الاسم الكامل : محمد دريوش.
البلد : المغرب.
الهاتف : 00212652757312
الجنس الأدبي : الرواية.
مقطع من سيرة روائية تحت عنوان ” حياة من ورق”.
الفصل الأول : ثنائية الموت والحياة.
————————-
استيقظت على صوت جلبة غير عادية بالمنزل، كانت الساعة الحائطية المعلقة ببهو المنزل تشير إلى الرابعة صباحا، توجهت إلى مصدر الصوت بعد أن تبينت صوت أبي من بين الأصوات، فركت عيني وأنا أتقدم نحوه لأرتمي في حضنه، تهللت أساريره عند رؤيته لي ، حملني فوق ركبتيه، قبلني بحنان وطفق يسألني:
– كيف مرت الأمور يا رجل البيت؟ أين أخوك مصطفى؟
ردت عليه جدتي:
– لقد كان نعم الرجل، لقد صار ابني رجلا يعتمد عليه.
جذبتني نحوها كعادتها كلما رأتني، دسست رأسي الصغير بصدرها لأشتم رائحتها التي كانت تصيبني بالخدر، مزيج من العرق الخفيف وعبق الشيخوخة ومقطر “الفليو” الذي كانت تمزجه بتلك المادة البنية في طقوس قدسية كمن يحضر تعويذة لطرد الأرواح الشريرة.
كانت “النفحة” نوعا من الإدمان الذي تمكن منها فلم يعد لها منه فكاك. كنت أجلس قبالتها وهي تحضر إكسير حياتها بكل شغف وتفان، تفرغ مسحوقا بني اللون من كيس بلاستيكي محفوظ بعناية بحقيبتها العتيقة بالغربال، تمرره مرارا وتزيل منه كل الشوائب التي قد تسيء لجودته، وبعد ان تتأكد من أنه بات صالحا لضبط مزاجها، تضيف إليه بعض القطرات من مقطر عشبة برية لها نكهة الفليو، وتجرب المزيج كل مرة باستنشاق قليل منه، تدوم العملية ساعات طويلة إلى أن تتأكد من جودته.
كنت أراقبها عن كثب وألف سؤال يتراقص بداخلي:
– ماذا تفعل؟ وما هذا المسحوق الذي تستنشقه بكل تلك النشوة؟
كان فضولي للحصول على أجوبة لأسئلتي الكثيرة كبيرا، وبلغ حدته ذات يوم فغافلتها وفتحت القارورة الخضراء التي كانت تضع بها إكسيرها، أخذت منه كمية قليلة لكي لا يفتضح أمري، وذهبت إلى المرحاض كي أتوارى عن الانظار ثم قمت باستنشاق المسحوق دفعة واحدة.
لن أنسى ذلك اليوم ما حييت، انتابتني نوبة من العطس الشديد أدت إلى افتضاح أمري وإلى نوبة ضحك جماعية لا يزال صداها يتردد بسمعي.
عاد أبي في تلك الليلة من ليالي شهر نونبر الباردة، لم يكن صوت القطار ليلتها يشبه الليالي السابقة، فقد بدا لي أكثر حدة هذه المرة على غير عادته، كان الجميع يجلس متحلقا حول أبي العائد من المسيرة الخضراء، كان يحكي عن مغامراتهم بالصحراء المغربية بكل التفاصيل، حكى عن الكثبان الرملية المتحركة التي كانت تفقدهم صوابهم في عناد منقطع النظير، كانوا يبيتون ليلتهم في الخيام أو في العراء بعد قضاء أمسية صاخبة أثثتها أهازيج الرجال والنساء ونقرات الدفوف والطبول، وعندما يطلع النهار على مئات الآلاف من المتطوعين، يجدون معالم المكان قد تغيرت بفعل الريح التي تنبت كتبانا هنا وهناك، وتمحو أخرى تاركة للدهشة والاستغراب مجالا رحبا بنفوس الناس.
تفرست بملامحه التي غيرتها المدة التي غاب فيها عن البيت، ازدادت سمرته قتامة بفعل الشمس، وجهه الذي كنت قد احتفظت بشكله الحليق بمخيلتي قد دثرته لحية كثة جعلت منه شخصا آخر لم أتعرف عليه في البداية، وذلك الوسام الملكي باللونين الأخضر والأحمر على صدره، كل تلك الأمور جعلت من تلك الليلة ذكرى مشاكسة بالذاكرة تأبى السقوط في جب النسيان.
تجلس أمي بوجهها الروماني الجميل مصغية لحكايات أبي التي لا تنتهي، شعرها الحريري الطويل يتموج فوق كتفي
ها بغنج، لا بد أنها اشتاقت لأبي بعد كل هذا الغياب، لولا تواجد الجدة الشجرة وعمي البهلول لكان لليل طعم آخر، كانت شابة جميلة جدا لم تجتز بعد عتبة العقد الثاني من عمرها، لم تحتج يوما إلى كل تلك المساحيق التي تستعملها النساء من أجل التزين، وحده الكحل من يجد طريقه إلى عينيها فتصير كملكة متوجة من ليالي ألف ليلة وليلة، لم تطأ رجلاها فصلا يوما ولا استطاعت خط حرف، بسيطة بشكل محير، لا تتجاوز حدود عالمها ما رسمه أبي لها من خطوط، لا تغادر البيت إلا لماما، وإن فعلت ذلك فإنها تفعله بمعية جدتي مرتدية جلبابها المقبب كهرم خوفو ونقابها الأسود الشفاف، هكذا كان زواجهما التقليدي الذي سيدوم العمر كله.
انقضت تلك الليلة بحكاياتها المفعمة بطعم الرمال وبأس النساء والرجال، وعاد أبي إلى حياته المعتادة وإلى عمله بميناء المدينة،
وعدنا نؤثث عالمنا الصغير الموسوم بوجه جدتي المثخن بالأوشام، بروح النحلة الشغيلة التي تسكن جسد أمي، بمشاكساتنا اليومية أنا وأخي مصطفى، وبعربدة عمي البهلول عند عودته مخمورا مترنحا بعد منتصف الليل.
كان شابا طويل القامة، قمحي البشرة، وسيما كأبطال الأفلام الهندية، لا يشتغل أبدا، يخرج صباحا ولا يعود إلا عندما ينال منه الخمر والأقوياء من رفقاء السوء، فاقدا لوعيه، متثاقلا في مشيته، مثخنا بالجراح، مخضبا بالدماء، مترنحا ككلب بري نالت منه الذئاب.
تمده جدتي بكل ما يحتاجه من مال ليعيش حياته كما تشتهيه نفسه، حرا طليقا كالهواء، غائبا عن الوعي راسما عالمه بألوان النشوة وفرشاة المخدرات بجميع أنواعها، لا شأن له بعالمنا الذي نعيش فيه محبطين مضغوطين بين مطرقة الحياة وسنديان الأحلام. كان قرة عين جدتي وغصة بحلق أبي لا يتعايش معها إلا على مضض، كان ينتظر عودته لتبدأ حلقة من برامج تلفزيون الواقع، ما أن يلوح طيفه بآخر الزقاق حتى تنهض جدتي من كرسيها الإسمنتي المشيد بعتبة البيت وتقصده مهرولة محاولة إسكاته واضعة يدها على فمه مانعة كلماته النابية من الخروج والاستقرار بآذاننا وآذان جيراننا وخصوصا أذني أبي الذي يترقب عودته.
تنطلق الأحداث ككل ليلة حاملة معها صخبا وعراكا بين عمي وأبي كان ينتهي دائما بتدخل جدتي بينهما وبقولتها المأثورة لأبي:
– ها السخط، ها الرضى…
يعلو صوت أبي ساخطا ومتوعدا، ويزيد سكون الليل من شدته:
– لقد طفح الكيل، متى سيكف عن معاقرة الخمر؟ ألن يكف عن سلوكياته هاته التي باتت تخنقني حتى الموت؟
ثم أردف قائلا :
إما أن يتغير ويبحث عن عمل ككل الرجال، أو أترك لكما الجمل بما حمل، لن أصبر على هذا الوضع طويلا.
تمر أيام قليلة بعد ذلك، يستمر عمي غيه، لا ينهاه عن ذلك تبرم أبي ولا قلة حيلة جدتي، يتمادى في شرب الخمر وفي الغياب عن البيت، فيضطر أبي إلى الخروج من أجل البحث عنه نزولا عند رغبة جدتي ورضوخا لقولتها المأثورة عن السخط والرضى، يبحث عنه في كل مكان، بالمستشفيات ومراكز الشرطة، بالخلاء المحيط بالمدينة الصغيرة، أمام مراكز بيع الخمور، فتبوء جميع محاولاته بالفشل، يمر يومان أو ثلاث أو أقل أو أكثر، فيلوح شبح عمي بآخر الزقاق، وتهرول جدتي نحوه في محاولاتها اليائسة من أجل إسكاته.
تلك المرة كانت القشة التي قصمت ظهر بعير الصبر عند أبي.
– سأرحل عن هذا المكان، وانعمي أنت وإياه بالبيت وبكل محتوياته، لا أريد لأبنائي أن يترعرعوا في هذا الجو الموبوء، وليسامحكما الله.
حططنا الرحال ببيت جدتي الصفيحي ب “كريان سنطرال” بالحي المحمدي، أمي الجميلة حامل في شهرها الأخير، والاستعدادات قائمة على قدم وساق في انتظار المولود الجديد.
للحياة بالحي الصفيحي نكهة التوت البري، رغم مرارته وحموضته يبقى مذاقه لذيذا وتذوقه أمر لا يقاوم، أصوات الجيران وحواراتهم التي تقحمنا في خضمها رغما عنا، مناغاة الأطفال الصغار وصراخهم، رائحة الطبخ الشهية التي تعبر الجدران الخشبية حاملة معها مزيجا من الروائح المختلفة في توليفة مبتكرة تصيب الناس بالشبع فلا يجوعون أبدا رغم ضنك العيش، جلب الماء من سقاية “الصاكة الصفراء” على عربة صغيرة مصنوعة من قطع خشب مهملة وعجلات حديدية صغيرة، سيمفونية الأمطار على الأسقف ، وطبق الفول والحمص “طايب وهاري” الصباحي الذي يجود به جدي علينا ليكون وجبة فطورنا التي نجتمع حولها كفراخ الدجاج.
يبدأ جدي يومه باكرا، يتوضأ ويذهب لأداء صلاة الفجر جماعة بمسجد الحي، بعد عودته يباشر إعداد سلعته ومصدر رزقه، يشعل نارا بالتنور الكبير الموضوع بعناية على عربته المدفوعة، يضع فوقها آنية بداخلها فول وحمص وماء وملح، ويتركها تغلي إلى أن يحين وقت خروجه إلى أرض الله الواسعة طلبا للرزق، يخرج عربته المدفوعة بمساعدة أحد اخوالي، وينطلق إلى مكانه المعتاد بجانب “القيسارية”، نتحلق حوله فيقبل هذا ويحمل ذاك ويربت على كتف الآخر، ثم يتركنا ويذهب دافعا عربته، تاركا وراءه خيط دخان أسود يتموج كثعبان وسط الفراغ.
نتابعه بأعيننا الصغيرة إلى أن يتوارى عن أنظارنا، لكنه لا يتوارى أبدا عن مخيلاتنا، بقامته الطويلة، جلبابه الصوفي الأسود وذلك الشال الأصفر المزركش الملفوف حول رأسه على شكل عمامة، كان يملك ابتسامة جميلة تزيد من جمال ذلك الحول الخفيف الذي يستوطن عينيه، تصيبك نظراته بنوع من الخدر
المحبب إلى النفس، ينحدر من منطقة متاخمة لمدينة سطات حاضرة منطقة الشاوية، هاجر إلى مدينة الدار البيضاء ضمن موجة الهجرة القروية التي عرفتها البلاد غداة الحرب العالمية الثانية، استقر به المقام بحي صفيحي بالحي المحمدي، كان رجلا بسيطا كمثل آلاف المزارعين الذين تركوا أراضيهم الفلاحية الصغيرة بالبوادي ليلتحقوا بجحافل الباحثين عن الإلدورادو المفقود بالمدن الكبيرة.
لطالما ارتبطت بذاكرتي رائحة الخشب المحترق بذكرى جدي وبرائحة أنفاسه، كلما وقع نظري على بائع فول وحمص أتذكره، أتذكر طيبته التي ملأت نفوسنا فرحا، أتذكر جلسات المساء عندما كنا نتحلق حوله لنستمتع بحكاياته الخرافية وبأحجياته.
عندما صار عمري تسع سنوات، دخل المدير إلى الفصل وهمس بأذن معلمتي النمشاء دون أن يرفع نظره عني، نادتني الأستاذة “الدهيني” وطلبت مني التوجه إلى الإدارة، كان أبي هناك بانتظاري، عندما وصلنا إلى البيت وجدت خالي محمد بانتظارنا، لم أر قط عيني أمي أكثر حمرة من ذلك اليوم، كانت تبكي في صمت جنائزي، نحيب خفيف يجلل المكان، ركبنا السيارة وتوجهنا إلى بيت خالي بسيدي البرنوصي حيث كانت كل العائلة مجتمعة.
صوت مقرئ ينبعث من آلة تسجيل متوسطة الحجم موضوعة على كرسي أمام البيت، بعض النسوة ينتحبن بصوت مسموع، جدتي بلباسها الأبيض الملائكي، ورائحة الحنوط والريحان وماء الورد تستوطن الأنفاس، عندما خرج النعش محمولا على أكتاف أربعة رجال من بينهم اثنان من أخوالي، مغطى بثوب أخضر مزين بشراشف صفراء مذهبة ومطرز بآيات من القرآن الكريم توقفت أنفاسي كما توقف نحيب النسوة، وحدها جملة “لا إله إلا الله، محمد رسول الله” ظلت تتردد على ألسنة الجموع، وضع النعش بداخل سيارة نقل الأموات، وانطلقت متبوعة بالرجال باتجاه المقبرة.
لم يكن عقلي الصغير يستطيع استيعاب الأمر وفهم الموت كمخلوق ينفذ قدر الله، ما معنى الموت؟ أين يذهب الموتى؟ وهل يعودون؟ أسئلة كثيرة ظلت تتراقص برأسي وتسلبني النوم لليال طويلة، كلما جن الليل وخلد الجميع إلى مضاجعهم لاح لي شبح في الظلام يحاول الكبس على حنجرتي فأنزلق تحت الغطاء هربا منه، وعندما أخاتله لأنعم بالنوم لبعض الوقت كان يقض مضجعي فأستيقظ مذعورا مرتعبا من وسط كابوس تلوح لي فيه جثة جدي عارية موضوعة على حافة قبر مظلم لا قرار له.
استيقظنا ذلك الصباح من صباحات شهر مارس الربيعية على حركة غير عادية ب “البراكة”، فتحت عيني على مجموعة من النسوة من جارات جدتي يتحلقن حول والدتي بالغرفة الداخلية وأمي تحمل بين يديه رضيعة صغيرة جميلة كفلقة القمر، سأعرف فيما بعد أنها أختي، وستحمل اسم “حكيمة”.
تتعالى زغاريد النسوة فرحا بالمولودة، وتتوالى التهاني والتبريكات، لا تكاد تمر ساعة دون توافد الجيران أو افراد العائلة محملين بالهدايا وبأطباق “الرفيسة” المعدة بالدجاج البلدي، صرنا ثلاثة إخوة بعد أن اختطف الموت أخي هشام ولم يعرف الحياة إلا ساعة واحدة.
كانت ثنائية الحياة والموت تشغل تفكيري دائما وتدفعني إلى الغرق في بحر من الأسئلة الوجودية رغم حداثة سني، أين ذهب أخي هشام؟ ومن أين أتت أختي حكيمة؟ كيف حبلت أمي الجميلة ذات الوجه الروماني؟ ومن فعل بها ما فعل لينتفخ بطنها أمامها كل هذه المدة؟ ماذا يفعل الكبار وراء الابواب المغلقة عندما نخلد نحن الصغار إلى النوم ؟ ولماذا لا يختلي أبي بأمي كما اعتاد أن يفعل قبل أن نغادر بيتنا ونتركه لجدتي وعمي البهلول.
لماذا يفرح الناس بولادة أحدهم ما دام الموت سيتعقبه عاجلا أو آجلا ليأخذه بعيدا حيث لا سبيل إلى العودة؟ لقد أخذ مني أخي هشام دون ذنب، غافل أمي على حين غرة وانتزعه من حضنها دون أن يترك له فرصة ليشبع جوعه من حليب أمي الدافئ، واخذ مني جدي الذي كان يشبه ابطال الافلام التاريخية وترك عربته مركونة بركن البراكة، اشتقت إلى رائحة الخشب المحترق التي كانت تتسلل إلى خياشيمنا ونحن بعد نيام، اشتقت إلى طبق الفول والحمص الصباحي وإلى تحلقنا حوله، اشتقت إلى أحجياته وإلى يده وهي تمسد شعري، كيف ستعيش جدتي وحدتها بعد أن تركها جدي ورحل على نعش خشبي مغطى بثوب أخضر ولم يعد قط،، هو لن يعود كما لن يعود أخي هشام، لن أناغيه ولن يسيل لعابه على وجهي كلما قبلته، ولن تجد جدتي التي ترملت وهي في كامل عنفوان المرأة بداخلها سندا غير خالي محمد الذي كان يشتغل بإحدى شركات الخياطة التي نبتت في سنوات الثمانينيات كما ينبت الفطر بالأرض الخلاء، ومردود الأرض التي تكريها لأخيها مقابل نصيب من المحصول كل حصاد.
عندما أتى أبي ليأخذنا الى بيتنا الجديد الذي اكتراه بأحد أحياء مدينة المحمدية كانت أختي حكيمة لا تزال تنعم بالدفء داخلقماطها الأبيض، لم تتم بعد شهرها الثاني بمسرح الحياة. فتح أبي الباب ودخلنا لنجد البيت فارغا من الأثاث إلا من سرير بغرفة النوم، بعض الأفرشة والأغطية وبعض الأواني المنزلية بالمطبخ. كان البيت يتكون من غرفة نوم، صالون متوسط المساحة، بهو للمعيشة، مطبخ ومرحاض، وكان باردا وفارغا إلا من صوت فريد الأطرش المنبعث من مسجلة ستريو كبيرة الحجم ومكبرات صوت معلقة بالجدار، الصمت الخارج من الفراغ يزيد من شدة صوت فريد وهو يردد :
– أنا وانت ولا حد ثالثنا، أنا وأنت وبس…
كان أبي يردد الكلمات وهو ينظر إلى أمي الجميلة بتودد كأنه يريد أن يقول لها أن الليلة ستكون ليلاء بعد طول الفراق القسري الذي فرضته ظروف الحياة.
خلال الشهور التي تلت حلولنا بالبيت الجديد رأيت الفراغ يتسلل هاربا ليترك مكانه لبساط هنا، أرائك بالصالون أو كنبات ببهو المعيشة، امتلأ المطبخ بالأواني والكؤوس والملاعق والشوكات، احتلت ثلاجة بيضاء من نوع “راديولا” إحدى زوايا المطبخ، وازدان الصالون بتلفاز من نوع “كرانديك” وضع على طاولة بعجلات صغيرة وغطاء مطرز الجوانب، عندما نشغله يتغير لوناه الأبيض والأسود إلى ألوان الطيف القزحية بفعل الغطاء البلاستيكي الذي يغطي شاشته، هكذا كنا نحصل على تلفاز بالألوان كالقلة القليلة من الأثرياء في تلك الأيام، فيبدو البطل ملونا بشكل أفقي يصيب الناظر بنوع من الالتباس البصري، ويبدو العشب برتقاليا والحليب أسود كالبترول، وعندما تنقطع الإشارة او يغيب الصوت مخلفا صمتا لا يستهوينا، نرميه بالشباشب أو بالأحذية البلاستيكية التي كنا نضعها بجانبنا وكانت تقوم بمهمة جهاز التحكم عن بعد وتفي بالغرض في غالب الأحيان.
ارتديت وزرة مدرسية لأول مرة، وقفت أمام المرآة لساعة كاملة أتأمل شكلي الجديد، هنا تبدأ رحلة الألف ميل المحفوفة بالخيبات والإحباطات، من هنا يبدأ القدر في نسج خيوط مستقبل قد يحمل في طياته كل شيء إلا الإحساس بالرضا، يتدحرج المرء على منحدرات الحياة حتى يكاد ظهره أن يقصم، وينهض ويستجمع ما تبقى منه من قوة ليتابع المسير تحت وابل الأمطار والنوائب فتصيبه شظاياها بالجراح التي تترك بجسده ندوبا لا تنمحي، يحمل صخرته التي تثقل كاهله كسيزيف ويصعد بها إلى قمة الجبل، وكلما باءت محاولته بالفشل أعاد الكرة ليجد الصخرة قد ازدادت حجما وثقلا من ذي قبل، كل مرة تنضاف إليها آلاف الأطنان من الخيبة والإحباط والمشاكل التي لا حصر لها، يهيأ له عند كل مرة أنه بات قريبا من تحقيق المراد، فتصدمه قساوة الواقع لتبدد أحلامه، يتشظى كقطعة بلور سقطت سقوطا حرا على أرض غير مفروشة، فيلملم شظاياه ويعيد تركيبها باستعمال غراء الصبر والإصرار والحق في الحلم، يغالب القدر فيغلبه، هكذا هو ديدن الحياة.
من كان يظن أن صديقي أيام الدراسة الإعدادية إحسان، الذي كان نابغة في الرياضيات برأسه الكبير الحجم وشعره الأشقر المتجعد كباروكة عضو ببرلمان بريطانيا العظمى، سينتهي به المطاف داخل جسد شاب سلفي يرتدي قميصا قصيرا، يعفو عن لحيته ويحلق شاربه، بعد أن تخرج من مدرسة المهندسين وعمل بشركة تأمينات مرموقة كرئيس لقسم المعلوميات، هكذا بجرة قلم استقال من منصبه لأن أموال التأمين “أمر حرام”، وباع شقته التي اشتراها بأحد الاحياء الراقية لأن القروض البنكية “أمر حرام” كذلك؟
أمسك المدير بيدي ورافقني إلى الفصل حيث سأجلس على مقعد مدرسي لأول مرة، تلاحقني عيون زملائي الصغيرة بفضول كبير، شيء ما يدفعهم إلى إطالة التحديق بي، ربما يكون شعري الأشقر الطويل السبب وراء ذلك؟
يتكون الروض من فصلين اثنين ومكتب للمدير الذي لا أحتفظ له بذاكرتي إلا بصورة رجل أنيق جدا بلباسه الأوروبي القاتم وربطة عنقه الزاهية الألوان، معلمي “سي محمد” شاب في مقتبل العمر يرتدي دائما سراويل عريضة تشبه الاسم الذي كان يطلق عليها في السبعينيات “قائمة الفيل”، يضع قبعة كتلك التي تعتلي رؤوس أبطال أفلام رعاة البقر، ويحرص على ألا يترك شعرة واحدة بوجهه الصقيل.
سأقضى هناك سنتين كاملتين، سأتعلم خلالها الحروف الابجدية والقراءة والكتابة بخط جميل يستطيع قارءه فك رموزه بسهولة، سأحفظ بعض السور القصيرة من القرآن الكريم، والأهم من ذلك كله، سأحفظ النشيد الوطني وشعاره الخالد ” الله، الوطن، الملك”.