ط
مقالات نقدية

خالد صالح ..وداعا ..بقلم ياقوت الديب

خالد صالح
يتوالي في مصر سقوط عمالقة الثقافة ونجوم الفن ورجال الأدب ، بشكل مخيف ومرعب ، منذ بضع سنوات مضت ، وكأنهم جميعا كانوا علي موعد مع القدر المحتوم ، ليرحلوا واحدا بعد الأخر ، ليتركوا لنا تعاسة أبدية لاتمحوها السنوات ، وحياة بهت لونها وضاعت رائحتها ومسخ طعمها ، وباتت الساحة تكاد تخلوا من الإبداع الفني الرصين ، والأدب الرفيع ، والثقافة الموسوعية ، التي كان كل منهم يختزنها داخله ، ويحملها كرسالة ، كرس لها حياته من أجلنا ، أملا في إصلاح ما أفسده الدهر ، وطمست معالمه الأيام ، وخلفه هذا الزمن الرديء الذي فرض غلينا لنعيشه من بعدهم. وكم أنت جبان أيها الموت ، تأتي إلينا بغتة دون سابق إنذار ، ودون أن توحي بإشارة تنبيء عن غدرك الدفين ، ودون التصريح أو التلميح بسبب مجيئك خفية … تأتي لتختطف منا أعزاء وأقرباء وأصدقاء وأهل وأحباب … تأتي بمنتهي الخسة ، وتنتزع من من حولنا مالايمكن تعويضه أو تبديله أو الاستغناء عنه … كم أنت قاس أيها الهادم للذات ومفرق للجماعات ، وباعث اللوعة والحزن والأسي ، فيمن تتركهم يتعذبون ويتالمون بعد فراق غال أو عزيز ، بلا رحمة أو هوادة أو رفق  تتركهم يقضون ماتبقي لهم من العمر ، يعيشون حياة لوعة الفراق وشقاء النفس وقلق الروح ، إلي أن يلحقوا بالسابقين.

عندما نراجع أسماء راحلينا من النجوم والمشاهير ، خلال هذا العام الذي لم ينصرم بعد ، نجده عام الحصاد الكبير ، عام الطمع اللامحدود للموت اللئيم ، عام البكاء الغزير والحزن الكثير ، وعام الكآبة وضياع معالم الطريق … فقدنا في هذا العام المشئوم ، علي الترتيب: السيناريست الكبير “ممدوح الليثي” … الفنانة القديرة “زيزي البدراوي” … الإعلامية الكبيرة “سهير الأتربي” … الإعلامي الشهير “محمود سلطان” … نجم الكرة الأسمر “طه بصري” … الموسيقار الكبير “عطية شرارة” … المخرج الفنان “مدحت السباعي” … الفنانة الجميلة “ليلي جمال” … “الفنانة القديرة “زهرة العلا” … الفنان الشامل “حسين الإمام” … الكاتب والمفكر السياسي “سعد هجرس” … الفنانة الجميلة “فايزة كمال” … الكاتبة العظيمة “فتحية العسال” … الإعلامي المتميز “وجدي الحكيم” … الفنان الكوميدي الكبير “سعهيد صالح” … الفنان القدير “خليل مرسي” … فنان الكاريكاتير الأشهر “مصطفي حسين” … المصارع العالمي “ممدوح فرج” … البرلماني الكبير “أبو العز الحريري” … الكاتب الساخر الكبير “أحمد رجب” … المخرج الكبير “سعيد مرزوق” … الفنان الكوميدي “يوسف عيد” … وقبل ساعات فقط هبط ملك الموت ليخطف آخر الضحايا حتي تاريخه ، روح الفنان الخالد … خالد صالح.

خالد صالح (1964 – 2014) أحد عمالقة فن التمثيل في العصر الحديث ، بلا منازع … ظني أنه لايقل قيمة أو قامة عن العظماء: زكي رستم ، محمود مرسي ، صلاح منصور ، عادل أدهم ، أحمد زكي … نجوم كبار وهبهم الله حضورا طاغيا ، وأداءا تمثيليا ممتعا ، وتقمصا للشخصيات مبهرا ، وقبولا لم يحظ بمثله سواهم … فهم بلا مبالغة أو مزايدة لئاليء ونجوم فن التمثيل والأداء والتشخيص الرصين … وهل نحتاج لبراهين؟ يكفي الإشارة إلي عمل لكل منهم ، فهل نتذكر “نهر الحب” للفنان “زكي رستم” ، “شيء من الخوف” للفنان “محمود مرسي” ، “حافية علي جسر الذهب” للفنان “عادل أدهم” ، “زوجة رجل مهم” للفنان “أحمد زكي” … أكيد كلها نماذج تعكس مدي عبقرية وموهبة هؤلاء الكبار ، قيمة ومقاما … وخالد صالح واحد منهم بالتأكيد.

مشوار الفنان “خالد صالح” في عالم الأضواء والشهرة ، ربما يعد بسنوات محدودة ، لاتتعدي الخمسة عشر عاما ، لكنها لاشك تميزت بعطاء وفير لفنون: السينما والمسرح والدراما التليفزيونية والأعمال الإذاعية ، فهو بحكم موهبته كان من الشخصيات التي تستدعيها الأدوار لتسند إليه ، دون سواه … كان حضوره طاغيا ، وأدائه ممتعا ، وموهبته تعبر عنها ملكات فطرية حباه الله بها ، وقدرات تمثيلية فائقة ، وتقمص الشخصيات لحد كامل الاندماج … ومع كل شخصية منها ، استوعب “خالد” دوره باقتدار حرفية متميزة ، فهو من قلائل مايمتلكون ناصية مفاتيح الأداء العالي ، وكايزمة التعبير الأخاذ ، وتميز تجسيد أبعاد الشخصية ، علي جميع مستوياتها: الجسمانية ، النفسية ، والاجتماعية … ومن هنا تميز أدائه بمتعة التلقي والإشباع الروحي والإعجاب الشديد ، لدي الجمهور ، والكثير من النقاد.

في السينما قدم “خالد صالح” 24 فيلما ، تنوعت فيها أدواره ، ولم يكرر نفسه في أي منها ، وقد برز نجمه وثبتت موهبته من خلال مشهد واحد في فيلم “محامي خلع” (2002) إخراج “محمد ياسين” في دور قاضي المحكمة … ظهر في الفيلم لدقائق معدودة ، لكنه أضفي علي الفيلم مذاقا  خاصا ، من خلال قدراته التعبيرية وتقمصه للشخصية ، بما ينبيء عن قدوم عملاق جديد في الأداء التمثيلي في مصر. وبالفعل تأكد ذلك من خلال فيلم “تيتو” (2004) للمخرج “طارق العريان” في دور ضابط المباحث الفاسد “رفعت السكري” ، وتبعه فيلم “ملاكي أسكندرية” للمخرجة المتميزة “ساندرا نشأت” ، ومع تفوقه في هذا الفيلم ، جاء المخرج “مروان حامد” لسند إليه دور الوزير الفاسد “كمال الفولي” في فيلمه “عمارة يعقوبيان” عام 2006 ، وفي أول تجربة إخراج مشتركة للمخرج الكبير “يوسف شاهين” مع تلميذه المخرج “خالد يوسف” في فيلم “هي فوضي” قدم “خالد صالح” أحد أهم أدواره ، أمين الشرطة المنحرف “حاتم” عام 2007 ، وفي العام التالي (2008) جاء به المخرج “خالد يوسف” في فيلمه “الريس عمر حرب” ليقدم شخصية ، من أغني الشخصيات الدرامية التي ظهرت علي الشاشة المصرية في العصر الحديث ،  ومع المخرج “عمرو عرفة” قدم “صالح” فيلمه “إبن القنصل” في دور “كمال القنصل” عام 2010 ، ويعود مع المخرج “خالد يوسف” عام 2011 ليقدم فيلم “كف القمر” الذي لم يأخذ حقه من العرض والكتابة ، وفي عام 2012 عاد “خالد صالح” ليقدم مع المخرجة “ساندرا نشأت” فيلم “المصلحة” في دور داعية ديني ، وفي نفس العام قدم فيلم “فبراير الأسود” للمخرج “محمد أمين” في دور الأستاذ الجامعي. وبعيدا عن كل الشخصيات السابقة ، ثم قدم “خالد صالح” شخصية غير تقليدية مع المخرج “محمد مصطفي” في فيلمه “الحرامي والعبيط” عام 2013 ، ويختتم “خالد صالح” مسيرته السينمائية بفيلم “الجزيرة 2” للمخرج المتميز “شريف عرفة” خلال هذا العام … قدم “خالد صالح” العديد من الشخصيات علي شاشة السينما ، وفي كل منها أثبت أن الموهبة الفطرية ، والإخلاص للهواية ، والتمكن الحرفي للمهنة ، تشكل مقومات الممثل العاشق ، صاحب القدرة علي جذب الجمهور ، وكتابات النقاد.

وفي مجال الدراما التليفزيونية ، قدم الفنان “خالد صالح” العديد من المسلسلات ، التي وصل عددها سبعة عشر ، كان أولها “أم كلثوم” عام 1999 في دور مؤلف الأغاني الشهير “مأمون الشناوي” ، ومن بعده تألق “صالح” في مسلسل “محمود المصري” عام 2004 إخراج “مجدي أبو عميرة” ، وبعد ثلاث سنوات ، قدم مسلسل “سلطان الغرام” إخراج “شيرين عادل” ، ثم توالت مسلسلاته كل عام بلا انقطاع ، ففي عام 2008 قدم مسلسل “بعد الفراق” إخراج “موسسي العمواسي” ، مسلسل “تاجر السعادة” عام 2009 مع “شيرين عادل” مرة أخري ، مسلسل “موعد مع الوحوش” عام 2010 للمخرج “أحمد عبد الحميد” ، مسلسل “الريان” للمرة الثالثة مع “شيرين عادل” ، عام 2011 قدم مسلسل “فرعون” من إخراج “محمد سامي” ، وقبل الرحيل قدم “خالد صالح” أخر مسلسلاته “حلاوة الروح” للمخرج التونسي “شوقي الماجري”. وكما هو حاله في السينما ، جاءت أدواره التليفزيونية ، في تنوع للشخصيات ، استطاع في كل منها أن يبرهن علي إمكاناته في التشخيص ويؤكد موهبته في الأداء.

ربما كانت البداية الفنية للفنان “خالد صالح” علي خشبة المسرح ، سواء الجامعي أثناء دراسته في كلية الحقوق ، أو علي خشبة مسرح “الهناجر” ، التي أثقل موهبته فوقها ، إلا أن الوقت لم يسعفه أو القدر لم يمهله ، ليعطي للمسرح ، بالشكل الذي يتفق مع مكانته وقدراته في الآداء والتشخيص. كذلك فهو لم يقدم للإذاعة سوي بضع أعمال ، ربما بسبب اختفاء جمهور المتابعين ، وتحولهم لوسائل العروض ، التي تقدم الدراما ، صوتا وصورة … ربما لهذا السبب أو ذاك ، كانت أعمال “صالح” قليلة أوشحيحة ، لكن في ظني تهافت جهات الانتاج للتعاون معها ، وكثرة ماكان يعرض عليه ، في السينما أو الدراما التليفزيونية ، كان سببا في حرمان: المسرح ، والإذاعة من موهبته … وهذه آفة العصر الرديء الذي نشهد خلاله اختفاء المسرح في ظروف غامضة ، وموت الإذاعة لأسباب مجهولة … قضية ليس مجال التعرض إليها ، لكنها تستحق البحث والدراسة ، وتحتاج لكتابات كثيرة.

خالد صالح ، وإن فارقنا بالجسد ، إلا أن أعماله ستبقي كما أسمه “خالدة” وباقية في سجلات الفن المصري مابقينا علي الحياة ، فهي ببساطة تشكل كلاسيكيات فنية ، وتجارب غنيه ، للأجيال القادمة إلي عالم التمثيل والأداء … خالد صالح ، مدرسة في فن الإلقاء ، ونجومها الراحلين العمالقة: زكي رستم ، صلاح منصور ، محمود مرسي ، عادل أدهم ، وأحمد زكي … رحم الله الجميع بقدر ماقدموا للفن والثقافة في مصر … رحم الله خالد صالح.

                                                                                        ياقوت الديب

روسيا في 26 سبتمبر 2014م

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى