ط
مسابقة القصة القصيرة

خذوا الحكمة من أفواه المجانين مسابقة القصة القصيرة بقلم / جمال كربوش من الجزائر

ـ مسابقة القصة القصيرة ـ
الأسم : جمال
اللقب : كربوش
العنوان : شارع كحال احمد ولاية جيجل. الجزائر.
الهاتف : 05.50.62.48.28
البريد الإلكتروني : [email protected]
ـــــــ
خذوا الحكمة من أفواه المجانين

جمال كربوش

كنت أسير على طرف الطريق، رفقة صديق لي، كنَّا نتجاذب أطراف الحديث، وفجأة لمَا وصلنا إلى المفترق رأينا جمعا عظيما من الناس وهم يتدفقون تدفق أمواج البحر؛ هذا عن يميني؛ أمَّا عن يسارنا وجدنا حشدا كبيرا من رجال الأمن يبدوا عليهم العزم على تفريق المتظاهرين.
اندهشنا لهذا الموقف، وقرَّرنا الرجوع من حيث أثينا، ألحّ أحمد للبقاء ومشاهدة ما سيحدث ولو لفترة قصيرة، لكنَّ الخوف سكن ضلوعي، وهممت بالعودة حتى ولو كنت وحدي، وما إن اتفقنا وهممنا بالفرار حتى سمعنا طلقات الرصاص، ودوي القنابل، وصيحات المتظاهرين.
انطلقنا مسرعان باتجاه حيّنا القريب، وإذا بنا نصادف عمّي السعيد وهو في حالة نفسية سيئة، أسرعنا لنبتعد عن المواجهة، وكان علينا أن لا نتركه لأنه طلب منّا المرافقة.

أسرعنا..
فسرع،
وكذلك بعض المتظاهرين الذين التحقوا بنا ورجال الأمن يطاردونهم.

لم نجد سبيلا للهروب إلاّ الاحتماء داخل قبو عمارة، رغم الوسخ المتراكم فيه، ورغم الروائح الكريهة المنبعثة منه.
ارتمينا أرضا، وقبل أن نجد مكانا للجلوس، التحقت بنا فتاة لم نستطع التعرف إليها إلاّ بعد أن نطقت ووجهت لي الكلام :
أنا جميلة …
جارتك …
ألم تعرفني يا …

لم أتركها تكمل ندائها وطلبت منها الجلوس بجانبي.

إن المسكينة لم تجد مفرًا سوى اللحاق بنا، فدخلت واستلقت على الأرض، وما كان همنا سوى الهروب من ساحة المواجهة.

ساد بعض الهدوء بيننا، وفجأة تغير وجه عمّي السعيد ، وتبدلت سماته، وتحولت إلى عبوس.
لقد حُكي لنا أن هذا الرجل أسطورة، وأنه جُنَّ مع نهاية حرب التحرير، وبداية المواجهة بين أبناء الجزائر، بين جماعة تلمسان وأنصار الرئيس، كان هذا الرجل شابا، مثقفا قوي البنية، برتبة قائد كتيبة في الولاية الثانية، بالمنطقة الثانية، أي أنه عاش قسوة وهمجية فرنسا في الشمال القسنطيني بضواحي مدينة الميلية في عمق جبال بني صبيح.

ولم نهنئ بهدوئنا حتى صاح فينا عمّي السعيد مدويا قبو العمارة قائلا :
انبطحوا ..
انبطحوا ..

وما إن هممنا بذلك حتى صرخ مرة أخرى هاتفا بحياة الجزائر :
تحيا الجزائر …
تحيا الجزائر …
تحيا الجزائر …

ارتعدت قلوبنا، وارتجفت أبداننا من هول غضبه …
وبدون شعور انبطحنا أرضا، وكان خوفنا منه لا من ضجيج الشارع.
سكت عمّي السعيد قليلا واتكأ على رجلي، وبعد ثوان تحركت جميلة؛ وأخرجت هاتفها النقال من حقيبتها، وشغلت الراديو لتلتقظ إذاعة الجزائر وهي تذيع أناشيد وطنية بمناسبة الذكرى التاسعة والثلاثون للفاتح من نوفمبر.

أنفزع عمّي السعيد …
وخطف الهاتف من يد جميلة، وراح يردد تلك الأناشيد، ومع حماسه الشديد سقط من يده وانكسر لينقطع الصوت. أما عمّي السعيد فلم يتوقف عن الغناء إلاّ بعد دقائق، ثم قال :
وكأن الزمن عاد به إلى زمن الثورة، إلى زمن كان فيه هذا الرجل واحد من أطراف المعادلة التي كانت موجهة ضد الإستعمار الفرنسي.
هدأ ثم قال : إنه خطاب التاسع عشرة من مارس، أو خطاب يوم النصر وتوقيف القتال عام اثنين وستون، حملق هنيهة في ظلام وسكون القبو، وراح يردد خطاب بن خدّه التاريخي، وكأنه هو، تحدث طويلا، وما هزني من كلامه عندما قال :
أيها الشعب الجزائري … لقد تجند أكثر من مليون جندي فرنسي لقهر شعبنا … وبلغ بفرنسا أن أنفقت ثلاث مليارات فرنك في اليوم في هذه الحرب، وكانت مع ذلك تستفيد من الإعانات الضخمة التي يمدّها بها الحلف الأطلسي… إن الثورة قد انتزعت إعجاب الجميع وهي اليوم تتمتع بسمعة عالية وبتأييد عدد كبير من الأصدقاء في العالم، أيها الشعب الجزائري، يجب أن تستعد لتحقيق الاستقلال …
نصر الله الشعب الجزائري المناضل… وعاش استقلال الجزائر.

أختلط خوفي وإعجابي بعمّي السعيد، فرحت شاردا أستمع لخطابه ـ عفوا بن خده ـ وكأنني أعيش الحدث في حينه، وما أن انتهى حتى رحت هاتفا :
تحيا الجزائر …
تحيا الجزائر …
و مع شدة هيجاني، وخزني أحمد وأشار لي بالسكوت لتفادي اكتشافنا من طرف رجال الأمن.

سكت عمّي السعيد هو الآخر وكأن شيئا لم يحدث، ومع ذلك بقيت تائها، متأملا تجاعيد وجهه التي زادتني شرودا، إذ كنت أرى فيها تقلبات الزمان من الانتصارات والعظمة في الخمسينيات والستينيات، إلى المواجهة بين الإخوة في فجر الاستقلال وفي مطلع التسعينيات، إنها تجاعيد توحي بوطنيته المتأصلة …

ما عهدت عمّي السعيد يتصرف بهذه الطريقة والجدّية، اندهشت لنظراته الثاقبة الحادة وعيناه اللامعتان.. فاقتربت منه لأهدئه، رغم أنني أحسست بذلك السكون الذي ساده.
ارتمى أرضا فور رؤيته لرجال الأمن من ثقب في الحائط. ولما أَحسَّ بالأمان رجع إلى مكانه ونظر إلينا، وقال في هدوء :

إن فرنسا ظالمة، أخرجتنا من ديارنا فحاربناها، ورفعنا علم الوطن بين الشعوب، لذلك كونوا أشداء أذلة على أذنابها.

ابتسمت وقلت له :
لكَ الحقُّ يا عمُّ…
سوف نكون كذلك.

انقطع كلامه هنيهة، ثم عاد للحديث :
ما زالت مخيلتي تحتفظ بالكثير من صور المجازر، ففي حوادث الثامن ماي عام خمس وأربعون وتسعمائة وألف، وفي مدينة سكيكدة رأيت أبشع صورة رسخت في ذهني، بل ما زالت تقتلني كلما تذكرتها؛ إنها صورة امرأة شابة …

توقف عمّي السعيد عن الكلام بضع ثوان، وبدأت بعض من الدموع تنساب فوق خده الأيمن، ثم رجع إلى حديثه قائلا :
رأينا رضيعا ملوثا بالدماء، يبحث عن ثدي أمه المقطوعة الرأس، دون أن تستجيب الضحية لصراخ ابنها أحيانا، ولمداعبـاته لها أحيانا أخرى، إنها صورة اختلطت فيها مسكنة الرضيع بمصيبة الأم الذبيح؛ ولبشاعة هذا المنظر الرهيب تدخل أحمد بصورة فجائية ليطلب من عمّي السعيد أن يغير الموضوع. إنها لحظات حملتنا إلى جرائم حصدت خمس وأربعون ألف شهيد، لا لشيء إلاّ لأنهم خرجوا ينددون بالاستعمار ويطلبون الحرية التي وعدتهم بها فرنسا.

ثم نظر إلى جميلة وطلب منها أن تقترب منه، فجلست والخوف يملؤها، ووضع يده فوق رأسها وقبلها من جبينها ثم قال :
وفي أحد أيام الثورة التحريرية عشنا أبشع المظاهر كالتي حدثت في قرية حدودية شرقية، كنّا في مهمة سرية، ولكن الصدفة أظهرت لنا حقيقة فرنسا التي لطخت شرف البلاد، ثم راحت تتفنن في تلطيخ شرف العباد، فلما وصلنا إلى تلك القرية مع غروب الشمس رأينا من فوق جبل، نسوة وبناة في مقتبل العمر قد جمعن في ساحة الثكنة العسكرية.
كن جميلات، مقيدات، ملقيات على الأرض تؤرقهن قسوة وحيوانية جنود الاستعمار…،
نعم كنّ مكبلات …
عاريات …
تقتلهن حيوانية جنود الاستعمار، وما زاد في حسرتنا أننا لم نستطع التدخل لأننا كنَّا في قلة، ورأيت بأم عيني كلابهم تفعل ما فعله الجنود بنسائنا…
إبنتي …
أبقي إلى جانبي فلن أدعك إلى هؤلاء.

سالت دموع عمّي السعيد وهو يتلعثم، ثم توقف عن الحديث، واعتذر …
وساد الصمت في جلستنا…

وحتى ننسى ما يجري في الشارع رحنا نترجى عمّي السعيد أن يحدثنا عن بعض انتصاراتهم أثناء الثورة.

فقال :
هذا سي يوسف…
رجل، شجاع، صبور، وقوي جدا…
فلما قمنا بتحضير كمين ضد فرقة عسكرية فرنسية…

أثناء حديثه نظرت إلى أحمد فوجدته يحملق في وجه عمّي السعيد، وهو ينصت إليه بشغف، أما جميلة فقد انسابت دموعها فوق خديها، لا أدري أمن بشاعة ما وقع للنسوة، أم من خوفها مما يحدث في الشارع خاصة بعد تدخل رجال الأمن، لكنني عدت بنظري إليه فوجدته يقول :
الكمين يا أبنائي؛ هو فخ قمنا به ضد فرقة عسكرية فرنسية في إحدى مناطق الولاية الثانية، ولما أنهينا المعركة مع مطلع سقوط الليل، وبعدما ضننّا أن الظروف مهيأة للرحيل من المكان، وبعدما اجتمعنا في إحدى شعاب المنطقة سقطت بجانبنا قذيفة، فتفرقنا لنتفادى أي اشتباك أخر مع العدو، خوفا من الدعم الذي وصل إلى الفرنسيين، وسلك كل واحد منّا دربا على أن نلتقي بعدها في المركز.
في حدود منتصف الليل اجتمعنا من جديد في المركز، لكن تعدادنا كان ينقصه سي يوسف، فظن الكل أنه أستشهد، وصَلَّينا على روحه صلاة الغائب ودعونا له بالمغفرة والرحمة، ومع سكون الليل خَيَّمَ على قلوبنا سكون قاتم، لكننا فوجئنا بعودته وهو يحمل رجله اليمنى على كتفه، أما بندقيته فكان يتكأ عليها، فأي قوة جعلته يتحمل آلام رجله المقطوعة، وجعلته ينجح في الهروب من مكان القنبلة التي سقطت بالقرب منه.
قاطعته جميلة بتدخلها راجية منه أن يزيدنا إحدى بطولات شعبنا…
نظر إليها، وهو يقول :

قُبضَ عليّ في الشمال القسنطيني، وأنا في مهمة سرية مع رفيق لي، فحملنا الجيش الفرنسي إلى “الدوزيام بيرو” في المنطقة ( مكتب التعذيب – صاص-) أين دقنا جميع أنواع العذاب من كهرباء، ماء وضرب لمدة يومان…

ألتفت نحونا، ورفع يده نحو رأسه، وأشار إلى جبينه قائلا :
هذه آثار الكهرباء التي ما زالت تؤلمني كُلّمَا تعرضت للبرد أو للحرارة، ثم نظر إلينا من جديد وانخطف يمينا ويسارا، واتكأ على الأرض دون مراعاته للأوساخ وهو يقول :
وفي اليوم الثالث حملتنا شاحنة عسكرية وسط مجموعة من الجنود الفرنسيين، ونحن نتلقى الضربات من كل جانب، وصلنا إلى منطقة “أراقو” برج علي الآن، ووسط حراسة شديدة أمرت بحفر القبر الذي سأدفن فيه بعد إعدامي، وكذلك صديقي، ولكن مشيئة الخالق شاءت أن ينقلب الجو.
وعصفت الرياح…
وانهمر المطر، وساد برد قارسا…

يا لها من صدفة عطلت تنفيذ حكم الإعدام، وزرع الجنود بعض الخيَم في المنطقة لأحتجز في إحداها تحت حراسة جندي أتضح فيما بعد أن أصله جزائري وهو من منطقة وهران.

ولما سدل الليل أجنحته أقترب مني حارسنا، وهمس لي بأن نهرب بعد أن يفك رباطنا، وللأمان الذي أحسست به من نظراته، انطلقنا مسرعان نتسلق الجبل وسط مجرى الوادي، وراح هو من خلفنا يحدث الفوضى، فنجحنا في الهروب، ونجحت خطته للفرار من حكم الإعدام.

وبينما كنّا ننصت إلى آخر القصة سمعنا آذان المغرب الذي اختلط بضجيج آليات رجال الأمن، كانت هذه الضجة سمفونية رعبنا في ظلمات القبو. ولإحساسنا بالخوف أكثر فأكثر توقفنا عن الكلام، ولكن المفاجأة كانت أكبر عند دخول أحد رجال الأمن إلي القبو وأمرنا بالخروج …

خرجنا وفرائسنا ترتعد، ورائحة الوسخ تنبعث منّا بشكل يشمئز له البدن …
كان عمّي السعيد آخر من خرج، ثم لحقه الشرطي ليقترب منه، نظر إليه، وخاطبه :
أبي …
أبي …
كيف جئت إلى هنا ؟

أحتضنه؛ وضمّه إليه دون أن يتحرك عمّي السعيد…
ثم أخرج الشرطي علما صغيرا من جيبه وقدمه إليه، لكنه ما زال ساكنا، فاضطر الشرطي أن يرفع خوذته عن رأسه، ليتعرف عليه عمّي السعيد أخيرا، وناداه :
بني إنك من جنود جيش التحرير …

أخد العلم من يده، ووضعه في جيبه، وانطلق مهرولا في الشارع وهو يهتف بحياة الجزائر …
تحيا الجزائر …
تحيا الجزائر …

ألتفت الشرطي نحونا والبسمة تغمر شفتاه، وقال :

أنا مراد، ابن هذا الرجل …
ضحك، بل قهقه على حالنا وقال :
رائحتكم طيبة…
أزكى من الياسمين…
وأزكى من رائحة القمامة…
ثم قهقه مرة أخرى …
وطلب منا أن نوصل والده إلى البيت، وشكرنا على مساعدتنا له …

مع آخر كلماته بدأت الدموع تملئ جفونه، وهو يتلفظ بكلمات ثقيلة جد :
من يكون والدي ؟
وهو الذي أحب الجزائر، ودفعني أن أكون رجل أمن، من يكون وهو الذي صنع ملحمة نوفمبر وعاش الانتصار، وصنع له أكتوبر ويعيش الدمار، فمن يكون …؟
ومن أكون أنا …

اختلطت علينا المشاعر، وأصبح باديا على مراد علامات الحزن والقلق، عكس ما ظهر به أمام والده، كان وسيم الطلعة لا يتجاوز عمره العشرين.
وإن ما هزّني من كلماته لما قال :
عفوا،
اذهبوا بسلام .
عفوا إخوتي …..
فالطريق مؤمنة برجال الأمن، اذهبوا واحذروا …
وأوصلوا والدي إلى بيتنا.

نظر إلى يمينه، ورأى عجوزا تريد قطع الطريق، فاستأذن منّا وأتجه إليها مسرعا …
أنطلق وانطلقنا …
وكنّا مسرورين بنجاتنا …
مندهشين؛
نتساءل؛ عن هذا الرجل وابنه، عن وضعهما الذي جعلهما ثمنا لإصلاح ما أفسده غيرهم، فمن يكونا :

أهما الشعب ؟
الجزائر ؟
أم الوطن ؟
أم أنهما الأصالة والتاريخ ؟
أو الذاكرة ؟
وأي ذاكرة؛ ذاكرة الماضي أم الحاضر ؟
أو ذاكرة الثورة والاستقلال ؟
أو ذاكرة الفتنة ؟

مع هذه التساؤلات لاحظنا بعض الهدوء في الشارع …
فابتعدنا قليلا عن مراد الذي وصل مسرعا إلى العجوز، وأوصلها إلى باب العمارة التي تسكن فيها.

كنّا على بعد ثلاثين مترا منهما، وفجأة سمعنا طلقة رصاص قوية مُدوية هزّتنا جميعا، وجعلتنا نرتمي على الأرض، فغمرنا الخوف والرعب من جديد، لكننّي لما أدرت رأسي باتجاه مراد، رأيته قد أصيب بتلك الطلقة…

عادت العجوز، وضمّته إليها، قبل أن يقع على الأرض …
مسك بيدها، وسقط على ركبتيه، وراحت تمسح عنه العرق.
عُدنا إليه نحن أيضا، فوجدنا الرصاص قد أخترق كتفه اليمنى، والدماء قد غطت صدره، ورغم آلامه كان يواجه المرأة ببسمة ممزوجة ببعض الأنين.
لم يحتمل الوقوف على ركبتيه إلاّ ثوان، وسقط أرضا، لتسبقه العجوز التي حملته بين ذراعيها، ووضعت رأسه على صدرها، وراحت تشده إليها بقوة.

كانت الدموع تنهمر من عيناها في صمت، وهي تمسح وجهه بلحافها، كانت كلما شعرت بآلامه ضمته إليها بشدة …
ثم نطقت، وراحت تخاطب الناس قائلة :

هكذا فقدت ولدي أيام الثورة المباركة، وبنفس الطريقة أستشهد بين يداي ورضيت بذلك، أما هذا البطل فقد ولد في زمن الاستقلال؛ ولد ليعيش الانتصارات لا ليموت غدرا …

كنت أشك حينها أن ما أراه أمامي مجرد أحلام، لكن ورغم ذلك، فإنها مرّة المذاق …
كالعلقم لا تحتمل …

لما تقدمت إليه، خاطبني بصوت خافت :
أظنك تعرف والدي جيدا، أسرع وأحضره من فضلك …
ذهبت مسرعا وأملي أن ألتحق بعمّي السعيد، فلحقت به وأخبرته بالحادث لكنني فوجئت ببرودته التي عرف بها، ثم تبعني وكان أحيانا أسرع مني.

بعد لحظات وصلنا إلى مراد، وكان الشارع قد أمتلئ عن آخره بالأهالي وبرجال الأمن، فاختلط الكل، واختلط غيظهم وأسفهم وإصرارهم للبقاء إلى جانب هذا البطل.
وقف عمّي السعيد على بعد متر ونصف من ابنه، وكان مراد ينظر إليه والدموع تنساب بين جفونه، ثم ناداه :
أبي …
أبي …

كانت لحظات جدّ مؤلمة تجمع بين ألام الإبن وشفقة الوالد، ولكن سرعان ما أغمي على مراد ولم يكمل ندائه لوالده، وتقدم الأب حائرا باتجاه مراد، وسحب العلم الصغير من جيبه، وقبله ثم وضعه فوق جرحه، ثم أدار رأسه إلى الحاضرين وقال :
إن جرحه خفيف، وإنه سيتعافى بإذن الله.
لكنني أردت أن تختلط دماء ولدي مع ألوان علمي، قبل أن ننقله إلى المستشفى لنوقف نزيفه ونمده ما يحتاج …
فهذه مشيئة الله، ولا مفر منها …

مع هذه الكلمات وصلت سيارة الإسعاف، وحُملَ مراد إلى مستشفى الضاحية، وكان بجانبه عمّي السعيد، فانطلقت السيارة وسط الأهالي وهم عازمون على مساعدته … وسط ذهول الجميع … ذهول أبقى العجوز جالسة في مكانها وكأنها هي الضحية، وثيابها ملطخ بالدماء، ممزوج بدموعها.

فانطلق الكل؛ وانطلقت العجوز وهي مصرة على تقديم المساعدة لهذا البطل، ورغم سقوط الظلام ألتف الكل أمام باب غرفة الاستعجالات الطبية بالمستشفى وراحوا يتبرعون بدمائهم لإنقاذ حياته.

فحضرت الإرادة، وهيأت الظروف، وأنقذ الشاب من مخالب الغدر، بعدما ما أدخلوه إلى غرفة العمليات.
ليخرج الطبيب بعد ما يقارب الساعة مبتسما، مجيبا عن تساؤلات الحاضرين المرسومة في وجوههم :
إنه بخير؛ وإنه محظوظ بدعمكم.

فهكذا عرف شعبنا …
عرف بوحدته، وأخوته، وتضامنه، وإنكم بعملكم هذا ستنقذون أرواحا كثيرة، فهذا ابن عمّي السعيد، وآخر ابنك أو أخاك أو أباك، أو ابن بار من أبناء الجزائر، ولتكن تضحياتكم التي تنطلق من هنا كعربون ثمين نقدمه للتاريخ حتى يسجل أننا إخوة، أننا جسد واحد مهما كانت الظروف والتحديات، وأننا لن نتخلى عن وطننا هذا؛ الذي صنعه جيل عمي السعيد ونحافظ عليهم جميعا …

كان الطبيب متحمسا عندما رأى هذا الجمع الغفير من الناس، كان يتكلم وكأنه قائدا يشحن جيشه وشعبه.
لما انتهى من كلامه تقدم إلى عمّي السعيد ومسكه من يده، وطلب منه أن يرافقه إلى غرفة الإنعاش أين يوجد مراد، لكن؛ ما فاجئ الجميع هو تلك الدموع التي راحت تتساقط من عيني عمّ السعيد، إنها الدموع التي لم نراها من قبل على وجهه، فتأثر الطبيب من ذلك وعاد ليحدث الحضور :

إن هذا الرجل أسطورة، بل مكتبة، إنه دفع بنفسه لأجل هذا الوطن، وهو اليوم يدفع بابنه إلى نفس المصير لا لشيء إلاّ لحماية هذا الوطن المفدى.

كنت أتأمل وجه عمّي السعيد أثناء حديث الطبيب، فاقتربت منه قبل أن ينصرف، وحينها لوّح إلى الحضور ببسمته المعهودة رغم محنته وقال :
أبنائي …
اعلموا أن مراد بخير ؟
وأن الله وهبني عشرات الأبناء في محنتي …
فشعبنا واحد، ولن تفرقه الفتنة مهما كانت …
وبكم اليوم لا نخشى على وطننا.

بعدها تركنا الطبيب وانصرف مع عمّي السعيد،

وإن تداخل هذه المشاعر جعلني أقسم في قرارة نفسي أن هذا الرجل غير مجنون، بل أن هذه الأحداث وهذا المحيط هو الجنون بعينه، فليس العيب في هذا الرجل بل العيب في هذه البوتقة.
رجع بعض الخطوات نحو الأهالي، وقال :

إن الجزائر عاشت محنا أكثر مما نراه الآن، لكن ذلك لن يدفعنا إلاّ للتآخي والتعاون فيما بيننا، ثم نظر إلى الطبيب ومسكه من يده، وانطلقا معا باتجاه غرفة الإنعاش وهو يتمتم بين شفتيه :
الحمد لله …
لنا وطن جميل، وشعب جميل …
ورغم أن ابني في الإنعاش، فإنه بقدرة الرحمان سيتعافى، ويعود ليخدم الوطن بكل إخلاص.
ورغم أن الجزائر أيضا دفعت للإنعاش فإن مصيرها العودة للصدارة، والمشاركة في تسيير أبجديات هذا العالم، فلا تنسوا يا أبنائي أمجادنا وتاريخنا الحافل بالبطولات.

فعلا …
فقد كنت كغيري من المواطنين، أتأمل عمّي السعيد وأستمع إلى كلماته.
وكغيري فقد اندهشت أمام هذا الموقف : لكنني اليوم عرفت معنى الحكمة التي تقول :
خذوا الحكمة من أفواه المجانين، وعمّي السعيد واحد من مجانين هذا الوطن …

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى