رشيدة.خزيوة
طنجة ..المغرب
0604507320
[email protected]
قصة قصيرة
ثورة بدوية ..
كان الجو ممطرا،بعض الخيوط القزحية تظهر من حين لآخر و تغيب تاركة روح الأمل تننسج بداخلك ألف حكاية و حكاية .
لم تكن ترغب في مغادرة الديار التي ألفتها و عشقتها، هي لم تر قرى أو مدنا غير قريتها النائية المفتقدة لأدنى وسائل العيش الكريمة، كل ما تعرفه عن العالم ،كان للتلفزة الصغيرة الفضل فيه .
لم يعد بإمكانها العيش وسط الأهل ،جمعت أغراضها ليلا عازمة الهجرة في أوائل صباح الغد.
لا أحد يعلم بمارقررته و نوته ،لو علموا سيكون حتما آخر يوم في حياتها .إنها إهانة، إنها بصمة شرف ستلطخ .كان عليها أن تبدو عادية حتى تحين ساعة الرحيل.
قضت ليلها ساهرة ،لم يغمض لها جفن ،أسئلة كثيرة تتتخبط في ذهنها لا تجد لها جوابا غير دموع منهمرة وآهات متحسرة .
صراخ الديك يعلن ساعة المغادرة ؛أخذت رزمتها الصغيرة ،كسرة خبز و بعض الثمرات ؛نظرت إلى إخوتها ،دمعت العين ،خرجت تتعثر خطاها بصمت حتى لا توقظ من بالكوخ المتهاري .
صافعها برد قارس ،اقشعر جسمها النحيف و ارتعد له قلبها الصغير .لا مفر ،لا سبيل للرجوع في القرار ،هو موت محقق إن ظلت بالقرية الصغيرة .
وصلت الطريق الرئيسية الوحيدة التي تربط قريتها بالدواوير المجاورة و المدن النائية،انتظرت وحيدة ،لا يؤنسها إلا نعيق بوم فوق غصن مائل ينتظر السقوط.
شاحنة بدت من بعيد ،دق قلبها الصغير فرحا ،أخيرا سيمكنها الرحيل و مغادرة مكان الخطر. كان للسائق سحنة سمراء داكنة و نظرة شرهة ،رغم ذاك عزمت و ركبت بجانبه ،لم يعد يهمها شيء غير المغادرة .
الطريق طويلة ،و كلما نظرت إلى السائق تحس بالرعب يمتلك سائر جسدها ،إنها مغامرة،كيف لم تفكر في الأمر قبل الركوب ،كان عليها ان تنتظر الحافلة العمومية ،ياه..أسئلة تزيد من قلقها و خوفها ،لم ينقطع حبل تفكيرها
بكل ما وقع و كل ما قد يقع.
صوت السائق يكسر رهبة الخوف:
-ما اسمك يافتاة؟
بصوت يكاد يسمع :
-فاطنة
-امم مزيان فين غادة ف هاذ الصباح مبكرة
لا تجيب ،يعيد السؤال بنفس التهكم :
فين غادة؟
-غ هنا ..تجيب بصوت مرتعش ،المدينة الاولى التي ستصادفك.
تنظر من النافذة ،ثم ت أخذ رزمتها تفتحها تأخذ ثمرة .
-هاك نشركو طعام.
يضحك و ينظر إليها:
-فين أتاي ؟
تبتسم ،فقد فهمت أبعاد كلامه ،لم تكن يوما بليدة!
فضلت أن لا تجيب ،أحيانا يفي الصمت بالجواب و يكون أبلغ من الكلام ،هكذا كانت تسمع أمها و هي تحكي مع جارتها أم خديجة :
-سكتي ما تجاوبيهش ،ينبح حتى يعيا و يسكت .
درس تعلمته جيدا ،و في مواقف كثيرة تعود إليه. كلنا نصمت في أوقات معينة ،ليس عجزا عن الكلام أو عدم قدرة على اختيار الكلمات ،و لكنه وعي منا مسبق، أن الكلام كعدمه في بعض المواقف الحرجة أحيانا و المؤلمة جدا و التي لن تسعها حروفنا الأبجدية .
السائق لا يمل ،و لا يعجبه اسلوب الصمت الذي أعلنته فاطنة ،،حب المعرفة و استطلاع الأمر يحثه على المزيد من الأسئلة.
– أراك حزينة ،و كأنك كنت تبكين ..
في حالة لا شعورية ،ترفع فاطنة يديها نحو عنيها و تداعبهما بلمسة خفيفة و كأنها تؤكد ان لاشيء بها و أنه مجرد عياء و تعب .و تصمت مرة أخرى.
لا رغبة لها في الكلام ،ذاكرتها مشغولة باستعراض شريط من ذكريات أغلبها مؤلم و مخجل.
ما ترغب فيه الآن هو الوصول إلى محطة . محطة لا تعرفها لا إسما و لا موقعا ،قد تكون محطة من حياتها الآتية التي تجهل لها العنوان ،قد تكون في اي مكان و تحت أي شكل ،لا سبيل لها للاختيار ،هذا الاسلوب الأخير لم يكن له وجود في قاموس حياتها ،لم تتعود عليه يوما ..”نعم “..كانت لغتها التي تعرف على الدوام اما “لا”فكانت منبوذة في قرية لم يكن تعترف بالمرأة إلا في أوقات معينة ،عند أشغال البيت ،و عندما يرخي الليل سدوله.اختصروا لها الدور حد محو هويتها الإنسانية ..موجودة فقط لإشباع رغباتهم ،أكلا و مشربا و جنسا،بقرة حلوب ،تطعم و تلد .
محو لآدميتها و لكل شعور يجعلها تحس من خلاله أنها موجودة بكيان مستقل له اختيار و شروط و مواقف .
استغلال فظيع من الصغر حتى القبر .
أن تكون امرأة في قرية تقدس الرجل، ليس سهلا ،فحياتك لن تغدو على أن تصبح ظلا له وتنفيذا لأوامر لا تنتهي و لا ترحم .
أغلب نساء القرية تعلو وجوههن ندوب الزمن العسير،رسم أخدوده على محيى خلق جميلا و فقد الكثير من بهائه بفعل العنف الأسري و الإهمال.أنوثة ضاعت تحت أقدام رجال همهم الوحيد فرض الهيمنة و التسلط ،و كأن الرجولة في نظرهم اختصار لهاتين الكلمتين فقط.
فاطنة أو فططن كما كان يحلو لأمها أن تسميها ،فتاة القرية الثائرة على التقاليد و العادات أو كما تقول هي بلكنتها البدوية “قرية المكلخين و اكلمعقدين”
لم تكن تقول “لا”جهرا و لكن أعماقها كانت ترفض تلك ال “نعم”التي تنطقها غصبا عنها ،و تنفذ عكس ما يطلب منها،كيوم موعدها مع ميلود جارهم ،الذي تحبه و تعشقه ،قرب البئر ؛بحثت عنها أمها و لما حضرت،صفعتها بعصبية:
-ألم أنبهك بعدم الخروج في مثل هذا الوقت!
تبكي و تجيبها :
-خرجت فقط لأحضر دلو ماء ،يكون باردا في مثل هذه الساعة .
و رمت بالسطل أرضا ،و ارتمت على الحصيرة تبكي بهتانا .
تتذكر ذلك ،و تعود صورة الحبيب أمامها بوجهه الجميل و شاربه الاسود ،تسرع دقات قلبها و يعتصر فؤادها ألما :
-كم اكرهه..كم اكرهه..!
يلتفت السائق إليها :
-ما بك ،أراك منزعجة ..!
تقفز من مكانها و كأنها كانت في غفلة أو في عالم آخر:
-لا ..لا شيء ،فقط بعض التعب !ممم ،ألا تريدين الكلام معي ؟و كأني بك خائفة مني
-لا سيدي “حاشا “..فقط، يصيبني الدوار عندما أركب سيارة أو شاحنة ،نحن هنا معتادون على ركوب الحمير و البغال فقط .
-أشك في أمرك يا فتاة ،تبدين مضطربة.
لا تهتم بما قاله و كأنها لم تسمعه ،تطل من النافذة و تحاول تغيير وجهة كلامه
-هل ترى كم هي جميلة قريتنا ،الطبيعة رائعة ،و الطريق مخضرة، يا لهذا البهاء ! هل تسافر كثيرا؟
-نعم ،كل يوم أمر من هنا ،هل تريدين العودة معي ؟
-لا ..لا..لن أعود ..
تتدارك الأمرامم ليس الآن على الأقل ،ربما لاحقا، فلدي أشغال كثيرة قد أتاخر لبضعة أيام.
-عموما سوف أعطيك رقم هاتفي إن أردت يوما العودة يمكنني إيصالك .
سيدي ،أنت طيب فعلا!
-لماذا لا تريدين الحديث بصراحة؟ أحس أن لديك سر ما ..لست غبيا أيتها الصغيرة !
-لا أسرار لدي سيدي ..متعبة فقط ،و كما سبق و قلت ،لا أستحمل ركوب الشاحنة ،تضيق نفسي و أحس بالغثيان .هلا توقفت قليلا من فضلك؟
يركن الشاحنة بجانب الطريق ،تنزل هي بخفة و تجري ،تختار مكانا تخوي فيه كل ما لم تهضمه معدتها الصغيرة ،تعود و قد كسى وجنتيها اصفرار باهث و احمرار طفيف حول عينيها مع بعض الدموع الخفيفة .ينظر إليها ،يربث على كتفها يناولها زجاجة ماء :
-يبدو أن الأمر جدي ..هيا لنكمل طريقنا .
-شكرا ..ترد بصوت يكاد لا يسمع.
الطريق بدت طويلة جدا ،لا بؤنسها إلا نبض قلبها الذي يعلن العصيان و يدق بسرعة لم تعهدها من قبل ،يكاد ينفجر صدرها ،تضيق نفسها ،تشرب كاس ماء ،تفتح النافذة الصغيرة علها تخفف من شدة التوثر الذي رفع حرارة جسمها إلى أقصى حد .
-هل اقتربنا سيدي ؟
-نصف ساعة و نصل لأول قرية ،هل ستنزلين بها ؟
-أممم …لا أعرف ..آه ..ربما!
-أراك لا تعرفين مقصدك ،لا طريق لك واضح ،هل أنا مخطئ؟
سؤاله أعادها الى بؤرة الوجع ،الى ميلود،إلى العنف ،إلى اغتصاب الطفولة ،إلى حقدها على مجتمع يعتبر من في القرى مجرد جرذان لا يستحقون الحياة ،إلى القسم الذي أقسمته بأن تدافع على الصوت المقموع و تلفت نظر المسؤولين إلى مشاكل التهميش و اللامبالاة ،فلها العنوان الصحيح،تلك الجمعية التي كتبت اسمها ذات مساء و هي تتابع نشرة الأخبار و الذي كتبته بخطها الرديء الذي قد لا تفهمه إلا هي .
تترتبك من جديد ،يؤلمها كل هذا الصراع الذي بداخلها و الشكوك التي بدأت تراود السائق ، يتلعثم لسانها،تخونها الدموع و تنهمر كشلال متدفق .
تحاول أن تصمد،لا أمل ،تنهار كليا ،ترتفع حرارة جسمها ،ترتعد ثم تغيب كليا ..
يضطرب السائق ،يخفض من سرعة الحافلة ،يتجه صوب اليمين معلنا إشارة الوقوف .
-يا إلهي ..ما العمل !
يرفع يديها ،يحاول إيقاظها ..لا جدوى،يضربها على وجهها محالا زعزعتها..جثة هي..لا تحرك ساكنا ..يصيبه الخوف و القلق ، يأخذ كأس ماء ،يرش وجهها بكل قوة ..كأس ثاني ..و ثالث ..تفتح عينيها ،تنظر إليه تقول :
من أنت ؟
أين أنا؟
اتركني ،لا أعرفك ..و تبدأ في الصراخ ..
لا يدري ما يفعله ،يحاول إسكاتها بكل مو أوتي من قوة ،لا فائدة ..تصرخ و تصرخ ..
يتوسل إليها بان تصمت،يشرح لها انه فاعل خير فقط ،يناديها باسمها ،يحاول طمأنتها ..لا تستجيب و كأنها بركان مشتعل لا مجال لحصر لهيبه ..
يتوثر أكثر تصيبه نوبات خوف و غضب ،يحاول إسكاتها ،يضع كفه على ثغرها ،تقاوم ،تعاند و لا تكف عن الصراخ ،يزيده ذلك إصرارا ،يضغط أكثر ،و أكثر و أكثر ..تسكت فاطنة ..
ساعات مرت و كأنها سنين ، في كوخها الصغيركان كل أهل القرية يحملقون النظر إليها و مائة سؤال و سؤال ..
تفتح عينيها ،ينحني صاحب الشاحنة ،يهمس في اذنها :
-على سلامتك..لقد قلت لهم انني وجدتك تائهة في الطريق ..ضربك “حمار الليل” ،رزمتك عندي ..كوني عاقلة فقط..!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حمار الليل”التسمية التي يشاع استعمالها في الوسط الشعبي لظاهرة المشي دون ادراك او ما يعرف بنوبات المشي اثناء الليل دون ادراك