ط
كتاب همسة

حسنة سوداء لأيمن عبد السميع وقراءة نقدية للكاتب أيمن دراوشة

حسنة سوداء

قراءة نقدية في قصة “حسنة سوداء” وهي القصة المختارة من المجموعة القصصية “مواسم ما بعد العشق” والتي صدرت حديثًا للقاص المصري أيمن عبد السميع حسن.

حسنة سوداء … رؤية واقعية شديدة الالتصاق بالحياة اليومية.

تأليف / أيمن عبد السميع حسن

رؤية نقدية / أيمن دراوشة

النص:

( 1 )

يوم الجمعة .. في الصباح الباكر ..

فتحت عيني متوجساً ، بعد نوم مضطرب .. اقترب مني طفلي الصغير    ( حسام ) البالغ من العمر أربع سنوات .. معه كنت أشعر بشلال من المشاعر الدفاقة .. يده ( النونو ) تلاعب شاربي .. تتحسس ( شامة سوداء) ، كانت بالقرب من أنفي .. نطق بدوافع لا شعورية ..

*بابا أنت هتدخل الجنة !!.

ابتسمت .. ولم أتكلم .. عاد يتحسس وجهي

*هتدخل الجنة علشان عندك حسنة سوداء في وشك !!.

لم أكن بطبعي أجيب .. غمرني دفء المكان .. فقبلته….

كان بالكاد يمد جسده نحوي ويلف إحدى يديه متمتماً عبارات بشفاه مرتجفة ..

 

( 2 )

في اليوم التالي ..

عندما انفتح الباب نفثت الشقة رائحة زمن قديم ، وأنفاسا محبوسة .. بينما تقدم مني (حسام ) بتؤدة ، وقال بسذاجة طفل:

*باب .. أنا عايز حسنة سوداء في ركبتي علشان ادخل الجنة زيك ..

* غداً ستكون عندك حسنة يا حبيبي ..

وضممته إلي صدري ، فرأيت جسداً صغيراً لم ينضج عقله بعد ..

( 3 )

هكذا أعلن ( حسام ) فرحته .. عندما استيقظ ووجدها في ركبته .. راح يتنطط في الشارع .. حتى روحه البريئة أخذت ترفرف معه .. تكاد تنطلق من جسده يستعرضها وسط هرج وزحمة أطفال الشارع..

*عندي حسنة سوداء .. ربنا هيدخلني الجنة !!.

( 4 )

كان ضوء القمر يفرش السماء .. عندما وقفت ،انظر من النافذة لمحت النور المبهج يشق طريقه مع انحسار الليل .. كان (حسام) يرفس الهواء وسط رفاقه في ضوء القمر .. تخرج من البيت المقابل لبيتنا سيدة في العقد الرابع من عمرها مغطية رأسها بشال (كموني ) ينسدل علي صدرها .. يلمحها (حسام) .. فيرتمي في حضنها ..

* عمه .. عمه .. عمه ..

لكن نباح الكلاب الذي كان يتردد داخل الحارة وضع حداً للبهجة .. كانت أبواب البيوت مفتوحة لا تنغلق إلا في ساعات الليل الأخيرة ..

( 5 )

كانت عيناي تتابع السحب المتحركة في تثاقل ، نطق لساني :

* إنا الله وانا إليه راجعون

نعم تذكرت( أم حسام ) رحمها الله .. وتذكرت يدي وهي ترسم بقلم ( الفولمستر ) الحسنة السوداء لــ ( حسام ) وهو غارقاً في النوم ….

 ( 6 )

مع صفار الشمس .. عدت من عملي .. يدي تقبض علي الحقيبة ( السامسونيت ) .. قال (حسام) وهو يلهث من اللعب مع الأطفال:

*حمد الله علي السلامة يا بابا ..

حملته بحنو .. قبلته .. كان متصبباً بعرق مترب أعطيته كيس ( الشبيسي ) بعفوية وتلقائية عبر عن مشاعره الندية .

( 7 )

دخلت معه دورة المياه .. خلعتُ ملابسه الداخلية و( ترينك ) جديد .. وقف (حسام) عارياً يصرخ بحرقة عندما امتلأ وجه برغاوي الصابون .. فأخذت أصب علي رأسه الماء وهو يقف علي كرسي خشبي صغير .. نظر لأسفل .. فصمت علي غرة .. وعاد يهمهم بالبكاء .. بكاء مكتوم .. هز رأسه .. كانت أعضاءه ترتعد وهي تتقاطر بالماء ..

في هذه اللحظة تمنيت أن أسافر بمفردي لأعرف سر بكاء حبيبي (حسام ) .. نشفت جسده

( بغياره المقلوع ) .. لازال يبكي بصوت مكتوم .. ورأسه منكسة لأسفل .. لم أدرك الموقف .. رحت اربت علي كتفه الصغير .. كان مخاط انفه يتدلى دون أن يسقط ..

تنفست بعمق شديد ، عندما لمحت يده الصغيرة تتحرك علي ركبته تبحث عن شئ .. نعم لقد مُحيت ( الحسنة السوداء ) .. محاها الماء الساخن والصابون .. عاد يمسح مخاط انفه .. وصوته يشهق .. ويشهق ..

* آهه يا سي بابا .. الحسنة مشت .. فهل أدخل الجنة الآن ؟!

تعلق بصري بسقف البيت .. عروقه خشب بارز اسود من الدخان وسلك مدلي ليعلق بها (الناموسية) .. أومأت له برأسي .. ويدي تدغدغه تحت إبطه .

* سندخل الجنة يا حسام بإذن الله ورحمته !!!!.

لحظتها .. تنفس ( حسام ) بعمق.. كأنه يتنفس لأول مرة منذ سنوات .. وابتسم.

القراءة النقدية

حسنة سوداء هي القصة السابعة من مجموعة القاص المصري أيمن عبد السميع والتي حملت عنوان “مواسم ما بعد العشق “. ولا شك أنَّ القصة تجربة ذاتية عبرت عن لحظة في حياة صاحبها، وكان بطلها الطفل الصغير “حسام” الذي هو بحكم براءة الأطفال مقتنع تمام الاقتناع أنَّ الحسنة في الوجه أو الجسم بشكل عام، تدخل من امتلكها الجنَّة، ولهذا كان يقول لأبيه من خلال حوار مُحكم أن هذه الحسنة ستدخلك الجنة يا بابا، مما دفع بالأب بأن يقوم برسم الحسنة على ساق ابنه وهو نائم، لتبدأ احداث القصة بالتصاعد التدريجي الدقيق.

يوظف الكاتب أيمن عبد السميع فنًّا يقوم على التركيز والتكثيف، مستخدمًا اللغة البسيطة غير المعقدة في وصف اللحظة، فالحدث بسيط ولا يحتاج استعراضًا ولا فخامة في اللغة، مع تطعيمها أحيانًا باللهجة الفصيحة العامية …

لم يهتم الكاتب بالتفاصيل، فلم يبتعد عن الفكرة، فمضى قُدما في تعميق اللحظة، التي يصورها، لكي تعطي إيحاءً مركزًا حول ما تدل عليه.

وهذا يتطلب قوة التركيز، وحرارة الوصف لتعويض القصة ما فقدته بقصر حجمها، وهذا ما فعله الكاتب في جميع قصص مجموعته “مواسم ما بعد العشق”

والملفت للنظر في أسلوب القاص، هو أن سرده للحدث أو الأحداث يشبه قصيدة النثر  ، وهذا واضح بإيقاع قصص المجموعة الفكري والجو النفسي الواحد ، وكذلك استخدام اللغة بدقة دون زيادة أو نقصان، مما ساهم بإبعاد القصص عن الاختلال ، فهي مثل القصيدة أدَّت في النهاية إلى وحدة الانطباع الذي تتركه في ذائقة القارئ.

لقد كشف لنا الكاتب من خلال هذه القصة موقفًا بسيطًا، أدَّى في النهاية إلى كشف حقيقة كبرى، فالموقف في القصة عادي مألوف، وبراءة الأطفال والموروثات تجعل منه شخصًا مكثرا وملحا بأسئلته التي لا تنتهي وقناعاته بما يسمع!

هذا الموقف البسيط تم تفجيره، فنتج عنه إيحاءات ثرية نستشفها من العنوان ” حسنة سوداء ” أو كما يسميها البعض شامة او هالة …

ولكي يفجر الكاتب هذه الدلالات نجده يؤلف بين شكلي القصة الحديثة، والحكاية الشعبية القديمة، وهذا المزج الفني يحمل في طياته ربط الحاضر بالماضي، ويتضح هذا في هذا الشاهد من النص ” نعم تذكرت (أم حسام) رحمها الله.. وتذكرت يدي وهي ترسم بقلم ( الفولمستر ) الحسنة السوداء لــ ( حسام ) وهو غارقاً في النوم …”

من هذا كله يتضح أنَّ القصة تعبر عن لحظة إنسانية ساخنة، وتدور حول محور واحد تكثف حوله التعبير والدلالة، ومع أول سطر يقودنا الكاتب نحو حادثة عادية يوليها اهتمامه الخاص- وهي اعتقاد الطفل بأنَّ الحسنة في الجسم تُدخل صاحبها الجنة بغض النظر عن أفعاله وأعماله، لنخرج في النهاية بانطباع كلي حول الحدث المصوّر، ولحظة النهاية عندما مسحت الحسنة بالماء والصابون، وانهيار الطفل لأنه سيذهب للنار، ليقنعه الأب بأنه سيدخل الجنة برفقته، إنها لحظة التنوير التي برع بها الكاتب، لتظل القصة حاضرة في ذهن المتذوق حتى بعد الانتهاء من قراءتها

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى