”
“ماذا حدث؟؟”
“لا شيء فقط متعبة نفسيتي غير مرتاحة، أحتاج إلى أحد ما لأتحدث إليه و لا أعرف أحد غيرك، لقد قتلتني الوحدة و الانتظار، أريد الهروب إلى أبعد نقطة في هذه الأرض”
صمتت قليلا ثم أقفلت الخط
بدرت إليها فكرة السفر إلى تمنراست، فاستعدت و اتصلت بالمطار لتحجز تذكرة و لحسن حظها كانت في أواخر الأسبوع ،فقامت بالحجز و استعدت لمغادرة العاصمة بمفردها و المجيء إلى تمنراست، ظل زوجها الذي ارتبط بأخرى نادرا ما يأتي لتفقد أحوالها ، فقد نسي أنه ترك زوجة تحملت منه المرارة وحدة المزاج خمسة عشر سنة ، شعرت في قرارة نفسها أنها بحاجة إلى الخروج من حالة الاكتئاب الذي أخذ في التسلل إلى أعماقها و معه أخذت زهرة شبابها في الذبول
لم تكن هي قد تجاوزت الثامنة و العشرين في حين كان زوجها قد تخطى السبعين من العمر بشهور، جيل كامل كان يفصل بينهما و شعرت بأنها و بسبب ذلك الزواج المدبر من قبل عائلتها قد ظلمت كلمات صديقتها منال ترن في آذانها حين قالت لها “استعيدي أنوثتك، فأنت بحاجة لرجل يشعرك و يحسسك بها”
نظرت إلى وجهها الشاحب في المرآة و قالت و هي تحادث نفسها “سأطعنه كما طعنني”
جهزت حقيبة ملابسها،و أعادت ترتيب أشياءها ، ارتدت ملاءتها السوداء و أسدلت نقابها ثم رفعت السماعة و اتصلت بسيارة أجرة ظلت ترقب مجيئها من النافذة،انتظرت ساعة من الزمن و عندما رأت سيارة الأجرة تتوقف أمام مدخل منزلها ، همت بالخروج و أغلقت الباب باء حكام و نزل السائق و هم بوضع الأمتعة في صندوق السيارة، ركبت هي في الخلف و قالت للسائق
“إلى المطار من فضلك”
انطلقت سيارة التاكسي باتجاه المطار بعدما تلافى سائقها الشوارع الرئيسية، و بلغت المطار الذي اكتظ بالمسافرين، فتشت بين الوجوه لكنها أحست بالطمأنينة أن زوجها غير موجود هنا و هو الذي كان كثير السفر إلى باريس و لندن بحكم طبيعة عمله كرجل أعمال
كانت تجازف بمغادرتها البيت و بالسفر من دون حتى أن تخبره و لم تكن قد تجرأت على فعل ذلك من قبل ،لكنها أحست بشيء ما يدفعها إلى القيام بتلك الخطوة و رغبة جامحة في الانتقام من خيانة زوجها لها، زوج لم تشعر بحبه يوما، حتى في تلك اللحظات التي كانت تحتاج فيها لقليل من الحنان و العطف، تلك اللحظات الحميمية ، و أدركت بمرارة للمرة الألف أن علاقته بها كانت علاقة سرير فقط و كان ذلك يؤلمها و يعذب روحها المرهقة.
لم يطل انتظارها في بهو المطار عندما أعلن عن استعداد الطائرة للإقلاع باتجاه تمنراست، وقفت و سحبت حقيبتها و استظهرت التذكرة و استقلت بعدها الطائرة، استسلمت للنوم بعدما ربطت حزام الأمان.
وصلت الطائرة على الساعة السابعة مطار تمنراست، نزلت و أفواج السياح في مدينة لا تعرف فيها أحدا و لم يسبق لها المجيء إليها مطلقا
“سألت إحدى السيدات هل يوجد فندق هنا؟”
“طبعا ردت محدثتها سنذهب إليه، رافقي أفواج السياح”
ركبت حافلة قادتهم إلى الفندق و هناك حجزت غرفة بمفردها، استلقت عل السرير متعبة ثم قررت الاتصال بالصحفي الذي نسيت اسمه و لكن ظلت تحتفظ بملامحه التي تطلعت إليها منذ اللقاء الأخير
“رد عليها قائلا كيف حالك هل أنت على ما يرام؟”
“أنا هنا في تمنراست وصلت منذ قليل هل يمكن لنا أن نتقابل مجددا؟”
“كيف وصلت إلى هنا، متى، و لماذا ، مع من جأت؟؟؟”
انهال عليها بوابل من الأسئلة فردت عليه بجملة واحدة ستعرف كل شيء عندما نلتقي
“أنا موجود بالزاوية التيجانية سنقضي الليل هنا حتما مع فوج السياح، سنلتقي غدا في المساء”
أقفلت الهاتف و أخذت حماما لتزيل به الإرهاق ثم جلست تفكر ، أخذت سيجارة دخنتها و قد شعرت بقليل من التوتر ثم ارتدت ملاءتها و أسدلت النقاب على وجهها و نزلت إلى قاعة الاستقبال و سألت أحد الموظفين بالفندق
“هل هناك إمكانية للذهاب إلى الزاوية التيجانية؟؟”
“نعم ممكن هناك فوج من السياح سيتوجهون بعد قليل إلى هناك”
“هل أستطيع الذهاب معهم؟”
“نعم بالتأكيد انتظري هنا سيدتي ، سأرتب كل شيء”
اختفى الموظف ليعود بعدها و أشار إليها من بعيد فوقفت و قال لها خذي مكانك بالحافلة ستنطلق بعد قليل
رفعت نقابها و جلست بمحاذاة النافذة و أخذ السياح في التوافد و انطلقت الحافلة باتجاه الزاوية التيجانية في أطراف المدينة، الليل كان قد حل و بدا الجو باردا، لم تبين المرأة الأماكن حيث كانت المناظر كلها تتشابه على طول الطريق
عندما وصلت الحافلة إلى مقر الزاوية سمعت أهازيج و أصوات و شاهدت حلقات الرجال بلباسهم الأبيض و قد أخذوا في تلاوة القرآن فيما رقص رهط آخر في مكان غير بعيد على وقع البارود و نغمات المديح في صف واحد
منظر رائع و مشهد روحاني رائع أحست معه بالراحة ، أخرجت جوالها و اتصلت مجددا بالصحفي لكن المكالمة لم تكن لتصل إليها بشكل واضح ، بحثت عنه في صفوف الرجال و بين الحشود المجتمعة و استطاعت أن تلمحه من بعيد و هو يهم بالتقاط الصور فتقدمت نحوه وسط تلك الأمواج البشرية الهائلة
عندما وصلت و اقتربت منه أسدلت نقابها و قالت له لقد وصلت منذ ساعتين
التفت إليها، شعر بالدهشة، سحبها من يدها و انزوى بها في مكان بعيد عن ذلك الضجيج و الصخب
“كيف استطعت المجيء بمفردك إلى هنا أيتها “الحائرة هاء”؟ ، لا اصدق و أنا أراك أمامي اللحظة؟
“معجزة أليس كذلك؟”
“بالطبع إنها معجزة حقا”
“خذني من هنا”
“إلى أين تريدين الذهاب و قد انسجمت أنا مع هذه الأجواء الروحانية الرائعة”
“خذني إلى مكان لا يكون فيه سوانا”