حافلة مرحلة من مراحل تعليمي الإعدادية بذكريات مضحكة ومشوّقة في نفس الان!
اذكر انه عندما كنت ادرس عند الاستاذة حامد بهيجة. فهمت معنى أن تُحبّ الفصل والمادّة..بفضل طريقتها في التدريس التي تجعلك تحترم المدرّس بل تحبه كما والديك.. احببناها..تماما كما أحببنا لغة الإعجاز…. حدّ العمق!
مرت السنة الدراسية..لنستأنف أخرى داخل فصل آخر..مختلف..جافّ إلا من لغة تكاد تكون خشبيةصارمة..
درست هذه المرة عند الاستاذة..حامد… والحظ اوقعني في الإسم الغلط ثريا عوض بهيجة..ثوامها.. هي نسخة طبق الاصل منها..الا طريقتها في التدريس مختلفة تمام الاختلاف.
كدت أكره المادة..بل كرهتها.. كرهت المادّة ..كرهي لثريا…
مرّت الأشهر وكأنها دهر..وحدث يوما ان طلبت منّا تدوين ملاحظاتنا ورغباتنا ايضا.. من غير ذكر الأسماء فكانت الفرصة..ساعبر عن كرهي وخصوصا واننا غير مطالبين بتدوين الاسماء!
وضعت الورقة امامي وقد قرّرت أن أكون صريحة مع نفسي ومع تلك الورقة الممدّدة أمامي.. اعلم علم اليقين ان الكل سيتفنن في مجاملتها واستمالتها بعبارات مزيّفة.. لا يهمني إن علمت الفرق الشاسع بين فصل تزهو فيه اللغة ..وبين فصل تتمزق اللغة فيه أشلاء..فقط..لأن مجال المقارنة بات مفتوحا..ولأننا أبدا ما تعودنا جوّا خانقا ينضب فيه جبيننا قبل أن ينضب جبين اللغة..
قلت كل شيئ..ولم أترك شيئا إلاّ ابتسامة راضية تحنّ لفصل أتمنى لو يعود..ولو بإصلاح الخطإ..
قرات الأستاذة ثريا القصاصات يومها..تنحنحت وشرعت في سرد تعقيباتها بوجه جامد بعجالة..لاشئ مثير للجدل.. لا شيئ غير تعقيب او تعقيبين ثمّ حملت قصاصتي….ابتسمت..تأملت الفصل للحظات واسترسلت في الكلام…خيّل لي للحظة أنّها لم تتعرف الكاتبة…وما طمأنني أكثر، انها كانت توزّع نظراتها على الجميع…كانت تتكلم وبنبرتها تحمّل للمسؤولية كما لو كانت تؤنب نفسها… وغموض في نفس الوقت…وختمت باسف وتحسّر بادٍ : لسنا مسؤولين عن ميول القلب.”.القلب وما يريد ” كما غنت سميرة سعيد…
مرّ على الحادث عدة اشهر..نسيت خلالها صراحتي.. وتأقلمت مع جوّ ثريا الذي طرأ عليه تغيير ملحوظ….
واقتربت لحظة الوداع..كانت آخر حصّة لنا مع الأستاذة ثريا أحسست بغصّة في صدري..سرى الشعور الى بقية الفصل..
جلست الأستاذة في آخر مقعد بالفصل خلفنا..تُسدي نصائح أم لأبنائها وهي تشعر بفظاظة الفراق..تودّعنا بحرقة !
ولكم كانت إحدى زميلاتي جريئة..حين خفّفت من وطأة ذاك الجو الخانق بعباراتها الجميلة معبرة عن استحقاقها حبّنا جميعا..
حاولت إخفاء أحاسيسي وحتى مقاومة دمعة فارة من مقلتي ..الوضع اختلف كثيرا والفرق أصبح شاسعا فالمسكينة حاولت تلطيف جو الدراسة ..فأفلحت……
لم استفق إلاّ على كلام موجّه لي من الخلف:
رشيدة..ألا زلت غاضبة مني ؟؟؟ لم استطع لا الالتفات ولا الردّ…فقد كانت دموعي تلفح خدي!
الا تريدين التكلم معي….؟؟!! تابعت وكانها تترجاني الالتفات..لكنني لم أقو فقد كنت أقاوم الدموع أخفيها !….اذن فهي تعرف صاحبة القصاصة! رنّ الجرس..فغادرنا..للابد! وبدون أن ألتفت!
احتضنني بيتي وانا لازلت ابكي وبحرقة! لِمَ لمْ أستدر!!! ؟
أنبني ضميري فقرّرت تحرير رسالة..أبحث عن شخص يسلمها لها غدا لتطرد الافكار الخاطئة من راسها..حدّثها عن الطريقة المثلى للتدريس.. لتحبيب العلم للمتلقي ..وتحدث أيضا عن استئناسي لها مع مرور الأيّام….
كتبتها وسلمتها لها عن طريق صديقة..على اساس انني لا انتظر المقابل فانا لا اجامل..! وكان ذاك آخر يوم لنا..لن تراني ولن أراها بعد تلك الرسالة !
انتهت العطلة الصيفية..وجاء الموسم الدراسي الجديد للسنة المواليةو..ونحن مصطفون في الساحة اتتني فتاة لا أعرفها تسالني اذا انا رشيدة محداد.
اجبت بنعم..فاخبرتني ان الاستاذة ثريا تريدني وهي تتواجد في الطابق الأول .. صعدت السلالم طيّا…فطالعتني ابتسامتها المشرقة من امام فصلها..تنتظر مجيئي …كانت حرارة اللقاء..عناق حميمي..وضعت فيه كل اعتذاراتي ساحبة كلامي الاول..اخبرتني انه من حقي…ومن بين ما اخبرتني انها تستشهد بمواضيعي الإنشائية أمام تلامذتها…ثم السؤال..من هي استاذتك لهذا الموسم الدراسي؟
-حامد بهيجة.!
(قلت بدهشة.)..
ضحكت ملئ شدقيها …وقالت:
هاانت عدت إلى حبيبة العمر!
(إلى كل حاملي رسالة العلم..درسوا فلذاتنا بطريقة محبّبة..فذاكرة المتعلم لا تموت..حتى لو كان طفلا ! )
رشيدة محداد