ط
مسابقة القصة القصيرة

بائعة الاعشاب..مسابقة القصة القصيرة ..بقلم / حنان رحيمى من لبنان

حنان رحيمي
لبنان
مسابقة القصة القصيرة
“بائعة الاعشاب”
009613765912
بائعة الأعشاب
ارتال من السيارات لا تتوقف، طالت وقفتي “كم أصبحت أكره عبور الشارع من ضفة إلى ضفة”.. سائقو السيارات هذه الأيام ينهبون الشوارع وكأن الوقت يطاردهم.
على الجهة المقابلة من الشارع كانت تقف امرأة عجوز، تحمل أكياساً كبيرة.. “مسكينة كيف ستقطع الشارع بهذا الحمل الثقيل!”…
خفّتْ حركة السيارات قليلاً “جاء الفرج” تقدمتُ عدة خطوات سريعة، المرأة أيضاً استغلت الفرصة وتقدمت بخطوات بطيئة، تجر أكياساً وكأنها تجر معها سنين عمر كامل..عجوز هرمة ، تبدو قد تجاوزت الثمانين من العمر.!
التقينا وسط الشارع، أمسكتُ بها لأساعدها بالوصول إلى الضفة الأخرى “لم يكن هناك وقت لتناول الأكياس منها”، ما كدنا نصل إلى الجهة المقابلة حتى أفلت من يدها أحد الأكياس.. داسته عجلات شاحنة مسرعة.. خفق قلبي هلعاً. كان من الممكن أن نكون أنا أو هي مكان هذا الكيس “سيء الحظ”..
صرخت المرأة وكأن الذي دُهس شخصاً عزيزاً عليها، عادت أدراجها إلى الخلف في محاولة لجلب الكيس.. ما كادت تصل حتى انطلقت أبواق السيارات، مع زعيق الفرامل، حاولت العجوز التعبير عن غضبها ببعض الشتائم، صوتها الضعيف لم يسعفها فاكتفت بالتلويح بيديها وكأنها تقذفهم بما عجز لسانها عن قوله.
سحبتها إلى الوراء بقوة وأنا اتساءل: ماذا يوجد داخل ذاك الكيس حتى تغامر بحياتها لاجله ؟.
حدقت العجوز في الكيس القماشي المرمي وسط الشارع، وعجلات السيارات المارة تسحقه…انهمرت دموعها مع تنهيدات عميقة “حارقة هي الدموع المتساقطة من خلف أكداس العمر”.. اختلج وجهها، أصبحت تجاعيده أكثر عمقاً، قالت وكأنها ترثيه: “يا أسفي عليك، يا ضيعان التعب”..
ـ ماذا يوجد في الكيس يا جدتي؟.
ـ فيه قوت نهاري، أخذ مني وقتاً وجهداً منذ الفجر، أمضيت ساعات وساعات أجول في الحقول، في أماكن بعيدة، أبحث عن أعشاب برية، فهذا موسمها إن كنت تعلمين: الهندباء، والخبيزة، والشُّمَّر وغيرها..
ساعات يا ابنتي، وأنا أجرُّ نفسي جرّاً، أحفر الأرض بسكينتي، أقتلع الأعشاب التي أريد.. منها ما يؤكل، ومنها ما يستعمل أدوية الطب العربي… كلما أضفت قبضة أعشاب إلى الكيس تكبر فرحتي بالحصول على ثمن أكبر.. اليوم كان الرزق وفيراً، ملأت هذين الكيسين.. آه يا ابنتي ضاع تعب نهاري سدىً.
ـ يا جدتي إنه عمل شاق على امرأة في سنك، أين أولادك؟.
هزَّت راسها وتنهدت قائلة:
ـ إنه عملي الذي أعيش منه منذ سنين طويلة، تعرفني الحقول، كل حبة تراب فيها تعرف وقع خطواتي ولمسات يدي.. كنت أعمل في الأرض مع المزارعين.. أزرع، أُعشِّب، أقطف الخضار.. ولكن تقدم العمر وعجز الشيخوخة حال بيني وبين هذا العمل الشاق.. فاتخذت بيع الأعشاب البريَّة عملاً لي.. وأحياناً أذهب إلى الحقول التي كانت مزروعة، التقط ما بقي فيها من خضار وأبيعها.
لم يرزقني الله بأولاد، ليس لي في الحياة سوى زوج عاجز، يعاني من أمراض مزمنة أقعدته منذ زمن بعيد، داء السكري تسبب ببتر قدميه، أتركه يومياً، أطرق ابواب الرزق في تلك الحقول، لأجلب له الخبز والدواء.
كانت تتكلم بوهن، وضعت يدها على رأسها واليد الاخرى تحركها في الهواء وكأنها تبحث عن مكان تستند إليه كي لا تسقط.
ـ اشعر بدوار، قدماي لا تحملانني.
جلسنا على الرصيف، أطلقت زفرة شعرت معها كأنها ستلفظ آخر أنفاسها من قلب يلهج اخر نبضاته.
ـ كم اتمنى الراحة الأبدية يا ابنتي، أحلم بالموت على سريري وليس وحيدة في الحقول تأكلني الكلاب الجائعة ولا يعلم بي أحد.. تعبت.. متى تغادرني هذه الروح كي أرتاح؟.
“يا له من استمرار وحشي للعمر، حين يتحول موتاً يومياً.. ويصبح الرحيل الى المثوى الأخير راحة ينشدها من سحقتهم قسوة الحياة”.
حملت كيسها الوحيد ومشت تترنح.. تكاد تسقط أرضاً.
ـ الى أين يا جدتي وأنت بهذه الحالة؟ .
ـ زوجي ينتظرني، لا أحد بجانبه، تأخرت عليه.
أوقفت لها سيارة التاكسي، ولكنها رفضت بشدة قائلة:
ـ سأذهب سيراً على الأقدام.. لا أحب ركوب السيارات.
ساعدتها بالصعود ألى السيارة بعد جدال طويل، أوصيت السائق بإيصالها إلى بيتها، سألتني قبل أن تنطلق:
ـ أين منزلك يا ابنتي؟.
أشرت لها إلى بيتي الذي كان قريباً من المكان.. أخذت عنوانها ووعدتها بزيارة في أسرع وقت.
مشهد يدها التي بقيت تلوح لي بها من نافذة السيارة حتى ابتعدت، ما زال عالقاً في روحي.
مضت أسابيع وأيام..
ذات يوم، سمعت حركة خارج باب منزلي، انتظرت أن يقرع الباب، لكن صوت السكون وحده ما يدخل سمعي.
فتحت الباب لأجد كيساً مليئا بالاعشاب معلقاً في قبضة الباب، أدركت أنه من تلك العجوز المسكية. أسرعت الى الطريق، رأيتها، كانت تبتعد مسرعة، ناديتها لم تلتفت، أسرعتُ خلفها.
ـ لماذا فعلت ذلك يا جدتي، لمَ لم تطرقي الباب وتدخلي؟!.
نظرت إلي وكأن حنان الأرض متجلياً في عينيها:
ـ خرجت اليوم قبل طلوع الصباح، وفي نيتي أن أهدي لابنتي أفضل وأطيب الأعشاب البرية، كانت الأرض كريمة يا ابنتي، وجدت الكثير منها.. خشيت أن تلحي عليّ بإعطائي ثمن ما حملت لك فتذهب سعادتي.. حرمني القدر أن يكون لي إبنة، لا تحرميني من فرحتي، رأيت بك حنان الإبنة، فأردت أن أبادلك عطاء الأم، لا تتكلمي، ولا تقولي لي شيئاً..
ـ ماذا أقول لك يا جدتي، كنّا غربيتين، وها جمعتنا الإنسانية في رحابها.. شكراً لك أيتها الكريمة في روحها ، لا يوجد كلام بعد هذا الكرم!!.
بعد أن أرشدتني إلى كيفية الافادة من بعض الأعشاب كوجبة طعام، والبعض الآخر كشراب مفيد لبعض الآلام، اخذت منها عنوان بيتها على وعد أن أقوم بزيارتها.
قبلتني وابتسامة عريضة ارتسمت على وجهها قائلة:
ـ هل حقا ستأتين لزيارتي؟.. إنه يوم السعد.
ـ نعم سأزورك وأتعرف إلى جدي، ولن أترككما بعد الآن .
ـ حين تصلين إلى الحي الذي ذكرته لك، اسألي عن “سليمة بائعة الأعشاب” الحي كله يعرفني.
استهلكتني هموم الحياة والعمل.. ولكن صورة المرأة العجوز لم تفارق مخيلتي.
بعد فترة من الزمن ذهبت إلى العنوان الذي أعطتني إياه.. حي فقير يقع في مكان يطلق عليه اسم “مخيم” أكواخ من تنك مبعثر وإسمنت متكىء يزاحم بعضه بعضاً.. أين أنا؟.. لا منازل هنا.. لا عناوين، ماذا أرى؟.. وكأنني في مقابر للأحياء!.
اجتمع حولي بعض الأطفال المتسولين والمشردين، وكأنهم مولودون من غير بشر، بل نبتوا كأعشاب برية في أرض جرداء.
سألت من صادفتهم عن منزل “سليمة بائعة الأعشاب” وكان الجواب نظرة ساخرة دون جواب “يبدو أنني اخطأت العنوان، لا أحد يعرفها هنا”.
أحد الأولاد شدني من يدي:
ـ تعالي معي أنا أرشدك إلى بيتها.
سرت معه في الأزقة والزواريب المكتظة بالبشر، رأيت وجوهاً غريبة وكأنها آتية من كوكب آخر.
سألني الولد:
ـ ماذا تريدين من سليمة؟.
ـ لا شيء أريد زيارتها فقط .
فوجئت بقهقهته العالية حتى كاد أن يقع أرضاً، مع إشارة يده:
ـ لقد وصلنا.. هذا بيت سليمة.
يا له من مكان!!.. لا أتخيل أن يسكن هذا الكوخ الموحش إنسان. طرقت باباً لم يكن في الأصل باب، لوح خشب ملقى على جدار متهالك من الرطوبة.
مع كل طرقة ترتفع ضحكات الولد.. خفت منه وحزنت عليه، مسكين يبدو أنه مصاب بلوثة في عقله.
ـ ماذا تريدين يا سيدة؟.
سألني رجل بصوت خشن ونظرة فاحصة.
ـ أريد أصحاب هذا البيت.. رد بسخرية:
ـ يا لها من صدفة عجيبة.. كل هذا الزمن لم يسأل عنهم أحد، جئت متأخرة.. ماتت سليمة، ومات زوجها بعد أيام قليلة.
صعقتني الصدمة، خنقتني دموع الندم، مشيت خطوات وأنا أدمدم: سامحيني يا جدتي الحزينة.. حقاً جئت إليك متأخرة.. أدركت لماذا ضحك الولد، كنت أنا المجنونة وليس هو..
التفت إلى الرجل بعد أن تذكرت كلامها حين قالت أن أمنيتها في آخر عمرها أن تموت على فراشها.. خرج صوتي متهدجاً:
ـ هل ماتت العجوز داخل منزلها؟.
هز رأسه ..نعم .. ماتت على فراشها..

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى