ط
مسابقة القصة

خاص بمسابقة القصة القصيرةأ( أنا وأنت وذكريات لاتنسى ) بقلم غادة هيكل

أنا وأنتِ وذكريات لا تنسى
**************
ينفث دخان سيجارته فى الهواء، تتكون سحابات كثيفة يراوغها فيحرك فيها شريط الذكريات ، هنا كنت أغازل الشمس فى الصباح، فأكون عقدا من الحروف تنسج لى أحلى الكلمات ،وفي الليل أعقد من خيوط القمر ألوان قوس قزح فأرسم أعظم اللوحات ، وهنا أحببت ألف أمرأة ركعن لى بلا حياء،والأن هن هناك وأنا هنا ، أرسمهن في خيوط عرائسي ، أحادثهن في أركان لمسنها فتركن آثار أظافرهن فيها ، على هذا الجدار ترقد الشقراء ابنة العشرون عاما وأنا كما أنا ابن الثلاثين ،هههههههه! ألم أزل شابا
نعم : ينظر إلى المرآة بجوار الطاولة التى أصبحت سكنه الدائم، وكرسيه الهزاز، وقطته الأليفة التى تحتضن أنامله كلما غدا أو راح، يلفظها فتعود : أنت فقط من تعودين..! لماذا تعودين ؟ فلترحلي مثلهن، فقد رأيت كيف تركنني بلا مسحة أسف على وجوهن الملونة !
أواه عليهن من غادرات خائنات نهلن من حرفي، ورسمنني على صدورهن وشم ملاك حتى اكتفين .وصنعت لهن أسماء، الآن هن الملكات ، وكن جوارى منذ زمن ليس ببعيد.

هل تذكرين تلك السمراء ،كم أحببت نظرة عيونها، كقطة برية متمنعة مراوغة ممشوقة القوام
ألا يعجبك ما أقول ؟
نعم أحببتها كمثلهن جميعا، فكل واحدة سكنت قلمى ورقصت فوق سنونه، وتربعت على لوحاتي ونقشتها بألوانى، ورسمتها جنية شقراء أو سمراء ذات مجون أو ذات حياء ، كلهن وقفن أمامى عاريات ، وكلهن أحببتهن سواء .
إلا هى : لم تكن مثلهن بل كانت كلهن .
ينفث دخان سيجارته بعنف ، يعلو صدره ويهبط ، وفجأة يقوم من مجلسه، يترك محاورته الأليفة فى غضب ، يدلف إلى حجرة مكتبه ، يعبث بالأشياء المبعثرة ، يصادف كفه عش عنكبوت تسلل بين الأتربة ونسج خيوطه ، يرميه بقوة ، تعانده الأتربة المتراكمة ، لم يعد صدره يحتمل ، ينتابه سعال مفاجئ ، يحاول كتمانه، ولكن لماذا لم تعد هنا ، لكى أخاف من علو صوتى وهذيانى بكلمات ألعن فيها سعالي !
كانت تقترب منى فى هدوء، تحتضنى بقوة ويداها تدلكان صدري المفتور، فتسكن كل جوارحي، حتى ذكراها تريحنى يا لها من فوضى عبثت بي بعد رحيلها!
ها هى صورتها الوحيدة التى تركتها لى بعد عناء ورجاء ، كانت تخشى مني، لا تثق فيّ حتى ركعت بين قدميها، وأقسمت لها ألا يراها أحد .
يعود إلى طاولته، يرمى بجسده فوق كرسيه الهزاز وهى ترقبه وتتمسح برجليه تشب لتراها.
يبتسم لها، ها هى، نعم.. هى سمراء رهيفة القلب، مليحة العينين، عذبة الصوت، رقيقة الملمس ، طلبت أن أرسمها فرفضت قالت:أنا طيف لن تراه إلا فى منامك .
صدقت.. فهى الآن طيف أراه فى سحابة دخان لا تنتهي ،رسم الحزن على ملامحه سحابة كآبة لم تحتملها رفيقته فهربت بعيدا، وغاص هو في دخانها مغمض العينين ليلتقى بمحبوته في القطار .
في مقصورة القطار تلاقت عيونهما ، ابتسامة ضيافة ثقيلة ، يتأفف لأن رفيقته سيدة تخفى وجهها فلن تكون سفريته مريحة.
اتخذ كل منهما جهة مقابلة بجوار الشباك ، خلعت معطفها وكشفت عن وجهها ، فلم يتمالك نفسه، أصدر صوتا لم يخفه إلا وضع يده على فيه ، صعق لرؤية هذا الجمال المصرى الأصيل، فكم من امرأة عرف.. وكم من جمال سطر حسنه ورسم حلاوته ، ولكنها ليست مثلهن ،
جمالها طبيعى لم تلوثه صبغات الألوان ، شفاه بضة بلون الفراولة الناضجة ، وعيون عسلية تشعان بهجة ،يبرز منها لؤلؤتان بحجم مجرة صغيرة، تتنهدان صعودا وهبوطا مع حركات القطار السريع، يزيدانه لهفة للمسهما فى صومعته الخاصة ، يا لها من لوحة ربانية !ويا لك من ماجن تحب العبث بالجمال ؟!
لم يكن اللقاء صدفة تحادث نفسها ، أنت يا من تركع لك النساء، ويحطن بقلمك فيراقصهن كعرائس المولد ،أيها المغتر بنفسك ،وبفرشاتك وألوانك ، هل تفكر الآن كيف تمتلكني ، كيف ترسمني ، أم كيف تمارس العشق معى؟
تنظر إليه وينظر إليها، كل منهما يتيه ويعود ..في لحظة ما فقد كل منهما صبره وتعالت الكلمات فوق الشفاة الصامتة كالبركان ،
هو: من أنت؟
هى :أنت الكاتب المشهور …..
ـ نعم أنا هو
ـ وأنا واحدة من المتيمان بقلمك .
يضحك ساخرا :الآن سهلت المهمة علي ، ستقترب أكثر
ذئب يصطاد ضحيته، وضحية تحيك شباكها بقوة .
تجاذبا أطراف الحديث فسكن كل منهما للآخر، ووجد فيه ضالته ،انطلقا إلى صومعته .
وهنا عاد إلى دخان سيجارته من جديد ، ونظراته تتجول بالمكان ، هنا جلست وهنا وقفت وهناك وضعت يدها حول خصري تداعب أذني بلمستها البرية المتوحشة وتهمس لى كم تحبنى
وتعلو ضحكاتها ، وبسرعة تجيب :أعرف أني واحدة أخرى فى دفتر مواعيدك .
لماذا صمت وانعقد لساني ؟ لماذا لم أتمسك بها ؟ وما تلك الضحكة المنفرة التى أطلقتها عجبا وتيها بقولها.
لا لم تكن واحدة منهن.. لم تكن أبدا مثلهن ،
لم تعبث بدفاتري لتنتقي أحلى العبارات وتتزين بها في محافل الكُتّاب !
لم تسكرني بخمر شفتيها لأكتب لها قصائد حب تذيلها باسمها وتتغني بها !
لم تحفر اسمي موشوما على صدرها كما فعلن ،
لم أرسمها بفرشاتى لوحة عارية من أخمص قدميها إلى أطراف شعرها !
لم ترهقنى بأسئلة العشق الفاجر، لتخفي عنى حقيقة عطشها للشهرة !
لم تكن يوما مثلهن .
واليوم أنا هنا ..فأين هى؟
إنها في أحضان حب زائف، لا يملك منها سوى جسد لا تملكه هى الأخرى بل امتلكته أنا!
في ثوب عار كم تمنت أن تمزقه أمامي إن أنا أردت ،
في حضرة قلب لا يعرف كم تهواني ، وكم كتمت هواها لعبثي ومجوني وفظاظتي
الآن هى هناك، وأنا هنا معك أيتها الأليفة الصماء، وسحابات دخان، وكرسي هزاز، وسكون الليل الموحش ، أنا وأنت .

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى