ط
مسابقة القصة القصيرة

خنجر في البراءة . مسابقة القصة القصيرة بقلم / د اميمة منير جادو

“خنجر في البراءة*”

1-الإبرة
حينها كنت في الرابعة أو الخامسة ، لا أذكر على وجه التحديد وحينها لا أدري ماذا كنت أفعل تماما … ولا أعي أيا من التفاصيل … أو ما أخطائي!
ولكني أذكر بوضوح وجلاء بعض كلماتها : “طاوعيني .. هأشكشكك بالإبرة” .
أحاول جاهدة أن أضيف بعض التفاصيل عن ماذا أو فيم أطاوعها أو لماذا لم أطاوعها ، تخونني الذاكرة بغباء …
فقط ترتسم فوق كفي الغض الصغير شكشكات الإبرة ، الكثيرة … يتلون الكف البريء باللون الأحمر …
وأستعيد صراخ طفلة … تصرخ … تصرخ .. حتى التعب … تصمت وسط بحيرة من ماء أجاج … ولا أحد يستجيب …
2- المزلاج
“عم عبد الحميد” … ذلك الطيب العجوز … زوج “دادة أمينة” إحدى العاملات بالمدرسة الإعدادية التي كان يعمل بها “بابا” سكرتيرا ..
“عم عبد الحميد” .. يأتي صباحا يأخذني ليذهب بي إلى المدرسة الخاصة بالحضانة في مدينتنا الصغيرة … ويعود يأخذني عند انصراف الأطفال .
“عم عبد الحميد” .. يأخذ بيدي الغضة ليعبر بي الطريق خوفا من الزحام والسيارات … أنتزعها بشدة وعصبية من يده الكهلة المعروقة وأهرب من وشم السنين العجوز عليها … يحاول جاهدا بعوده الضعيف وقامته المنحنية القصيرة ويتقوقس ظهره حين يميل نحوي ليمسك بها فأنتزعها بشدة وأصرخ ولا أستجيب ، يذهب لوالدي .. يشكوني له ، يحاول أن يقنعني، أعاند تماما ، ويرفض عقلي البريء أن يخضع للفكرة ، كيف أمسك بيد رجل آخر غيره! ؟ “بابا” الحبيب ؟
وفي كل مرة يشكوني “عم عبد الحميد” .. الكهل الطيب الحنون ، وفي كل مرة تضيع شكواه عبر أدراج الرياح .
– “لا أمسك بيده العجوز ، أحب أمسك يدك أنت فقط .”
ويعتاد “عم عبد الحميد” .. عنادي ، ويخاف علىَّ طيبا حنونا رؤوما كأم ، ولكن لا أدري لماذا كنت أزدري محبته حتى صممت يوما على ذلك وحملت والدي عبء اصطحابي للمدرسة، التي بلا سيارات خاصة في ذلك الوقت ، كنت فرحة لأني أمسك بيده على الطريق ، عشقت يده … “بابا” أحلى ما في عمر البراءة …
ذات يوم … كنت مع والدتي في منزلها – عند جدي وجدتي لأمي – التي لا أذكر حنانها مطلقا في هذا السن، وإن كنت أذكر لمحة واحدة من مداعبات جدي – رحمه الله – وهو يلاعبني مع أبناء خالتي في البيت الكبير ، ويحملنا فوق ظهره (حمل الجمل) ، (شي يا حمار) ويمشي بنا في الفناء الواسع ونحن نمتطيه .
يصنع لنا من عيدان الحطب الجافة “طرابيش” نرتديها فوق رؤوسنا “فتشوك” هاماتنا وأيادينا أحيانا ولكن نعود نطلبها منه ثانية بعدما نكسرها بشقاوتنا … لا أذكر غير هذا المشهد البعيد . ولكن من بعيد أيضا أرى طفلة تتمرغ في التراب .. تصرخ وتعفر ملابسها في الفناء الواسع لمدخل الدار الكبيرة … تصرخ وتنادي : “يا بابا …. يا بابا” ، .. أريد أن أذهب له ، لم أكن أفهم وقتها أن هناك وسائل تستغلها الأمهات ، للضغط على الآباء للرجوع أو الحنين أو استدرارا للنفقة – (البراءة لا تعي التفاصيل ولكن تحفر فيها التفاصيل)- … ولكني أعرف شيئا واحدا ، أني كنت أنادي على أحن القلوب وأتمرغ في التراب ولا أحد يستجيب .
ذات مرة طٌرق الباب … جريت نحوه … قفزت … لم تساعدني يداي الصغيرتان ولا قامتي القصيرة أن أفتح المزلاج الكبير الخشبي الذي أحكم غلقه عليَّ خشية الهرب … يومها فتحت الباب جدتي .. شاهدت “عم عبد الحميد” .. تحدث مع جدتي … خرجت أمي وتحدث الثلاثة … لا افهم ماذا يقولون … ولكنه حملني وقبلني وربت على كتفي ومرت يده العجوز تمسح شعري الحرير …
ظننته سيأخذني (لبابا) فرحت … وماتت الفرحة عندما مضى الرجل منكسرا، وأٌغلق خلفه المزلاج …
حينها عدت لصراخي … أتمرغ في التراب .. أتقلب بطول الفناء وعرضه … أنادي (تعالى خذني يا بابا) … لا أحد يستجيب .. أصرخ ثانية بطفولة دامعة … يا عم عبد الحميد … يا عم عبد الحـميد … خذني “لبابا” وسأمسـك بيدك على الطريق …
أبكي : “والله لأمسك يدك يا عم عبد الحميد” ..والله … والله .. ذاكرتي الطفلة وقتها تعتقد أنه يعاقبني لأني لا أمسك يده .. تصرخ البراءة … أتمرغ في التراب … وأظل أنادي : يا عم عبد الحميد … يا عم عبد الحميد … يا عم عبد ال … يا عم … يا ….. تدلف جدتي وأمي للداخل …
ويردد جدار الفناء بكائي خافتا … لاهثا … ضعيفا …. يا …. وأنام في التراب …. أناااام ….
3- طبق فول
كم هو لذيذ ندى الصباح الخريفي … تتلاصق خصلات شعري الطفلة المطلة من أسفل المنديل المربوط بعناية محيطا رأسي وأذني كي لا يلسعني برد السادسة صباحا ، وأنا في طريقي لإحضار الفطور ، طبق فول “متوضب” بالزيت الحار والملح والكمون والليمون … والطعمية الساخنة والخبز الطري الطازج .
أقف في طابور طويل غير متناسق يتزاحم فيه الصغار بين الكبار ، والكل يبغي أن يفوز … تتسابق يداي الصغيرتان وأشب أشب بل أحيانا كنت أقفز ليراني البائع وأنا أمد يدي بالنقود أرجوه أن يعطيني الفول كي لا أتأخر على المدرسة …
يأخذ الرجل طبق الفول الأحمر الساخن وقد زينته الطحينة البيضاء ومسحوق الملح والكمون الأصفر ذو الرائحة المميزة والنكهة الخاصة … أحقد على الرجل لأنه أخذ بسرعة دون أن يزاحم ومضى ….
أنادي على البائع … أقفز … أطرق بالنقود الفضية على زجاج المحل حتي يسمعني وأخيرا يعطيني الفول (سادة) أعود مكفهرة : أريده “متوضب” بالملح والكمون والطحينة .. أمضي نحو المناضد أبحث عن الملح والكمون في “الملاحة” الصغيرة التي يضعونها للزبائن …
آخذ بيدي الصغيرة الملح وأرشه على الفول … وتعجبني “الشطة” الحمراء المسحوقة … آخذ منها وأرشه بجوار الكمون … أرسم على سطح الطبق دوائر دوائر من الملح والشطة والكمون … ولكن الملح يغوص … أعود فأرش المسحوق الأبيض الناعم من جديد ولكنه يعود فيغوص … لا أريده أن يغوص …
وطفولتي ترفض ذوبان الملح … لا تعترف به .. لا تفهمه … طفولتي تريد لوحة دائرية جميلة تقدمها هدية لأسرتها … كم من الوقت مضى وأنا أرسم بالملح الأبيض الناعم دوائر فتغوص فأعود لأرسم من جديد وتعود لتغوص … لا أدري … يئست … وعدت …
قدمت لأمي طبق الفول … وقدمت لي “الجلدة ذات اللسانين” …
أصرخ : ذوقيه أولا وسوف تسامحيني .. كنت (أوضبه) لك … لن أتأخر ثانية …
والجلدة تهمي على خلايا الجسد الغض ….
تذوق عمتي – رحمها الله – الفول … تبصق على الفور مشمئزة وتهوي السياط … وتهوي …
وأبصق الدم …
حينذاك تصمت الجلدة … ويتأوه صوت البراءة ينزف أنينا …
اليوم ما أشد كراهتي للفول … ولكل المساحيق البيضاء …

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى