ط
مسابقات همسهمسابقة القصة

جنون المرايا ( تداعيات ).فصل خاص بمسابقة القصة القصيرة بقلم /حسن خلف عبد الحميد من مصر

حسن خلف عبدالحميد
مصر / قنا
المشاركة في مسابقة مهرجان مجلة همسة للآداب والفنون (الدورة الثانية)
في مجال القصة القصيرة

جنون المرايا ( تداعيات )

مسرعا دلفت الى الحمام ، غسلت وجهى ورجلت شعرى كيفما اتفق . هذا المنبه اللعين لماذا يدق متأخرا دائما وكانما يستمتع بحالة الرعب التى ابدوا عليها كل صباح . فالسيد الوكيل رجل لا يرحم يقف كل صباح فى غرفة المعاون منتعلا لحيته وجهامته وقدرا من الغباء لو وزع على بغال الارض لكفاها , لا يرد صباحا ولا سلاما ولايتردد لحظة فى التنكيل بأى موظف يتأخر عن موعد الحضور ولو لدقيقة واحدة , التأخير ببساطة يعنى التحقيق والخصم ، يعنى ان تتنازل سناء عن الفستان السواريه الذى ترغب فى حضور زفاف ابنة خالتها وهى ترتديه من باب الخيلاء ولأن الفستان- كما تتوهم – سوف يأكل قطعة من جسدها الذى تحول الى كومة من اللحم تكفى لحل مشكلة الغذاء فى كل دول القرن الافريقى ، ولأن سناء لا يمكن ان تتنازل عن شىء ترغب فى اقتنائه الا بعد فاصلة من البكاء تنتهى عادة بتركها البيت الى منزل والدها المقاول، الذى يشترى لها ما تريده ويعيدها فى نفس اليوم بصحبة امها التى تسم بدنى بكلماتها عن ابن اخيها مبيض المحارة الذى يعمل ويعيش فى الكويت مع زوجته واولاده عيشة تتمناها اية امراة ,
مضيفة بكثير من القرف
– انا عارفة ايه اللى عاجبك فى الخايب ده
لا لا الا فستان سناء ، وحذاء محمود ايضا لا يمكن تأجيل شرائه اكثر من ذلك فالعام الدراسى يدق الابواب ولا يجب ان يشعر الولد بانه اقل من رفاقه . التأخير اذن يعنى اننى سوف أؤجل شراء( مائة عام من العزلة )* شهرا آخر, اف.
ارتديت ملابسى بسرعة والقيت نظرة اخيرة على صورتى فى المرآة وكدت
امضى لولا ان لاحظت شيئا غريبا , ان صورتى فى المرآة ثابتة لا تتحرك , حركت رأسى يمينا , يسارا , رفعت يدى لاعدل ياقة القميص ، رفعت حاجبى دهشة , اخرجت لسانى , لا شىء . لم ابالى كثيرا وان كان شىء من القلق بدا يتسلل الى نفسى ، ليس منطقيا ان المرآة اصابها شىء ما , فيروس مثلا ,
ام اننى سافكر على طريقة السيدة القبيحة التى اعتقدت ان المرآة مخادعة او انها سيئة الصنع ، ما ذا ؟ هل بدأت اهذى ؟ ماذا يعنينى ان تحركت صورتى فى المرآة ام لم تتحرك ؟ لتذهب الصورة والمرآة الى الجحيم , المهم اننى انا اتحرك كيفما يحلو لى , اذهب الى عملى , العب الدومينو او الطاولة مع رفاق المقهى , واقرأ احيانا , بل حتى اننى امارس الجنس , صحيح ان سناء لم تعد تلك الفتاة الرقيقة التى تثير فى النفس مزيجا من الحنين الغامض والتوتر اللذيذ بعينيها السوداوين المأهولتين بغوايات طازجة وشفتيها المكتنزتين فى تناسق دقيق مع استدارة الوجه الابيض الضارب الى حمرة خفيفة بلون الورد , كانت سناء ضحكة تمشى على قدمين خاصة حينما اقلد لثغتها المحببة هاتى
( بوثة ) تضحك فيهتز جسدها الطرى اهتزازات اشبه بتلك التى تحدث لاطباق الجيلى , انا اعشق اطباق الجيلى , واعتقد اننى احب سناء .

هيجان بشرة وجهى هو ما يلفتنى عادة الى ضرورة ان احلق لحيتى , ولكن كيف لى ان افعل وقد التصق وجهى بالمرآة التصاقا لا انفصام له , نفس الوجه الاسمر المستطيل والعنينين البنيتين الغائرتين غير ان عتمة ما قد استوطنت الآن محجريهما , نفس الانف المستقيم الكبير نسبيا والفك , الفك السفلى اللعينة لماذا تتدلى الان فى بلاهة مقززة , هو وجهى بلا شك غير انى لا اكاد اعرفه , ان امورا صغيرة ربما تدفعنا الى الجنون , والآن ماذا على ان افعل ؟ هل استعين بسناء , هل اذهب الى الحلاق , هل اشترى مرايا جديدة , هل اذهب الى طبيب نفسى , ماذا اقول له ؟ يبدو الامر مضحكا على وجه من
الوجوه , ربما طلب توقيع الكشف على المرايا , عندما وصلت فى تفكيرى الى هذه النقطة انفجرت فى ضحك هستيرى ازعج الشمس فغادرت وتركت مكانها لليل والكآبة . لكننى فى الصباح قررت ان ابتهج . دق المنبه دقاته المتوترة فاستيقظت فزعا , جلست فى الفراش استعيد تفاصيل حلم الليلة الفائتة، كنت امشى فى صحراء موحشة وعطش حارق يكوى حلقى , كان الليل مرخيا استاره ونجوم ، نجوم كثيرة لامعة كأنما اصابتها رعدة ما فبدأت تتساقط تباعا , ابواب ، ابواب كثيرة نبتت فى قلب الصحراء , على كل باب يقف احد الذين اعرفهم , ابى , الوكيل , سناء , امى ، محمود , جدى بطوله الفارع ووجهه المشرق ولحيته البيضاء الوقورة وابتسامته الطيبة , كان يمد لى يده لكننى عبرته غير مبال بيده الممدودة وابتسامته , كنت جائعا وخائفا , وهناك امامى مباشرة كان باب ، باب ضخم يناطح السماء وكان هو واقفا امام الباب , لم ار صورة له من قبل فكيف تيقنت انه هو , نعم هو ( نيوتن )** وبيده تفاحة , ربما نفس التفاحة التى سقطت على رأسه , اسرعت خطاى اليه , مددت يدى لآخذ التفاحة , لكنه ابتسم ابتسامة غامضة ثم القى بها فى الهواء فطارت عاليا وتناثرت الى اجزاء ، تحول كل جزء منها الى نجم لامع , لامع , عندها انحنى ” نيوتن ” قليلا وفتح لى الباب فعبرت. بدا الحلم غريبا ولا تفسير له غير انى شعرت بهدوء عندما استعدته , لا رغبة بى فى النوم او فى رؤية وجه السيد الوكيل . خمسة وثلاثون عاما مرت وانا امارس حياتى بالضرورة وحدها , ماذا يحدث ان مارستها مرة واحدة بالرغبة , ليكن اليوم تدشينا لرغباتى . غادرت الفراش وامسكت بالمنبه الذى ما يزال يطلق زفراته الرتيبة المزعجة , القيته على الارض فتناثرت اجزاؤه وعم هدوء , تقلبت سناء وانقطع شخيرها , وضعت جسدى تحت الماء البارد فتسلل خدر لذيذ الى اجزائى المفككة , فكرت فى اصطحاب صنارتى والتوجه الى
( الكورنيش )*** , الصيد متعة لم امارسها منذ سنوات , استسخفت الفكرة ,
ليس فى ذهنى شىء محدد , المشى يساعدنى على التفكير ، شارع 23 يوليو ، زحام ، صوت ابواق السيارات يختلط بصوت العفاسى وتامر حسنى برائحة الفلافل والسمك المقلى ، كتلة بشرية طويلة ومتراصة امام باب الجمعية التعاونية فى انتظار صرف كراتين البيض او كيلوات اللحوم الاثيوبية المدعمة التى قاموا بحجزها ربما قبل شهر ، بنات فى عمر الزهور ، مجلوات ومهيأت للحب لكن المواسم مطفأة ، رجال وشباب يتحركون بقوة الدفع الذاتى وعلى كل الوجوه تعبير واحد لا يتغير ، هو مزيج من الانهاك والقرف يبيعون ، يشترون ، يتصايحون ، يتدافعون ، يلتفون حول منصور بائع الجرائد الذى يفترش رصيف جامع التحرير ، يتصفحون العناوين الرئيسية ، ينفخون انفاسهم ويسبون دين الغلاء والبطالة والفساد والحكومة والبلد الذى تحول الى سلة قاذورات ، خطوات وظهر المبنى الضئيل العتيق لـ ” دار المعارف “, محشورا بين مطعم ( كويك دور ) وسوبر ماركت ( الهاشمية ) ، اخيرا
( ماركيز )**** , سطر , سطران , ارتفع ضجيج الموظفين , فهمت من سياق الحديث انهم يتحدثون عن مباراة الاهلى والزمالك الاخيرة , كانوا يعلقون ويحللون وينقدون , يتعصبون ويحتدون ويتوعدون ثم يضحكون , يحدث هذا بينا عيناى تلتهمان عناوين الكتب , تهافت التهافت , ازهار الشر, تاريخ الطبرى , فى الادب الجاهلى , الفتوحات المكية , شخصية مصر , رأس المال , الجريمة والعقاب , كتب , كتب فى كل مكان , من الارض الى السقف , عالم اسطورى ساحر , خلاصة افكار الاخرين , تجاربهم , خبراتهم ومعارفهم , والمعرفة اصلى , بدئى ومنتهاى , غواية الغوايات , شهوتى الكبرى , متعتى وعذابى , شهوتى التى مارستها طيلة عمرى على استحياء , ليس على استحياء ولكن كلما سنحت الظروف , ها هى تتفجر الان كالفضيحة , كالخطيئة الاولى التى ارتكبها الشيطان , هل كان ابليس جاهلا حينما قال ( انا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين ) *****, هل كان الكبر هو الخطيئة الاولى ام
الجهل , هل كان يريد ان يعرف , لماذا لم يعلمه الله , لماذا كانت المحاباة لآدم , ما الحكمة وراء هذا الصراع الابدى، ما الهدف؟ افقت لأجد نفسى ممددا فى سرير , فى مستشفى , وشىء يخرج من يدى , خرطوم دقيق ينتهى بزجاجة بلاستيكية شفافة بها محلول ملحى على ما اعتقد , كانت معلقة فى حامل حديدى صدىء , تناثرت اسفله زجاجات عصير وعلب زبادى فارغة , بقايا خبز وجبن ونتف من عظام دجاجة , صداع يضغط على رأسى وفقرات رقبتى , عاصفة من روائح المطهرات والبنج ومدرات البول تجتاحنى , تكتم انفاسى , انات خافتة وضجيج طاحن ينتشر فى المكان كالسرطان , ممرضات يخرجن , يدخلن وبأيديهن امبولات ومحاقن , ما الذى اتى بى الى هنا ؟
– اغماء , قالت الممرضة وهى تغرس ابرة فى ذراعى
تذكرت , دار المعارف , ماركيز , والشيطان .
الجنيهات العشرة التى نقدتها اياها كانت كفيلة بأن تسمح لى بالخروج دون انتظار لتصريح الطبيب.
لم تكن بى قدرة على السير او رغبة فى العودة الى المنزل , ركبت اول سيارة اجرة قابلتنى واتجهت الى ( بسمة الجنوب ) هناك احب ان اشرب قهوتى كلما اعترانى الصداع الذى صار يزورنى كثيرا فى العامين الاخيرين , اجلس الى ابعد طاولة عن همسات العاشقين , اضع سماعة الاذن فى الهاتف وانصت الى
( شتراوس )****** و ( عبدالباسط عبدالصمد ) , لا تمر سوى بضعة دقائق حتى اشعر بهطول المطر على روحى , اغتسل , دائما ينتابنى نفس الاحساس باننى ابيض ونظيف تماما كالبرد , دارت عيناى فى المكان دون امل فى العثور على طاولة فارغة وفى طريق عودتهما ارتطمتا بعينى دلال المقتحمتين , لا يعترينى الفضول عادة لولوج العوالم السرية للاخرين لكن دلال حالة خاصة , كلام كثير يدور حولها فى المصلحة حتى ان احمد فتحى موظف الشئون القانونية اخبرنى وهو يكاد يذوب من فرط النشوة انه اغضب زوجته خصيصا ليأتى بدلال الى شقته
فلما قلت علام هذا الجنون وكل النساء يتساوين فى الظلام رد بثقة العالم ببواطن الامور ولكن دلال لا تحب الظلام ، على العكس انها تصر ان يظل النور موقدا , وان تتعرى تماما دون اى غطاء ولها فى ذلك فلسفة خاصة , تقول ان العرى هو الاصل فلماذا اخجل من اصلى , ان متعتها الكبرى ان ترى نفسها فى عيون الرجال وهم يلعقونها بكل الجوع الذى يسكن ارواحهم , لها شامة فى فخذها الايسر قريبا من مكمن السر يجب ان يقبلها الجميع , هذه هى دلال , امرأة تاخذك ربما قبل ان تأخذها , لا تهدأ ولا تشبع ولا تفلتك من تحتها حتى تخور قواك تماما فتتركك مكوما كالخروف وتقف امام المرآة , تتلوى وتتاود وهى تفرك حلمات ثدييها باطراف اناملها , الغريب انها فى كل مرة تفعل ذلك بعشق يشبه الخشوع , والاغرب هو الاسم الذى اختارته لنفسها ,
( عشتار )******* ، من عشتار هذه يا مصطفى ؟
اشارت دلال بسبابتها تدعونى فالتفت حولى علها تعنى سواى ، اطلقت – لما رأت ارتباكى – ضحكة طويلة ممطوطة جعلت العرق يتصبب باردا على جبهتى وظهرى ، فتحركت مغادرا حتى لا اكون هدفا للعيون المتطفلة وانا منتصب هكذا على اطراف ذكورتى ، دق جرس الهاتف فظهر رقم
– الو
– ايه يا مصطفى ، مشيت ليه ، مش ينادى عليك ، تعالى ، ولا اقولك خليها بالليل ، هستناك عندى فى البيت ، انا بحضر رسالة الماجستير وعايزاك تراجعهالى ، انا اصلى نيلة فى العربى ، وعرفت انك احسن واحد يعمل الحكاية دى ، الساعة تسعة ، متتأخرش ، باى
وساد صمت متوتر مشحون ، الساقطة ، هكذا بكل بساطة تدعونى الى بيتها مغلفة الدعوة بحجة قوية ، فى الحقيقة لم تكن دعوة ، بنت الــ ….. ، كان صوتها آمرا وكأنها موقنة بأننى سوف اذعن لرغباتها ككل الرجال الذين مروا على جسدها ولم يتركوا اثرا يذكر ، انها حتى لم تسألنى ان كنت اقبل عرضها ، ان كان وقتى
يسمح ، ان … ، ليكن يا دلال ، سوف ادق ذاتى وشما بين فخذيك ولنكتب معا صك عبوديتك .
يبدوا اننى قطعت المسافة مشيا ، فها هو دكان رجب الحلاق يقترب بانواره الزاهية وصوت ام كلثوم المنبعث من الراديو العتيق الذى يصر العجوز على الاحتفاظ به رغم التطويرات التى ادخلها ابنه سالم على الدكان ، كان رجب جالسا جلسته التاريخية امام باب الدكان ، يجهد عينيه فى قراءة الصحيفة اليومية ، ولا يريد ان يصدق أنه يقترب كثيرا من العمى
سلمت عليه ، لكنه لم يشعر بوجودى ، وظل ممعنا فى قرائته ، كان سالم يضع موسى الحلاقة فى زجاجة تحوى مادة مطهرة ، ثم يمسحه جيدا بمنديل ورقى نظيف، ابتهج لما رآنى
– اهلا استاذ مصطفى، اتفضل
بينى وبين سالم صداقة رغم فارق العمر ، ارى فيه شبابى ، ويرى فىَ قدوته رغم تعليمه المتوسط ومهنته المتواضعة فانه يحمل بين كتفيه رأسا متوهجا ، لا يكف عن توجيه الاسئلة كلما دخلت الى دكانه لحلاقة شعرى ، يريد ان يعرف كل شىء ، اعرته كل الكتب التى قرأتها خلال السنوات الثلاثة الماضية ، كان يقرؤها ثم يناقشنى فيها مناقشة الند للند ، افرح كثيرا بمناقشاته واندفاعاته ، لكننى اليوم مشغول ، دلال تحتل رأسى ، وذلك المسخ فى المرآة ، لم يتغير شىء فى الصورة ، لا ، هناك تغيير بلا شك ، ولكن ما هو ، اه ، انها الفك ، هل عادت الى موضعها ، نعم بالتاكيد ، ليس ذلك فقط ، ولكن ابتسامة ما كانت ترتسم على شفتىَ.

هوامش

* رواية ماركيز
** اسحق نيوتن مكتشف قانون الجاذبية
*** كل الاماكن الواردة بالقصة هى اماكن حيقية بمحافظة قنا
**** جابرييل جارثيا ماركيز روائى وصحفى وناشر وناشط سياسى كولمبى
***** سورة الاعراف آية رقم “12″
****** يوهان شتراوس ( الابن ) موسيقى نمساوى من اشهر مؤلفاته الدانوب الازرق
******* الهة الحب والخصوبة عند البابليين

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى