الاسم: أحمد مصطفى إبراهيم الغـر
المدينة: السنطة ــ محافظة الغربية ــ جمهورية مصر العربية
العنوان البريدي الإلكتروني:[email protected]
باءت كل محاولاتى بالفشل فى أن أجعلها تنام ، تُصر على أن أحكى لها “حكاية قبل النوم” ، هكذا عودّتها والدتها ، لكن والدتها سترافق شقيقتها الصغرى فى المشفى ليومين حيث سَتُجرى عملية جراحية ، مشكلتى أنى لا أعرف قصصاً مثل “الأمير والمهرة [1]” أو ” مغامرات السندباد” .. أو غيرها ، لا أعرف سوى العناوين فقط !
إقترحت عليها أن تحكى هى لى قصة من القصص التى قصتها عليها والدتها سابقاً ، لكنها أبت ذلك ، وأصرت على أن أتولى أنا مهمة الحكى ،و يا لها من مهمة شاقة ! ، أقنعتها بأنها لم تعد صغيرة كى أحكى لها “حدوتة” قبل أن تنام .. لكنها غضبت وأعلنت أنها لن تنام ولن تذهب الى المدرسة غداً لولم أحكى لها واحدة ، يبدو أن كل النساء يأبين الإقتناع بأن العمر يمرّ !
إستحضرت كل ما علقَ بذاكرتى من فتات حكايات قديمة ، لكن وجدتُ أنى مؤلف سئ وقاص ردئ ، فقررت ان أحكى لها القصة الوحيدة التى أجيدها ، تلك التى تلتصق بذاكرتى كما يلتصق الجلد بعظام ضاع اللحم من فوقها مع الكبر ، إنها حكايتى ….
سأحكيها لها ..
فى يومٍ من الأيام ، وجدتنى مندفعاً فى الركض فى شارع قريتنا الكبير ، رغم انى لم ألتفت ورائى الا مرة واحدة منذ أن بدأت الركض ، إلا أن هول الوراء الذى رأيته جعلنى أتمنى لو أنال نظرة اخرى خاطفة تمنحنى رغبة أقوى فى عدم إبطاء حركتى نحو الامام.
وكأن الجمر مفروشاً تحتها يمنعها أن تزداد مدة إلتصاقها بالأرض .. كانت قدماى تتحركان فى ثنائية متوالية النقر على الطريق ، بدت الخطوط البيضاء المتقطعة المرسومة عليه كأنها شريط متصل بلا فواصل ، و أنا أحشد بقايا قوته على الحركة لأزيد من سرعتى ، يكاد قلبى ينفجر كلما زادت نبضاته.
المبانى على الجانبين كأنها جماهير غفيرة إصطفت لمشاهدة السباق الماراثونى ، لكنها صامتة بلا هتافات او تلويح ! ، تتساقط أوراق الأشجار على الرؤوس رغم اننا مازلنا فى الصيف ، أدقق النظر محاولا أن أتبين خط النهاية الذى يبدو أنه لن يأتى أبداً ، فى هذه القرية لا يوجد سوي طريق واحد مرصوف ، هو شريانها الذى تتفرع منه باقى الأوردة الى كل ربوعها .
بخطوات متداركة و زفرات متنهدة حثيثة .. أنطلق فى مهمة البحث عن ميدالية المعدن النفيس أو ربما مصير مجهول ، تكاد الشمس تقترب منا فيغلى الأسفلت تحتنا ، بين الحين والآخر تهب رياح ساخنة فتلفح وجوهنا المتصببة عرقاً و أعيننا الممطرة دمعاً ! “
أتأمل جفنيها الرقيقين وهما يتقاربان كضلفتى باب على وشك الانغلاق ، فأتوقف عن الحكى .. فّإذا بها تفتحهما فجأة .. وتطالبنى أن أكمل .. وبمجرد ان أعاود الحكى فإذا بها تغلقهما تماما معلنةً السبات العميق، وحتى صباح الغد لن يفتح الباب الموصود على عينيها ، إلا عندما أوقظها كى تستعد للذهاب الى مدرستها.
أتساحب ببطء من الخيمة بهدوء ، أشعر بضيق فى التنفس .. فأذهب الى الخارج .. أجذب كرسى الخيزران وأجلس مرتخياً ،أحاول أن أتأمل الممر الضيق بين الخيام فى الزعترى[2] ، يذكرنى بممرات القرية الضيقة المتفرعة من شارعها الأكبر ، فتعاود حكايتى للظهور،تقضُّ مضاجع نومى وتسرقه من عينى ،هل يمكن انسى؟! ..”لا !” .. تستفيق فى ذهنى فجاة نوبة من الذكريات الشاردة ، فأتذكر: القرية الهادئة ..الشارع الطويل المرصوف ذو المصابيح ، الناس الباسمة ، الحقول الموجودة على أطراف القرية والتى تحاصرها.
كنا صغاراً ، لكنها كانت أجمل لحظات حياتنا ، كنا نترك القرية لنذهب إلى الحقول المترامية على أعتابها ، لم يكن يخيفنا نباح الكلاب أو يفزعنا نقيق أوركسترا الضفادع المنتشر أعضاؤه فى كل الحقول ، الذبن يروق لهم العزف مع غروب الشمس ، لكننا أبداً لم نتبين متى ينتهوا من نوتتهم الموسيقية ، فعندما يبدأ الليل يفقد سواده ليستسلم لبعض ملامح الفجر .. كنا نعود مضطرين الى منازلنا ولم يكن العزف قد توقف بعد.
كان كل شئ هادئ ، يكاد لا يتغير ، الأيام تتشابه لدرجة تشعرك بان الزمن شبه متوقف ، حتى جاءت أيام تغير فيها كل شئ ، إستمرت القرية عامين تعانى من دانات المدافع التى تسقط فجأة على أطراف الحقول ،والقنابل التى ترميها الطائرات غير مبالية فى أى مكان ستسقط ، حتى أن واحدة منها قد سقطت على الوحدة الطبية وأصيبَ الطبيب وقُتِلَت الممرضة الوحيدة ،ولم نعرف كيف نداوى الطبيب المصاب الذى أخرجناه بالكاد من تحت الانقاض ، كانت الأيام رتيبة .. فمن لم يمت اليوم .. ينتظر حتفه غداً أو بعد الغد ، حتى جاء يوماً مشئوماً لم نتوقعه !
لا أعرف تاريخ ذاك اليوم المشئوم ، فتشابه أيامنا جعلنا لا ننظر فى الروزنامة الا نادرا ، إلا اننى قد عرفته لاحقاً من الصحف ، إنه الحادى والعشرين من أغسطس 2013م ، لقد كان يوماً حزيناً ومخيفاً لأهل القرية ، وللأطفال على وجه الخصوص.
كنا نركض بأقصى سرعتنا هرباً من السموم التى تلقيها الطائرات علينا ، البعض لم يكن يصدق ما يحدث ، لكن كأننا فى سباق ماراثون إنطلقنا ، لقد قرر النظام ان يستخدم السلاح الكيماوى ، الحمدلله أن الصغيرة قد نامت قبل ان تسألنى عن سبب ركضنا الذى لم يتوقف حتى وصلنا الى خارج القرية تماما ، بل إجتزناها الى قرية أخرى حيث أغاثنا اهلها.
قليلون هم الباقون على قيد الحياة من أهل القرية ، يتذكرون تلك المأساة الكارثية الحزينة ،لأسابيع إستمروا فى عدّ الجثث و دفنها ، وامتلأت مداخل البيوت بالحزن ،على أى حال الحزن كان مغروساً فيها منذ عامين ، فهو ليس ضيفاُ جديداُ على القرية.
أتذكر بعد أن عدنا الى القرية بعدها بأيام .. أين القرية الحالمة المترعة بالهدوء والسكينة؟! ، ماذا حدث للشارع المشجر الذى بدا وكأن معاول الخريف قد أتت على كل أشجاره فجردتها من ثيابها الخضراء رغم أننا مازلنا فى صيف أغسطس ، حتى الحشرات الصغيرة التى كانت تأتى وافدة من أطراف المدينة لترقص محتفلة بضوء المصابيح الملونة حتى تسكر فتسقط على الأرض .. هى ألان ساقطة لكن بدون مصابيح !
الجميع كانوا يبكون حزناً وحسرة على ما حلَّ بأقاربهم وبيوتهم و زروعهم وماشيتهم ، خيمَ الحزنُ العميق في سماء القرية كظلامٍ حالك طرد القمر، ليترك القرية غارقة فى عتمة الحزن.
وما أن خرجت عمتي من دارنا التى سبقتنا إليها حتى سمعت زعيقاً وصراخاً لينضم الى صراخ الامهات الباحثات عن أولادهن، فلم يصدقوا ما حدث ولم يتصوروا أن الهواء الذي نتنفسه قد اتخطفَ مجموعة من أبنائهم ، لقد غيّب الموت ابنة عمتي الصغيرة ، قضينا يومنا الاول بعد العودة فى جمع الجثث في مدرسة القرية بجوار المسجد للصلاة عليهم فى الصباح ودفنهم، أصوات وصراخ النساء الباكيات كان يُسمع من بعيد وإستمر حتى ذاك الصباح الذى أتى بعد عناء طويل من الانتظار.
لقد كان يوماً مأساوياً ، ولم يترك الحزن في ذاك اليوم بيتاً إلا و طرق بابه ،
تحدث بعض الناجون من الجيران إلى عمتى فى الغد: “أن ابنتها ربما كانت ستنجو بحياتها ، لولا ان الطائرات قد إستبحات الهواء فحقنته بسموم قاتلة” ، لكن الحزن قد قطع أحشاء قلبها ، وجلدت الدموع عيونها فباتت لا تبكى كأرض أصابها الجفاف بعد ان سحبت كل مياهها الجوفية ، وفى نفسها أسفٌ منكسر على طفلتها التى لم تستطع أن تفعل شئ لتنقذها.
كان علينا ــ نحن الناجون ــ ان نستعد ونعرف كيف سننجو لو إستباحوا الهواء مرة اخرى ؟! ، كان مجرد السؤال يقتلنا قبل أن نبحث له عن إجابة ، على الأقل لم يعد ألأن كذلك ، لقد لملمنا ما تبقى وعبرنا الحدود كلاجئين .. وكان الحزن من ضمن المنقولات العابرة معنا ، ولم يفارقنا حتى ألآن.
مسكينة .. صغيرة عمتى ، قُطِفَت كالزهرة قبل أن تتفتح أوراقها ، صورتها لا تفارق ذاكرتى الممتلئة بصور زملاء الدراسة وأصدقاء التسكع بين الحقول .. الذين قضوا أيضا فى ذاك اليوم.
مُلئت عيني بدمعة كادت تترجانى أن أنسى ليلة الحزن تلك ، وأن أبحث عن شيء آخر أدعه بعضاً من مشاعر الآسى ، فتذكرت إبنتى الصغرى التى على وشك إجراء جراحة فى صباح الغد ، إذن علي أن انهض لأنال قسطا من النوم … لكن أي نوم سيأتى بعد هذه الذكريات ! ، يبدو اننى بحاجة الى من يحكى لى حكاية تنسينى حكايتى ،وتجعلنى قادراً على النوم.