خاص بالمسابقة / نعاس صالح
قصة قصيرة ــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بقايا سيجارة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان يزوره على الدوام يلقي عليه ريحا تأتيه من وحي شيطانه ، فيزداد إعجابا بنفسه حد الانتشاء .
يريد أن ينشر سرابه ليصل صداه أكبر عدد ممكن من الجمهور ، ويحقق الشهرة
التي كان يموت من أجلها ، يصنع له مجدا ومقاما رفيعا، اسمه على كل لسان وصيته في كل الجهات . كان يجهل الطريق المؤدية لذلك ، يجهل أمثاله ، يجهل حتى السبل التي تجعل منه إنسانا
مميزا كما يزعم .
كان يسأله كيف الوصول إلى الوصول ؟
نصحه بمصاحبة ذوي الاهتمام من أبناء مدينته حتى يجعل لنفسه ساحة واسعة يشتغل فيها حسب رغباته وما يطمح إليه ، وفي داخله يخفي شيئا ما !.
كان صاحبه يشتغل وحيدا لا يحتك كثيرا بمن يشاركه همه ،لأنه أدرك أن هناك من يفسد عليه حبه لهدفه ، لما يصدر من سوء تقدير للآخر ، والتعالي وحب الظهور والغرور ، وأنانية الذات التي تقتل نفس صاحبها .
كان يحسبه أخا ، وصديقا ، وصاحبا ، وكان يحسب نفسه كل شيء !.
وجده .. ريحا توهم الأنفاس والأنظار، تكسّر الأضواء ، تفسد الأنوار ، تغيير الأدوار ، تحرق الأشجار ، تشعل النّار ، تتهاوى الدّار.
تراه يظهر في المظاهر البرّاقة الخادعة للعيون ،غير أن مع مرور الأيام والسنوات وجد صورته معكوسة تماما ، حين تعرف حقيقته تذهل فيه الأذهان !.
يشبه بقايا سيجارة ما بين السبابة والوسطى . تلك البقايا التي يبحث عنها الأطفال ليكملوا إحراقها ، يستمتعون بها لحظات.. يظهرون رجولتهم المفقودة منهم ، أو يصيرون يوما إلى أحلامهم الصادقة التي تسكن دواخلهم الصافية! ، فرغبة الصغار ببقايا السيجارة أن يكونوا كبارا ، وهم لا يدركون .. حقيقة هذا العالم المغيبة منه كثيرا من المثل والقيم ، والبراق بالصفات المستعارة .
غير أن بعض الرجال يحرقون أنفاسهم بل صورهم قبل الأوآن ، فيصغرون
في عيون البراءة ليمحوا كل ما بنوه .
كان كثير الإعجاب بنفسه حد النرجسية ،
يقال أنه يقول : كلاما ما .. يلهي به بعض العامة ، يحب الظهور والشهرة في لمح البصر،
يتسلق القامات ، يصنع لنفسه بعض الصدقات والمّعارف هنا وهنا . أدرك أنه يجب عليه فعل الكثير
كي يسطع نجمه أمام الملأ .. عليه أن يربط المزيد من خيوط الحرير .. أن ينصب الكثير من الشباك .. أن يجعل دخانه سحابا .. أن يوهم سرابه للقادمين ماءا ، أن يشهر أحلامه للناس
لكنه في كل مرة يتحجج لصاحبه الذى واكبه في مشواره بأنه كثير الإرتباطات والمشاغـل وأن الوقت لا يسمح له بذلك رغم كل ما يجمعهما . لقد بدا لصاحبه مدى التغيّرات التي طرأت عليه
وهو الذي كان يتمنى في ما سبق لو يتكلم ولو مع الموتى ، كان يموت مع نفسه من شدة الصمت والفراغ ، صار كثير الأقاويل والأعذار.. فرب عذر أقبح من ذنب .
يقول في قرارة نفسه : أنا البطل ، أنا البطل … ما أغبى هؤلاء يا بطل !
يحصد مزيدا من التألق الموهوم ، يخفي ما وراءه كثيرا ، يلتبس لكثير ممن لا يعرفونه جيدا ، يتصنع بالرياء ، وفي أدهى صور الهف ّ* المعسولة بابتسامات كاذبة وصلة مقطوعة في الباطن ، وصداقة مزيفة غطتها ستائر الدهاء ، وطلاسم نوايا لا يفك رموزها إلا وهم مصطنع مثله في أحلام الشهرة الزائلة ، أو في حدود المصالح التي يريد أن يربطها لنفسه لتظل أحلامه الكاذبة تتبعه وتتعبه .
يسكن في عرش غير عرشه ، وفي أماكن غير مكانه ، ويصادق أصدقاء غير أصدقائه .
باحترافه في ربط أسلاك صداقاته الرفيعة الملمعة ، يحاول ربط كل الخطوط ، ربط كل الحدود ،
كل الصور المفقودة ، ونسى أنّ حدوده الضيّقة لا تسعه .
يحاول بفيه الذي يزداد به عظمة في كل صيف .. أن يجمع بعض الأصدقاء المخدوعين فيه . يريد بهم أن يغسل اسمه بماء سرابه الذي لا يجده إلاّ في فصل الحر ، ليلمّعه في عيون سكان بلدته الطّيبة ،
المغلبون على أمرهم ، فيزداد تقمقما بمديحه أمام الأنظار.
يخفي أمرا ما في المستقبل عن قومه ، ربما ليمنحوه ثقتهم في تسيير شؤون حياتهم
أو يفوز بأحد الجميلات يستمتع بصورتها في خياله أو بريح تحرّض شيطانه على غوايته.
كسب ود شيخ القيبلة حدّ النخاع ، وكسب في نظره التسيد والجاه ، لا أحد يزاحمه في حدود المدينة المترامية الأطراف القابعة أسفل جبال وهمه.
في أيام أحلامه المخبولة التي كان يصنعها لنفسه ، تراه داخل قاعة فراغه التي جهزها يلهث كالذي يحمل أسفارا كي لا يفسد عليه مهرجانه . المقربون منه لا يراهم لأنه لاهيا بتلميع صورته مثل حذائه الذي غطاه الغبار من كثرة الهرولة . هاتفه في يده صار مرهقا من كثرة حمله ، الكل ألقى ما يجود به ، وألقى سحره الكاذب .
وفي نهاية مديحه انطفأت الأضواء .. انتشرت ريح نكرة اشمئز منها الجميع ، افترق الكل ، بقي وحده فانكشفت أسراره وعلى أمل كشف المزيد منها في قادم الأيام .