دنشواى ( الفصل الثانى) مسابقة الرواية الطويلة بقلم الأديب رفعت السنوسى من مصر
خاص بالمسابقة في الرواية والقصة الطويلة
الاسم / رفعت حسن محمد حسن ( الشهرة : الأديب رفعت السنوسي )
مصر . محافظة الجيزة . العجوزة
روايتي “دنشواي”
الفصل الثاني : قرية هادئة
إن أول ما تبصره العين في دنشواي هو الحقول المزهرة اليانعة على امتداد البصر وعيدان القمح قد استطالت سوقها ونضجت سنابلها ، وعلى مبعدة تبدو دنشواي الوادعة بأبراج الحمام وقد خيم عليها النخيل .. وحلقت فوقها أسراب الحمام تكسر بأجنحتها الهواء وهي تتماوج وتتمايل في السماء ، والفلاحون متناثرون هنا وهناك في قلب الحقول وفي أطرافها ، يعزقون الأرض أو يسقون الزرع أو يشقون القنوات الصغيرة أو يديرون الشواديف .. كلٌ يفعل ما تطلبه منه الأرض ، والشمس ترسل أشعتها الذهبية فتنعكس غلى الأجساد السمراء لوناً برونزياً يرسم بحبات العرق المنثورة تلك العضلات المفتولة التي تتحرك في حقول دنشواي ، لا تنوء الأرض بهم بل تحنو عليهم حين يروونها بعرقهم فتنمو عيدان القمح تطاول السماء وتعانق البسمة فوق شفاه الفلاحين يوم الحصاد ، يوم تنتقل المحاصيل إلى الأجران الممتدة على سياج القرية وتهلل الحمامات في الهواء فرحة بهذا الغذاء الوفير
لقد ظل هذا الفلاح على مر الزمان يحس وهو يعمل في الأرض بساعده أنها ملك له وهو سيدها .. ظل كذلك دوماً يشعر بنفسه وبكيانه وبأنها سيد هذه الأرض رغم كل ما حاق به من بؤس وعذاب في عصور التخلف والاستعمار .. فهو يظل صامداً دائماً ، يقف بقدمين ثابتتين في طين أرضها ورأسه مرفوعة في السماء كالنخيل .
ويبرز زهران بين الفلاحين شامخاً وهو يهوي بفأسه على الأرض وفاطمة تضع العيدان الخضراء أمام الدواب المحتمية تحت شجرة الجميز من لهيب الشمس .. كان زهران وزوجته فاطمة نموذج رائع وبسيط للفلاح المصري الذي اعتاد على كل شيء في حياته بروحٍ مؤمنة بالله .. وعندما تنزل المصيبة لا يقنط من رحمة الله ويتلقى المصائب بقلبٍ صلد ، فهو يزرع في الأرض ويتعرض زرعه للكوارث من دود أو عطش أو حريق ولكنه مع ذلك يزرع ويظل يزرع في الأرض ، لأنه يغرف بفطرته سر الحياة ، والحياة حركة ومَن يتوقف يموت ، ولهذا بقى الفلاح المصري وعاش في الأرض وحتى في أشد عصور الظلام والظلم كان يشعر بقوته في أعماق أعماق نفسه لأنه يؤمن بالله ويؤمن بأنه جزء من الطبيعة وأنه ملتصق بالأرض وماله عنها فكاك .
وبرغم أنه يعمل من مطلع الشمس إلى الغروب وجسمه ينضح عرقاً ، ورجليه تغوص في الوحل ، إلا أنه لا يطمع بعد هذا الجهد كله في أكثر من رغيفِ من الخبز الأسود وقطعة من الجبن ، ولا تجده أبداً شاكياً ولا متبرماً .
لم يكن محمد درويش زهران فلاحاً عادياً مفتول العضلات أسمر البشرة فقط مثل باقي أبناء الريف المصري ، وإنما هو رجل يتمتع بكل معاني الرجولة والشهامة والشجاعة وإلى جانب ذلك كان يحمل بين ضلوعه قلباً رقيقاً عطوفاً مع قوة إيمانه ورجاحة فكره وحكمته .
اشتهر محمد باسم جده زهران عالم الأزهر الذي كان مضرب الأمثال في قريته إذا ذُكِرَتْ الشجاعة وقوة الإيمان لما عُرِفَ عنه من وقفات قوية إلى جانب زعماء الشعب ضد الوالي التركي خورشيد باشا حين اشترك مع الزعيم عمر مكرم وشيخه السادات ورجال الأزهر في مقاومتهم لظلم الأتراك ، كذلك كان محمد مثل جده زهران في وقفاته الشجاعة ضد الأغنياء الذين يأكلون حق الفلاحين الأجراء في أراضيهم ويبخسونهم حقوقهم فكان يواجههم بقوة في مجلس القرية ، وكان الأغنياء يهابونه لقوة شخصيته ومركزه بين الفلاحين وحبهم الشديد له لعدله وإحساسه بآلامهم ومشاكلهم .
انحسر الظل على حقول دنشواي ، وحميت شمس الضحى و اشتد وهيجها .. واستلقى زهران إلى جذع شجرة التوت بجوار الساقية على حافة الترعة حيث تقوم مصلى ذات سور منخفض تحت ظلال التوتة ، وأقبلت فاطمة لتصنع لزوجها كوباً من الشاي وأشعلت بعض عيدان الحطب ، وأسرع زهران يذكرها بأن تشعل العيدان بعيداً عن اتجاه الريح حتى لا يتطاير الشرر ويحرق القمح ، فابتسمت فاطمة وعاتبته في رقة :
– لساك بتفكرني يا زهران ؟ أنا ما بانساش خالص .. ماتخافش .
فتبسم زهران وسألها مداعباً إياها في حب وحنان :
– لساكِ فاكرة كل حاجة يا فاطمة ؟
فتتورد وجنتا فاطمة وترد في ثقة وقد فهمت مغزى سؤاله :
– إيوة فاكرة يا زهران
فيبادرها زهران بسؤال تملأ لكنته نبرة العشق :
– لساكي فاكرة يوم ماشوفتك أول مرة يابت ؟
فترد فاطمة في دلال والابتسامة الساحرة المتوجة بالخجل تكسوا وجهها :
– إيوة فاكرة… كنا هنا في نفس المكان يا زهران يومها جيت أنادي أبويا وهو قاعد معاكم فاديتني جميزة بحلاوة العسل وطعم مش هانساه أبداً .
هب زهران و أسرع و تسلق جذع شجرة الجميز المرتفعة ثم نزل ومعه كومة من التين الجميز و أعطى فاطمة واحدة فأكلت نصفها ثم ابتسمت ابتسامتها المشرقة الممزوجة بنور الحب و وضعت نصفها الآخر في فم زوجها فأكلها وابتسم ونظر إلى فاطمة نظرة رضا وعشق ، ففاطمة هي حبيبته و زوجته و أم أولاده و هي تعمل معه في الحقل و تعينه في البأساء والضراء ، وإذا وقع له مكروه وقفت بجواره تعينه وتقويه وتشد أزره ، و إذا مرض سهرت الليالي الطوال تمرضه حتى يشفى و إذا حدث إصابة لمحصول صبرت معه في جلد حتى يحل العام الجديد و يأتيهما الله بالعوض وتحمد الله على رغيف الخبز و قطعة الجبن .
بعد العصر تناول زهران وفاطمة وجبة خفيفة من الجبن القريش والخبز البتاو الأسود مع حباتٍ من الطماطم والمش العتيق .. و أقبل بعض الفلاحين إلى زهران وجلسوا يتحدثون وهم يشربون الشاي بينما راحت فاطمة مع جاراتها من الفلاحات يتناجون تحت شجرة الجميزة.
بعد فترة من الراحة عاد الجميع إلى أعمالهم بنشاط وهمة في الحقول من جديد ، وقبل الغروب ذكرت فاطمة زوجها برغبة أولادهم في أكل ثمار التوت فأسرع زهران وتسلق شجرة التوت وهزها لفاطمة فتساقطت منها ثمرات التوت الطيبة وأخذت فاطمة تجمع هذه الثمرات في سلة من الخوص مع حبات من تين الجميز استبقتهم لأبنائها ولم تأكلها.
مالت الشمس نحو المغيب تودع دنشواي على استحياء ، وانعكست على وجنتي السماء حمرة قانية ، وبدأ الفلاحون في رحلة العودة إلى دورهم يرسمون صورة جميلة والدواب تسير نحو المنازل بفطرة لا يعلمها إلا الله ، تلك الصورة الرائعة التي تتكرر كل يوم مرتين ، مرة في أول النهار ومرة عند الغروب .
ولما اقترب الفلاحون من القرية لاح النخيل وهو يطوق البيوت المبنية من الطوب الأسود ثم عيدان الذرة والحطب على السطوح والجريد والدريس بينما علا صوت الكلاب وهي تنبح في كل مكان ، إنها الصورة المكررة للقرية المصرية منذ الأزل .
كان الفتيان وهم يدخلون القرية لا يحسون بتعب ولا نصب ولا يشكون من سوء الحال ولا يشغلهم المصير ، كانوا يقطعون الطريق ضاحكين صاخبين ، كانوا يضحكون للزمن ويبتسمون للحياة ، ويقضون النهار في الحقل . تارة يلعبون وتارة يساعدون آباءهم وتارة يجلسون تحت شجرة يتحدثون ويتندرون ويفيضون بأعزب الأقاصيص والحواديت .
كانت القرية تظل النهار طوله في صمت ووحشة وسكون حتى تغرب الشمس ويهل عليها الغلمان من الحقول ، فتعود إلى حياتها ونشاطها ومرحها .
لما اقترب زهران وفاطمة من منزلهم فوثب بركات و أخوه عبد المطلب من حضن جدتهما في فرحة غامرة و استبشار و انطلقا نحو باب الدار واستقبلا كلبهم عنتر الذي أقبل من بعيد يسبقه نباحه يزف إليهم عودة زهران وفاطمة من الحقل وأسرع بركات ودفع بجسده الضئيل في حضن أبيه بينما جرى عبد المطلب إلى أمه وقفز إلى ظهر الحمار وساعدته أمه وسارت بجواره خائفة عليه من السقوط.
دخلت فاطمة إلى الدار تساعد خالتها أم زهران في إعداد الغذاء للأسرة بينما كان زهران يحبس البهائم بالحظيرة .
التفت عائلة زهران حول الطعام وجلس معهم الشيخ جبر أخو زهران وشرعوا يتبادلون الحديث وهم يأكلون ، والشيخ جبر هو فقيه القرية وخطيب مسجدها ومأذونها ومعلم الأولاد ، وهو رجل ورع منير الوجه ، بهي الطلعة يحبه الجميع برغم شدته لا يكاد يوجد في القرية من شبابها رجل لم يذق عصا الشيخ جبر عندما كان يتعلم القرآن في كتاب القرية الملحق بالجامع ، وكان الشيخ جبر ذا صوت متهدج وقور وهو يتلو القرآن في المسجد أو في المناسبات الدينية بدعوة من أغنياء القرية والقرى المجاورة وفي المعازي ، كان زهران يحب أخيه الشيخ جبر جدا و يتمنى أن يصبح ولداه بركات وعبد المطلب علماء من رجال الأزهر مثل عمهم وجدهم زهران فكان لا يحب أن يخرجوا معه إلى الحقل مثل باقي أبناء الفلاحين بالقرية ويطلب منهم ملازمة عمهم الشيخ جبر بكتاب القرية والبقاء بالمنزل لحفظ القرآن و بعد أن فرغت عائلة زهران من الطعام طلب زهران من فاطمة إحضار الإبريق كي يغسل يديه وفمه ثم يتوضأ ليصلي المغرب في جامع القرية فسأله بركات عن أهمية الوضوء ولماذا لا نصلي بدون وضوء فابتسم أبوه وعمه ونظرا إلى عبد المطلب الذي تناول طرف الحديث ليجاوب على سؤال أخيه ليعلن عن نفسه كمشروع عالم في المستقبل وأخذ يجيب أخاه بثقة وكأنه صاحب عامود من علماء الأزهر :
– الوضوء يا بركات طهارة للمسلم عشان يقف بين إيد الله طاهر ، والوضوء يغسل الذنوب ، ولازم نتوضا في الدار وبعدين نخرج للمسجد ونصلي في الجماعة زي ما وصى النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
ربت زهران على كتف عبد المطلب في فخر وحنان ونظر إلى أخيه الشيخ جبر نظرة رضا وامتنان ، وحضرت فاطمة تحمل إبريقاً وطستاً وطلب زهران منها أن تعطي الإبريق لعبد المطلب ليصب لهما الماء وأن تستريح هي فقد تعبت معه كثيراً اليوم في الحقل ، ابتسمت فاطمة بعين محبة شاكرة ، مقدرة له احترامه وتقديره لها ، و أعطت الإبريق لعبد المطلب الذي بدأ يصب لأبيه وهو يتوضأ ثم علمه الشيخ جبر ثم أخذ الشيخ جبر يصب لعبد المطلب الماء كي يتوضأ هو أيضاً ، وبعد الوضوء ارتدى زهران جلباباً رماديا وتوجه مع أخيه الشيخ جبر إلى الجامع الكبير والوحيد في قلب القرية لصلاة المغرب