اللقب: سليماني
البلد: الجمهورية الجزائرية
[email protected] البريد الالكتروني:
الهاتف النقال:213771373168
مسابقة القصة القصيرة لهمسة
عنوان القصة: ثقب في جدار السجن
ثقبٌ في جدار السجن
لا.. لا.. اتركني.. اتركني!.. أنت كذب.. مجرد كذب!
يراوغني.. يظهر حينا ويختفي حينا.. وأنا اركض.. اركض هاربة منه في اتجاه مجهول!
الريح تعصف قوية، تجلدني من كل جانب، وتبعث الرعب في داخلي، فترتعد فرائصي.
-أين أنا؟!.. إلى أين المصير؟!
لا ادري كيف وجدت نفسي في هذا الخلاء الموحش.. في صحراء مترامية الأطراف، وحذائي يغوص في رمالها!
ارتفعت الدهشة في عينيّ، وتجمعت أنفاسي في صدري، واكتظت الأسئلة في رأسي..
– آه يا الله.. إنه هناك!
مساحة دهشتي تتسع ويزداد معها تيهي.
بدا لي ككتلة هلامية، كعباءة بيضاء معلقة في الهواء تعبث بها الرياح، فتتآكل أطرافها.. رأس مقطوع يتدلى منها.. يتمزق ويتطاير شفافا كالقطن!.. اذرع طويلة تمتد نحوي.. تتفرع.. تبرز مخالبها المشحوذة محاولة زجها في جسدي.. أركض دون توقف!
-هل هو سراب؟!.. هل هو وهم؟!
يقترب !.. يقترب!.. اسمع همهمات غير مفهومة.. انزع حذائي واحمله بيدي، وأسرع حافية كشاة مذعورة ضاعت عن قطيعها..
توقفت فجأة كأنما الأغلال وضعت في قدمي..
شيء ما جعلني استعد تماما لمواجهته.. تفرست في ملامحه جيدا، فاجتاحني شعورٌ كاليقين، وتفشت فيَّ إرادة..
-لماذا انتابني هذا الوعي العالي في هذه اللحظة؟
كائن غريب، يجمع كل التناقضات، يثير الرعب والرهبة، ويبعث على الطمأنينة المبهمة والهدوء التام.
كأنه لوحة زيتية بدون إطار.. لوحة جمعت كل الألوان واختلطت فيها رموز من زمن عابر، أشبه بفسيفساء لحقب بربرية وحشية في تاريخ الشعوب.. صور مشوَّشة كعواطفي المتأججة في ذاتي، أراها أمامي كسراب!.. كأنه نافذة تطل على الأساطير.. عن حقيقة اللاحقيقة.
جذبتني نظرة واحدة إليه كالعاصفة العاتية، قذفتني في قاع الغفوة ورفعت بي إلى قمة اليقظة..
من أقصى رعبي إلى أقصى شجاعتي..
تحديته وأنا لا أزال الهث.. صوته أتى خفيضا وقد وقف متسمرا على بُعد خطوات مني.
-ألا تصدقينني؟!.. أنا ثمار فكرة جيدة.. فكرة بدأت كندفة ثلج واستحالت إلى كتلة جليد ضخمة، زوبعة في نهر أضحت دوامة محيطية تسحب كل من يتحداها إلى الأعماق.. ماض سحيق لا يمكنك إلغاؤُه، وحاضر كالأمواج العاتية ستصارعك.. مستقبل سيحبسك في زواياه ويدوِّخك في حلقته المفرغة.
كل شيء هتف في داخلي، كأنما قوة خفية حركت أعماقي:
– فكرة جيدة؟!.. هذا هراء.. وهل تحتاج إلى الدوامة المحيطية؟.. ليس في ذاتك القبيحة قوة، ولا في مطاردتك لي انتصار.. لا كيف كنت ولا كيف أصبحت.. إنك كذب.. نعم.. مجرد كذب!.. كراهية.. كراهية!
قلت ذلك، وقد استبدت بي رغبة عارمة في أن اخترقه كبرق أو كرمح سمهري.. أطعنه في الصميم طعنة نجلاء.
اختفى!.. لم يترك لي إلا دهشة.. إلا استفهاما زادني تيها.
-آه يا الله!.. أين أنا الآن؟!.. جدران!.. كيف حدث هذا؟!
طافت في وجهي تشنجات وألقيت حولي نظرات باكية تطلب النجدة، سرعان ما تبعتها صرخة مبحوحة، بقيت تتراقص أمامي كفراشة ليلية تحترق حول مصباح زيتي قديم.. مكتومة بين جدران بلا نوافذ.. بلا باب!
سمعت حركة بعيدة وتأوهات كأنها تأوهات لامرأة أعرفها.. رحت اضرب الجدار بقبضة يدي وأحاول أن احدث ثقبا بأظافري.. بركلات قدمي.. بكعب حذائي.. وحتى بأسناني! وهمست في قلبي:
-إن شيئا وقع ما كان ليقع.. إن شيئا وقع ما كان ليقع..
لا ادري بالضبط، ما الذي اعنيه، ما الذي اقصده بالتحديد؟.. من الذي شوشني على وجه الدقة؟!
حجرة السجن تزداد ضيقا.. تقترب جدرانها مني شيئا فشيئا، والاختناق يكتم أنفاسي.. لم اعد احتمل.. لم اعد أطيق هذا السجن!
تناهت قهقهاته الآتية من بعيد إلى أذني، بينما كنت أقاوم بشدة حتى لا افقد وعيي، سمعت فجأة تأوهات تلك المرأة، بدت لي كجراح لمئات السنين وقد عادت إليها لفحات الألم.. كأصوات تحذير لأشباح أجساد ميتة تريد أن توقظني من اللاوعي.. أتنفس بصعوبة بالغة، فاستنشق بفمي آخر هواء نقي في سجني.
في لحظة كان الموت يسرح بضبابه فوق رأسي، ندت عني ضحكة ساخرة مخنوقة وقلت بصوت متهدج مرتعش:
-سوف احدث ثقبا.. نعم سوف احدث ثقبا في جدار السجن!
أيقنت فجأة انه لا بد من وجود ثقب ولا بد أن يكون مكانه في جهة من الجدار، وما عليَّ إلا أن أنقب عنه قبل أن انتهي.
رحت انبش بأظافري في موضع هش من الجدار حتى أحدثت ثقبا.. أحدثت أثرا في جدار السجن.
ابتسمت مع بوادر ضوء حمل معه نسمة رقيقة، وأتى صوت جهوري واضح النبرات:
استيقظي.. استيقظي!..
تحركت في فراشي بعنف.. صحيت على أشعة شمس مارس تداعب أجفاني، وعلى وقع خطوات أمي وهي تغادر الغرفة وقد أزاحت الستائر عن النافذة.
استقبلت يومي الجديد بزفرة طويلة ساخنة وقلت في نفسي:
-سجن؟!.. بل مجرد جدران وهمية وبداية إزالتها.. ثقب!
ا