قصة قصيرة. .حب….خال من الدسم ….بقلم ا/ نورا الزين حلاب
قصة المعاناة التي ترقد في أعماق اغلب النساء .
شكراًtripolie poste .
شكراً طلال شتوي لأيمانه باسلوب كتاباتي كأيمانه بجودة الأحلام ….
حب… خالٍ من الدسَمْ
ملاصقاً لسور المستشفى، حيث كان يعتصم بائع الكعك بمنقله وكعكاته الشهية التي إستوقفت المرأة لتنتقي منها قمراً ذهبياً ساخناً شَرعت في إلتهامه بشهية مفتوحة وحدها تعرف سرّها.
كدشة وراء كدشة من العجين الساخن والزعتر كانت تجرفها في نشوة عارمة من الأخذ بالثأر من ذاك الرجل الذي يرقد في المستشفى أمامها على سرير أبيض تحفه أغطية بيضاء.
هو نفسه الذي أوصاها البارحة على كعكة يزعتر بها خفية عن طاقم الأطباء والممرضات ونظامهم الغذائي الصارم.
تبسّمت لنفسها منتشية حين لاحظت القمر الذهبي الدافئ بين يديها، يتناقص تدريجياً ويكاد يصبح هلالاً يتلاشى بسرعة قياسية.
لجمت شهيتها المفتوحة على كل الإحتمالات. لفّت بالورقة ما تبقّى من الكعكة، دسَّتها في حقيبتها وإنطلقت تصعد السلالم نحو باب المستشفى منتصبة القامة مرفوعة الرأس واثقة الخُطى، لا يخالطها أدنى شعور بالذنب أو الندم على نصف كعكة ستعطيها لهذا الرجل الذي لم يُعطِها طيلة مسيرة حياتها سوى مجموعة انصاف.
أعطته حباً كاملاً، قلباً كاملاً، عمراً كاملاً، ودائماً كان بكامل قواه العاطفية لا يتصدّق عليها سوى بنصف قلب، بنصف حب ونصف عُمر.
حتى حين وعدها ببيت الأحلام بنى لها نصف بيت تاركاً أعمدة الأساسات على السطح منتصبة تتورم تعباً من الوقوف وتتثاءب ضجراً من الملل.
ملل من طول إنتظار عائلة لم تكتمل.
حتى القدر تآمر عليها معه فخذلها على طريقته حين أهداها هذا الرجل الذي كوّنت معه نصف عائلة فقط دون أبناء. رغم ذلك أصَرّت أن تكون له عائلته الكبرى من الأم والأخت والحبيبة، حتى الزوجة والأبنة، رغم علمها جيداً أنها ربما لو حَمَلت إسم غيره لَحَملتْ ربما بقبيلة من الأطفال.
هو القدر وهي مستسلمة لقدرها ساكنة ذاك السكون المتخاذل الأحمق قانعة بقسمتها ونصيبها بذاك النصف الفارغ الذي يَمنّ به عليها والذي لا يروي ولا يُسمِن ولا يغني عن جوع.
كانت تخطو برشاقة مُلفِتة في ممر المستشفى يخالطها شعور خفيف بالشبع حين تذكرت أنها سَنَدت قلبها منذ قليل بنصف كعكة ساخنة إقتنصتها من حصة هذا الرجل الذي لن يطال منها بعد اليوم سوى النصف من كل شيء. بدءاً من نصف الكعكة ستنقلب الآية.
ستكون باسلةً، ستستجمع شجاعتها المتخاذلة وإصرارها لتسترجع منه كل ما لها بذمته من أنصاف، عبر ربع قرن، وتبدأ هي بالتالي تتصدّق عليه وهي بكامل قواها العقلية والعاطفية.
من قلبها لن تهبه سوى النصف. ومن حبها ستحجب عنه النصف، حتى جسدها لن تدعه بعد اليوم يتحلل بكامله بين ذراعيه، ستعطيه نصفه الصنم البارد، المبلّد الأحاسيس وتحتفظ لنفسها بنصفه الدافئ النابض بالحب والحياة.
منذ الغد حين يغادر المستشفى سليماً معافى ستباغته بسياسة الند للند، العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم ومثلما تراني يا جميل أراك.
كانت أفكارها تغافلها متسللة تجتمع بين شفتيها تمتمات شبه مسموعة وسط حلقة أشخاص ظلوا يُحدّقون إليها بفضول غريب وهي تتخذ مكانها بينهم أمام باب المصعد تنتظر بدورها وصوله. شعرت بالأحراج، إبتلعت ريقها، علّقت حقيبتها في كتفها ثم شبكت يديها على صدرها متجاهلة الأمر، شاخصةً ببصرها مع الشاخصين بأبصارهم نحو الإشارة الضوئية وهي تشير الى المصعد في الطبقة الأرضية.
حين فُتحَ الباب وولجت المجموعة داخل الكابين كان عددهم معها لا يتجاوز الخمسة أشخاص، ضغط كل بدوره على رقم طابقه وأخذ ينتظر لأكثر من خمس ثوان، أخذ المصعد يئن ويعنّ مستنفراً كل قواه ليحملهم ببطء شديد لفت إنتباه المرأة وأثار همة تفكيرها.
عزت الأمر لسلامة المرضى ربما أو للحرص على راحتهم أثناء نقلهم ربما.
كان عقلها يشتُّ في إتجاه بينما خيالها يجنح صوب إحتمال آخر. لعله لم يكن مجرد مصعد عادي بقدر ما كان حمالاً للهموم. يحمل همّها وهم هؤلاء الأفراد المحيطين بها.
إختطفت من الوجوه حولها نظرة عابرة. لا إبتسامات في مصاعد المستشفيات، ليس هناك سوى التنهدات والكل يغني على مواله الحزين.
كانت المرأة عن يمينها تزفر الزفرة تلو الأخرى والرجل عن يسارها يتمتم راجياً رحمة الله وفرجه، حين فتح الباب وأُفرج عنهما معاً في الطابق الأول عند قسم العلاج الكيميائي والأمراض المستعصية. سبحان الله، أخذت المرأة تحدث نفسها، بالتأكيد هما قريبا شخص عزيز دخل نفق هذا العلاج المشؤوم طامعاً بوصلة إضافية إصطناعية من الحياة.
في الطابق الثاني إستراح المصعد أمام قسم الولادات والأطفال حيث أحد لم يدفع الباب. أخذت تتخيّل رواد هذا القسم وزواره، بالتأكيد لا ينتظرون المصاعد، اقدامهم تصعد السلالم بخفة الغزلان محمَّلين بهدايا الحدث السعيد، علب الشوكولا، باقات الزهور وافراحهم بالمولود الجديد. حماسهم وحده كفيل بأن يحملهم حتى الطابق العاشر على رجل واحدة، سبحان الله… كانت تتمتم لنفسها وهي تغادر الكابين عند الطابق الثالث حيث جناح العناية المركزة وأمراض القلب والشرايين.
ركّزت حقيبتها على كتفها وانطلقت تقطع الممرات الطويلة بخطواتها المتراصّة حتى بلغت الغرفة إياها حيث دفعت الباب برفق وحذر تتفقّد رجلها، فأذا بها تعاين فراغ المكان. إرتجّ قلبها في صدرها وكاد يقع فريسة أسوأ الأحتمالات لولا تلك الممرضة التي أسعفتها في توضيح الملابسات. «لا تجزعي يا سيدتي زوجك في العناية الفائقة بعد تعرضه البارحة لنوبة قلبية، اتبعيني لزيارته من فضلك.»
في غرفة العناية المركزة أعطوها جهازاً كامل التعقيم، من غطاء الرأس، الى الروب الأبيض حتى الجوارب المعقّمة ثم أوصوها التوجه مباشرة نحو الغرفة الزجاجية حيث يرقد المريض مع التقيّد بالتعليمات.
«احرصي سيدتي على ألا تمسّي شيئاً في طريقك حتى لا تنتشر الجراثيم، أخذت تخطو نحوه بتأن، كانت تحفّها طاقة حب فتشّعُ منها هالة افكار وتساؤلات. ترى اليست اشعاعات هذا الحب الذي يملأها كفيلة بتعقيم تلك الأرجاء حولها. خيالها كان جامحاً، أما عقلها فكان يتولى أمر ردّه لجادة الصواب، يخبرها حقيقة لا مناص منها في هذا المكان هنا، حيث لا يؤمنون سوى بما تشير اليه الأجهزة والأنابيب وتسجله الآلات التي يرقد بينها الرجل على ظهره.
تأملته، سبحان الله هو نفسه الذي بقي لسنوات طوال يدير لها ظهره، عادت قضية الأنصاف تشوّش على تركيزها، كيف أسرفت قلبها لتفديه؟!
كيف بذّرت كامل حبها لترضيه؟!
كيف سفحت كامل عمرها عند قدميه لتسعده وترويه؟!
كيف وكيف ،كيف كانت هي وكيف كان هو بكامل قواه العقلية والعاطفية شحيحاً وضنيناً لا يتصدَّق عليها سوى بنصف قبلة، بنصف حبه، بنصف إهتمامه معظم الرجال من حولها يخصمون سلفاً من حصص نسائهم نصف قلوبهم، نصف حبهم ونصف إهتمامهم.
أكثر النساء من معارفها يكابدن مثلها وجع تلك الأنصاف وسوء مرارتها. كانت تتقدم منه وهي تحدّق به عاجزاً لا حول له ولا قوة، ودّت ساعتها لو ترشقه بسهام تلك الأسئلة الصعبة.
– ترى أين يذهب الرجال بكنوز أنصافهم؟!
– ماذا يفعلون بها؟ هل يرمونها في البحر مثلا؟!
نورا الزين حلاب
أين يهدرونها؟! هل يختزنونها لأمرأة اخرى؟!
هل لديهم في الأساس شحّاً في عواطفهم؟!
أم يكدّسونها في صدورهم عمداً عبر السنين حتى تنفجر بهم ذات ليلة في نوبة قلبية؟!
أخذت تدنو أكثر فأكثر من العازل الزجاجي، صدرها يعلو ويهبط على وقع أنفاسها الدافئة المتلاحقة على صفحة الزجاج بقعاً ضبابية تتبينه من خلالها. كانت تقرأه وكان يرنو إليها بحب كبير، عيناه منصّة اعتذار تتلوان عليها قصيدة حسرة وندم، طاف في بالها ساعتها إحتمال وخطر لها ما لها بذمته!! كان مديناً لعمرها بمخزون الحب الهائل.
ماذا لو قرر الآن أن يصفّي حساباته أو يبرئ ذمته أمام ربه ونفسه فيعيد إليها حقها من قلبه ويفرغ لها مرةً واحدة كل بيادر حبه. ماذا ستفعل عندها؟!
كيف ستتدبر الأمر هي التي أصبحت في المقلب الثاني من العمر؟؟
ربع قرن كانت خلاله تَضخُّ في أيامه حباً غنياً كامل الدسم، غذاءً ملكياً للقلب والعقل والروح. ربع قرن قضاها ذاك الرجل يمتص رحيق هذا الحب يشرب من زبدته ولا يشبع!!
كيف سيعيده إليها اليوم وقد صار بلا لون ولا طعم ولا رائحة. لم يعد يلزمها حبٌ صار ماصلاً!!
سيعيده اليها حباً خالياً من الدسم…