ط
مسابقة القصة

برج اليمام .( ملخص) مسابقة الرواية .بقلم / حكيمة جمانة جريبيع .الجزائر

 
ملخص رواية عنوانها :
برج اليمام

                         

                                         بـرج اليمام

 

     رجفة الفراغ المزمنةِ ، تهزّني صباحا ومساء بعدما جفاني دفء الشمس و نصب لي العداء من خمس

سنوات عجاف..أفقدتني مذاق الحياة و أنستني فصول السنة.

 ها أنا أرتجفُ أكثر لخفقة قلبي التي لا تتوقف في زمني الهلامي ، تحت وطأة الفراغ المميت الذي أهـدانـي

إياه بلدي الذي انتشى بتخمة الأزمات الاجتماعية و الاقتصادية، حتى أنّه لم يعـد يُبصرني .. لطالما تـمـنيتُ

 أنْ يلتفت إليّ ويراني و لو بعين واحدة و يشعرني بأنني منتمي إليه و أنّني منه و إليه..( متى تفتح عينيك

و تشعرني بأنّني  المنتمي  …؟! )

 أدور داخل دائرة مفرغة من كل شيء إلا الخيبة.. يرفعني ضغطها المرتفع ، يَلفُني حول نفسي حتى أفقد

 صورتي الأدمية.. فيخيل إليّ أنّني  “سكوبيدو ” شخصية الرسوم المتحركة .. و ما أقساهُ إحساس .. !

   أنا مركون على رفّ النسيان تماما كما شهادتي الجامعية في الآداب التي وَارَيتُها عن عينيّ و أودعتُها في

صندوق جدّتي مع أغراضها القديمة، و النائم في قبو بيتنا كمومياء فرعونية ، من يقترب منه ، من يحاول

لمسه تلحقه اللعنة..لا أحدَ يتردد على المكان إلاّ أنا ، فعلاقتي بجدتي كانت قوية جدا،أذكر أنّني انهرتُ تماما

بعد موتها، بالنسبة للبقية أجلها وصل و انتهى لكن الأمر بالنسبة لي كان مختلفا.. ولما قررتْ و الدتي رميَ

صندوقها و التصدق بأغراضها، أعلنتُ حربا عليها..

 _ لماذا تكرهينها،  أَ لأنّها قوية .. فيم آذتك ..؟

 ردّتْ أمّي بحزن  وهي تُداري دمعها:

 _  أنتَ لا تعرف مرارة شعوري،لا تعرف معنى أن تهزم أنثى مستضعفة..عـندما تـنضج ستدرك بـوضـوح

  ما قصدته ..!

تحدّيْتُ أمّي و أختي ، و هربتُ بالصندوق إلى القبو.. و روادني شعور بالنصرو لأول مرة لا أخضع لاسيما

بعد سماعي شجار أمي مع جدتي لأوّل مرة قبل وفاتها بأيام ، ارتفع ضغطها ، شُلتْ حواسها، بعد عشرين

يوم من عمر الشجار فارقتنا..؟

  ثمة حبل روحي يُوصِلُنِي بها، كنتُ أستشيرها في كل كبيرة وصغيرة و تمدّني بالرأي السديد.. و كانت   

نظرتها في الأشياء لا تخيب دائما ..

 ما أغرب الحياة.. ها أنا الآن من الماضي، لا فرق بيني وبين مرآة جدّتي و مشطها العاجـي و وشاحها

 الحريري و قنينة عطرها .. !

  وكم قاس أنْ يجدَ المرءُ نفسهُ بلا جدوى،يتسلقه اليأس يتبرعم بداخله و يزهر أكثر، يعربد بكوامنه كما

عربدة سكير أطال في الشرب حتى فقد وعيهُ..!

أدركتُ أنّني أشبهُ مرآة جدتي التي غشيها الغبش، رفعتُها ، قرّبتُها من وجهي ..صرختُ، تراءتْ لي جدّتي

مبتسمة.. أعدتُ النظر مرة أخرى، كانتْ عينها اليسرى تذرف دمعا.. يا الله أين ذهب وجهي.. بالله عليك يا

 جدّتي لا تزيدي في همّي ..

بسملتُ ثلاث مرات و قرّبتُ المرآة إلى وجهي و عاد إليّ وجهي المصفر من السهر و تدخين السجائر..شعر

وجهي زاحمته شعيرات بيضاء و أنا الذي لم يتخطَ الثلاثين بعد.. حاولتُ أن أتغاضى عن الأمر و أكذب على

نفسي ( لا يهمُّ، أهملني الزمنُ فأهملتُه بدوري، هي القطيعة التامة، ثمة ما يشبه الانتقام ، هو الآخر يودّ أن

يعيد لي شيئا قد نسيه ربما و يكيل لي بالمكيالين ..)

  أعدتُ مرآة جدّتي إلى الصندوق.. تنفستُ الصعداء ، زارني طيفها ، ألمحها تضمني إلى صدرها، فحضنها

أرحب من حضن أمّي.. كان اسمها الزرقاء، امرأة صلبة كنخلة لا تثنيها الريح، رجاحة عقلها علامة تميّزها

أكثر من جمالها ..

قالت لي أمي ذات بوح في لحظة عارية و بحسرة 🙁 هي جدّتك من أطلقتْ عليك اسم يَمَام ، و حرمتني من

اسم كنتُ قد خبّأته لك من سنوات..كنت أودّ تسميتك “منتصر بالله” لكن حكم القوي على الضعيف،و عرفتْ

كيف تأخذك من حجري و أنت لم تتعد العامين.. المفترية..!

كنتَ متعلقا بها كثيرا و أنستكَ اسمي .. !

و مضتْ برأسي الأفكار تباعا وأنا أتساءلُ ( ماذا كان يدور بخلدها لمّا سمتني يمام.. ما هي غايتها.. ما

غنيمتها.. أعدتُ ترتيب الأشياء و تركيبها على بعض .. هي الزرقاء، و أنا يمام.. هل كانت تحلم بحفيدة

فجاءها حفيد فانتقمتْ و سمتني يمام حتى لا تضيّع أصل اليمامة ..)

_ بالله عليك يا جدّتي ..لا ينطبق عليّ يمام ، لستُ برياّ و لستُ سريعا .. لاشيء يجمعني باليمام لا قـاسم   

مشترك يوحّد بيننا بل أنا أحسد اليمام على حريته، فلا شيء يُعيق هديله و لاشيء يعترضُ سبيله..أين أنا

منه والفراغ يأسرني،يعبث بي من الجهات الأربعة..آه جدّتي و حدك تعرفين لغز الخلطة السريّة المحيّر حق؟!

 أتصوّرُ أحيانا انّها أرادتْ أن تستكمل التوليفة حتى تبعث سنفونية التاريخ، قـدْ تظـلّ حسب رؤيتها مشطورة

و مشروخة بكلمة زرقاء المفردة و اسم اليمام تتمة لها ،حتى تطلع المعزوفة  بروح الموروث وعبقه أكثر ..

من المؤكد أنّكِ ارتحتِ كثيرا و أنت توثقين الاسم يا جدتي ، أمّا أنا اليوم اختنقُ و عبء الصخرة يُثقلُ كاهلي

كما  “سيزيف” رغم أنّني لم أسيء لأحد ولم أمكر يوما.. أتعبتني الصخرة، أصعدُ و أهبطُ دون توقف، و كلّما

اعتقدتُ أنّ هذه المرّة تشرقُ شمسي و ينفرجُ كربي إلا و تدحرجتْ ثانية و عاد العبء بوزن أثقل ..

 لاشي يؤنسني اليوم جدتي غير أغراضك النائمة في هذا الصندوق الخشبي الجميل المزدان بنقوش ملوّنة

تشبه فن المنمنمات..لا يليق به قبو الخراب ،أتخيله على رف زجاجي في متحف عريق أو معرض فنيّ كبير.

  (ماذا لو نفذتْ أمي قرارها برميه و التصدق بما في داخله.. حتما كنتُ سأنكسر كما  قطعة خزف .. ؟ )

أمّي لم تكن على وفاق مع جدّتي التي خلّفتْ لها جرحا عميقا و هي تمارس سطوتها عليها، أمي كانت تعشق

حريتها، تحبّ الخياطة و التطريز، حرمتها من هوايتها و سجنتها ما بين المطبخ و التلفاز الصغير و رضاعة

طفليها.. سلطة جدّتي بختمها  كانت أبقى  من أيّ رغبة أو حلم ..

  _ ما أقواك جدّتي .. ماذا فعلت بأبي الذي لم يكن يرفض لك طلبا .. يستأسد أمام أمّي فقط..لستُ أدري إلى

 من أنحازُ إليك أم إليها.. لقد عرفتِ كيف تجعلينني أتعلّقُ بك..كم أنت مسكينة يا أمّي ..و مع كل هذا أحببتك،

رأيتُك قلعة حصينة فيها القوة و الدفء و الآمان ..

 لقد أغراكِ بريق التاريخ جدّتي .. أمّا أمّي امرأة واقعية تنشدُ مساحة حرية تغمس فيها لقمتها دون رقيب..

 كانت تأخذ الأشياء على بساطتها لا يهمها حسب أو نسب بقدر ما تهمها إنسانيتها..كنتِ ترددين دوما على

أسماعها ( أنا الزرقاء ابنة الشيخ عبد الجليل ).

 وها أنا اليوم ابن الفراغ، لا نسب ولا حسب يتوّجني،حتى رصيدي المعرفي  أكله الملل الذي ينهل من شـلاّل

الفراغ و كلّما رأتني أمّي على هذه الحال،وكلّما انتبهتْ لمكوثي في البيت لفترة طويلة تستاءُ وتصبُّ في أذنيّ

ثورتها التي استيقظتْ أكثر بعد وفاة جدتي ( ابحثْ لك عن أيّ عمل، نادل،عتّال.. ولا تبقَ كالفتاة العانس التي

ترقبُ طرق الباب ، لا يعيبُ الرجل غير جيبه و الشغل ليس عيبا…)

 _ سمعا و طاعة أمّي .. سأبحث عن الشغل الذي لا يعيب..

مع  بداية المسار،عملتُ في صحيفة حرّة اسمها الصدى..كان مقرها يبعدعن بلدتي حوالي خمسين كيلو متر،

 و كنت كل صباح أقلّ الحافلة فرحا معتقدا أن الحظ قد ابتسم لي أخيرا بعدما أسند لي رئيس التحرير صـفحـة

الحوادث..و طارت الفرحة مستعجلة هروبها ، فلم يدم عمر المهمة غير ثلاثة أشهر و استقلتُ بعدها..

 و ألمني أن أسمع من زميل الدراسة رئيس تحريري الذي كان ضعيف المستوى و بأموال والده السمسار

في مجال العقار أسس الصدى ..

ألمني كلامه كثيرا ( قلمك حاد.. حاول أن تخفف من وهجه ،هذه سياسة ننتهجها حتى نؤمِّن استمراريتنا..).

بعدما تعبتُ كثيرا وأنا أنقّب كخبير أثار في جرائم خطف الأطفال و بيع أعضائهم ، في تمرير المخدرات إلى

المدرسة وفي قضية الإجهاض .. تعرية الجريمة و من وراءها و من محركها ، كانت من أولويات عملي

بضمير مهني ، لكن عمر الضمير في بلدي قصير جدا سرعان ما يُجلَدُ حتى يتورّمَ و يسيلَ دما وقيحا..

و تألمتُ كثيرا لبضعة أشهر، أوصلني بعد ذلك صديق لي بشركة توزيع جـرائد مقابل أجـر يومي زهـيد.

  كان عملي الجديد هذا يستغرق تقريبا ساعتان و يحرمني من نوم الصباح .. فأنا لم أتعود على النهوض

  باكرا ..أحملُ أكوام الجرائد وأقوم بتوزيعها على الأكشاك و المكتبات في البلدة ..

  و تنتهي بي الخطوات إلى المقهى المعتاد  وبين يديّ حوالي ثلاثين عنوانا، أنتحي مكانا لي يطل على

الشارع الرئيسي ، اعتاد عليّ و أعتدتُ عليه، أتصفح كل جريدة على حِدة .. كم تافهة المواضيع ( نصفك  

 الآخر .. ابحثْ عنْ شريكك .. وصفات لجمال شعرك..عالم الطبخ و إعلانات مُقرفة..)

  جرائد هزيلة..كم أحسد أباءنا و أجدادنا على إعلام الفكر البناء الذي عاشوا زمنه رغم محنهم .. الإعلام

المكتوب يكون إما داء أو دواء..اليوم أغلبه  يوّلدُ فينا أمراضا حديثة من الصعب تصنيفها في عالم الطبّ ..

 كم مرة أقف و أتراجع عن فكرة الدخول في جدار على شاكلة ذاك الإعلان المقرف ..أشعر أنني مريض كلما

 قرأتها، وأنا أجلد ذاتي العارية ( ماذا تريدُ أن تقرأ ..أمراض مجتمعنا مثلا و كيف نداويها.. كيف نبني إنسانا

 بين جنباته ضمير يقظ .. لا يخادع و لا يتاجر باسم الدين الذي قتل الأبرياء.. ؟!)

  انتهى و جدتُها.. وجدنها على غرار” يوريكا”  وضعتُ  يدي على ما يشغلني في زمن الوباء بعدما انتبهتُ

 إلى صفحة الأبراج الفلكية، صرتُ يوميا أكتفي من كل جريدة بهذا العمود.. معذرة فأنا اليوم مريض ..  

 واستغربتُ كيف انحدر مستوى تفكيري لهذا الحد المخجل.. وأنا أضيّع وقتي في عناوين متشابهة في دلالتها

 و محتواها.. يقول برجك .. طالعك اليوم .. لا تفوّت حظك.. !

  وهكذا صرتُ مدمنا لموضوع الأبراج الفلكية .. و أقارن بينها ..لا اتفاق في التوقعات لا سيما فيما  يتعلق   

 بالبرج الذي أنتمي إليه (الحمل)،أنا من لم يكن يـؤمن يوما بفكـرة الأبـراج المُلهية..ها هي اليوم تتلهى بي

كيفما تشاء..

بجريدة أضواء .. مفاجأة تنتظرك ،الأصيل كتبتْ..حبّ في طريقه إليك، و جريدة المنبر كتبتْ .. ابشرْ وظيفة

 كنتَ تحلمُ بها ..  

هكذا كلّ يوم ،أتابعُ الأكاذيب بألوان متفاوتة.. ورغم الهراء ، أدمنتُ قراءتها كلّ صباح حتى أضحتْ عادة

ترسختْ في طقوسي نهاري البليد .  

  هاتفي يرن بعد صمت طويل،لا أحدَ يسألُ عنّي غالبا إلا أمّي  كلما تأخرتُ في عودتي إلى البيت أو ضُحَى..

في الوقت الذي كنتُ أدندنُ  فيه بكلمات أغـنية قديمة كـثيرا ما كانت جدتي تـدنـدنُ بها (  يا يمامة روحي

للمحبوب.. و بالسلامة وديلـه المكتوب..)

  أخذَني اللحن و تأخرتُ في الرد و لازلتُ أدندنُ نكاية في الزمن .. نكاية في الفراغ ، سأغني ..

و رنّ ثانية بإلحاح :

   _ أهلا  ضُحى .. صباح الخير..

  وردّتْ بصوتها الرقراق معاتية :

   _ خير إن شاء الله ، أنت لمْ تسأل عنّا من مدّة ..؟

   ثمة جديد لا يحتمل أي تأخير منك.. لنلتقي، الأمر في غاية الأهمية في المكان نفسه..

ضحى توأم روحي، عمرعلاقتنا  بلغ عقدا من الزمن .. خمس سنوات في الجامعة و خمس في الفراغ

المزمن الذي لازمني كالظل .. 

أستعيد توقعات جريدة الأصيل( حبّ في طريقه إليك ..) .. أضحكُ  بل أقهقه قهقهةً ممزوجة بالسخرية

 و الحزن في آنٍ ، هل صدقوا هذه المرّة .. ضحى في طريقها إليّ الآن ..

حدّدتْ منذ لحظات ضحى مكان اللقاء الذي صار يُحبطني حدّ الجنون .. تصوروا أين نلتقي ..في المقبرة..!

بلدتنا كبيرة في عمرانها وفي تجارتها وفي بريقها  لكن عقول أهاليها لا زالت قاصرة.. تحرّمُ لقاء العشاق

 والمحبين في وضح النهار.. وكم من وجهائها و سماسرتها و كبار تجارها يُبيحونه ليلا  في بيوت مشفّرة

 هي وحدها  من تعرفهم من طرقاتهم ، فتنُفتَحُ لهم على مصراعيها.. هكذا يبتهج الكذبُ الملوّن و يرقصُ في

مدينتي، أمّا الصدقُ الشفاف، يتأوه نهارا و يرقـصُ على الوجع،لا ترحمه أعـين الرقباء.. مفارقة عجيبة حقّا!

 سلطة الفساد والجيب  تبيح لنفسها الممنوع، و تحرّم المباح المشروع الذي يتكالب عليه الجاهل و القاصي

 و الداني، فيتحكم في رقبته ضعف الحيلة من جهة و العرف المقنّع من جهة أخرى ..

أمشي بخطى سريعة في طريقي إلى المقبرة متضرّعا إلى الله ألاّ  تكون جنازة أحدهم اليوم  لأنني لم أطلع

على صفحة الوفيات التي صمم لها المسؤولون  صفحة كبيرة على موقع التواصل الإجتماعي فايس بوك ..

العاشقون و المحبون في مدينتي صاروا مُدمِنِي هذه الصفحة لوضع برنامج لقاءاتهم .. هكذا يُحتفى

بالموت عندنا .. في انتظار التفاتة منهم للأحياء الذين يلتقون في المقبرة كلّما حركهم الشوقُ و استبدتْ

بهم لوعة الحب في لقاء دوري من شهر إلى شهر، أمّا باقي  الأيام يخفف من جدبها  النت و الهواتف ..  

الوصال الدوري على مرأى من الأموات، شباب لم يعد يخاف الأموات بقدر ما يخاف الأحياء المتربصين

بحلمه.. وجد عند الأموات أمانا آخر ..

أتتْ ضحى قبلي هذه المرة.. فوق القبر نفسه الذي كان لطفل صغير حسب ما كتب على الشاهدة ( نزيم بن

عامر 2009 – 2017) ..لم نتخلص من خوفـنا لـذلـك هــرّبنا إلى البراءة و هي تحـرسنا، كثيرا ما تخيلتُ أنّ

 أحدهم سيخرج من قبره كشبح أصفر يزجرنا ( اتركونا ننعم بهدوئنا ..اتركونا ننام في سكينة.. أ لم تجدوا  

 غير المقبرة لبوح الحبّ.. الحب حياة و ليس موت هيا اخرجوا من هنا ، ابتعدوا، اتركونا بسلام …) 

_ هيا اخرجْ .. فأنا لا أخشاك..تريد ردا مقنعا أم ردعا.. اصغِ إليّ جيدا ( الحبّ في مدينتي مـوت آخـر و يأس

 غريمه الانتظار،الحبّ عندنا مرادف للزواج السريع ..لا يقبل الـتأجيل الذي يجـرّه إلى حتفه..هذا هـو مفهوم

  الحبّ صديقي الميّت.. و نحن نتسوّل منكم لحظة أمان فحسب..)

 اقتربتُ من ضحى ..أراها حزينة خلاف العادة، وقد طال صمتها، انتظرتُها لتبدأ فيما دعتني لأجله فلم تفعـلْ

لم أعد أحتمل أكثر،الحيرة حركت الكلام الحبيس في حلقي :

    _ ما الذي جدّ و هزّكِ مئة و ثمانين درجة ..؟

  ردّتْ و هي ترتعش :

    _ جدْ لك  حلا يُرضي كلانا .. إلى متى يستمرُ هذا الوضع، و نظلّ كلصين هاربين تترصدهما أعين الحقّ..

   لقد نفذ صبري، هذه عشر سنوات قد مرت ونحن نجـتـرّ الحكاية نفسها .. قاربت الثلاثين التي تُـرادفُ في

 عرف عائلتي العـنوسة ..

   _ قلتُ : لننتظرَ قليلا ؟

   _ أكثر من كل هذ الانتظار.. حتى نشيخ، ألا تشعر بعامل الزمن الذي لا يرحم ..؟

   _ لنتزوّج فورا ؟

   _ مستحيل في مثل ظروفي هذه ، أنا لم أجد لي و ظيفة قارة، لا زلتُ في بيت والديّ..هل يُعيلنا

    والدي المريض..

ألجمها الموقف،اغرورقت عيناها خانتها العبرات.. و تألمتُ لدمعها، دموع ضحى انقلاب يخلط أوراقي.

 و تابعتْ ضحى حديثها :  

 _ فلتعلم أنّ خطبتي ستكون بعد أسبوع ؟

 _ أ تمزحين ؟

 _ ليس في الموضوع ذرّة مزاح !  

 _ و تقبلتِ الموضوع هكذا دون أن تدافعي عن عشر سنوات..؟

 _ ليس في وسعي أن أعمل أيّ .. أكبر من طاقتي .. اتفق والدي مع والده وحددا الموعد ..!

 _ من هو ..؟

 _ جارنا ، ابن الجزار، فهو يملك ملاحم أبيه المنتشرة في المدينة ..

شعرتُ بسكينه المصقول على رقبتي، قدْ أسالَ دمي، تيبستُ في موضعي ومات كل الكلام في حلقي..

ويتناهى إلى أسماعي صراخ أحد العاشقين ( لعنة الأموات تُلاحقُ هذه المدينة التي حرّمتْ الحبّ البريء

في النهار ورصدت له الأعين ..)

 أصبح للمقبرة أجندة عند العشاق وقد أسقطوا منها يوم الجمعة و كذا الأيام التي تصادف مراسيم الدفن..

أجندة مسطرة حسب ما يجود به القدر وهم يسترقون منها ربع ساعة أو عشرين دقيقة على الأكثر لأجل لقاء

عابر لا يفي بحاجة القلب ..

 مدينتي تحرّمُ الحبّ وتُلصقهُ بالانحلال الخلقي بينما سماسرتها و كبار تجارها و باروناتها منغمسون في

 الرذيلة إلى أذقانهم .. يهدوننا الموت يوميا من خلال توزيع الحبوب الحمراء على تلاميذ المدارس وبيع

الأطفال و تهريب نفائس البلد ..

ابشري ها هو الحبّ قد مات، لقد أقبرناه هذا المساء على مسمع الطفل الميّت ( ضُحى قررتْ .. و أنا قد

انتهيتُ..)

آه يا مدينتي أكرهك حبا و أحبك كرها.. لم يبق لي شيء هنا بعد جدّتي و ضحى، للموت وجهان وجه حقيقي

ليس لنا يد فيه، و وجه تدخل فيه كل الأيادي مثل أيادي المحظور و أيادي الجزار وابنه..

 و أعودُ لما قرأتُه في الصباح ( حبّ كبير في طريقه إليكَ ).. لا، لا قد خالف طريقي و رحل .. و اختار

السكين بدل القلم.. اختار شريحة اللحم على الورقة..

 هي هزيمة أخرى تضاف إلى رصيدي المتخم، تـبّـا للزمن، تـبـا للمال الذي يسـرق منا قـلب مـن نحـبّ

 و يسلبنا راحة البال .

  أجرجر هيكلي المتصلّب إلى القبو حيث صندوق جدّتي، ألقي برأسي المثقلة إلى الصندوق، أنتحبُ مثلما

لم أنتحب من قبل، فتصعدُ إلى أنفي رائحة جدّتي، أشعر بأنّها قريبة مني جدا أسمعها تقول :

  ( تريّث يمام ..لا ترحلْ.. !)

و غططتُ في نوم لم أفقْ منه إلا على آذان الفجر.. صلّيتُ ثم رحتُ أستحثُ الخطى إلى لقمتي اليابسة..

أوّزعُ أكوام الجرائد و غصّة في حلقي لم تبرحني من ساعة اللقاء ..

أصطحبُ غصّتي إلى المقهى ..على الطاولة نفسها قبالة النافذة المفتوحة على الريح التي لم تعتقني ،

أفرد الجرائد.. وبحركة جنونية أدوّنُ على الورقة الصغيرة  رقم هاتف كل جريدة..

  أتصل بكل واحدة منها.. وأنا أطلب التحدّث مع معدّي صفحات الأبراج الفلكية و بصوت مرتفع أقول :

  _ معكم يمام ..لقد اكتشفتُ البرج الثالث عشر، لا تنسوا في المرّة القادمة أنْ تضيفوه “برج اليمام”

 برج اليمام ينبئكم بالكثير، لا تنسوا  لا تنسوا.. 

                                                                       

 

 على رقبتي ..  

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى