عبد المجيد بطالي Batali Abdelmajid
المغرب / الدار البيضاء
المشاركة في مسابقة مهرجان مجلة همسة للآداب والفنون (الدورة الثانية)
في مجال القصة القصيرة
بعنوان: ( رائحة السمك )
رائحة السمك
كان أنفه في المقدمة يتجول بكل حرية عن اليمين وعن الشمال، يتتبع في حركات هوائية داخلية مراكز الإرسال، إنه جهاز استقبال للروائح بامتياز، ونقطة مركز دائرة الوجه، شهقات هواء قوية متتالية ومسترسلة…
العينان بارزتان ومحمرتان تقاومان التعب والإنهاك، كردار تدوران يمنة ويسرة، تترصد انبعاث الرائحة، لم تعد المعدة تقوى على الصبر والتحمل…
لا غرابة في ذلك، إنه لم يكن يملك غير هذا الجهاز القوي الذي يقوده نحو الهدف المنشود حيث تزداد المعدة هيجانا، بل واشتياقا كلما اقترب من مصدر رائحة السمك المشهية.
وهاهي معالم مصدر الرائحة السمكية بدأت تلوح على بعد خطوات معدودات، كلمح البصر أو هو أقرب، وسط زحام من العاملات والعمال، غطت رؤوسهم سحابة دخان قلي السمك، حيث امتدت أياديهم الملونة بطلاء ” الدجين” الأزرق نحو ” ابا البهجة ” السماك المشهور لدى عاملات وعمال الحي الصناعي المترامي الأطراف هناك…
هناك وقف العم ” سعيد ” كعادته كل يوم، لكن لم يتوقف أنفه عن شرب الرائحة، كان ينظر بعينيه الجاحظتين إلى زبناء ” ابا البهجة” وقد جلسوا على كراسي خشبية طويلة ذات اللون الترابي، الوجوه ميممة نحو ” ابا البهجة ” منهم من تسلم صحنه ونصيبه من السمك، ومنهم من ينتظر، وقد سال لعابه من شدة ما به من جوع…
كل هذا والعم “سعيد” واقف ينتظر نصيبا من السمك، يتفحص جوانب المكان… تراءت له بعض القطط المختلفة الألوان والأشكال والأجسام تدور من حول الجالسين لعلها تحصل على ما يجود به الزبناء عليها، من قطعة خبز أو شيء من فتات السمك.
تنهد من أعماق ممتلئة حتى النهاية بالأسى…
ــ آه مصير هذه القطط يشبه مصيري المحتوم…
بقدمين حافيتين مشققتين بفعل عوارض الطبيعة… والسير على “الزفت” الساخن بحرارة الشمس المحرقة…
كتمثال منحوت تسمر … وبعينين تكاد تنفلتان من مكانهما، أخذ ينظر في شره إلى الأسماك المقلية، بشفتين غليظتين، تمتم بكلام غير مفهوم، واللعاب يجري على لحيته المكتظة التي لم تعرف المشط منذ بداية تاريخ هذه الحالة… التفت إليه ” ابا البهجة” قائلا:
ــ مرحبا بالعم سعيد…
ــ حرك رأسه قليلا… وابتسم في صمت مخنوق بالمرارة دون إظهار لأسنانه المصفرة المتباعدة والمتآكلة بعض الشيء…
ــ تقدم “يا سعيد” ، خذ هذا النصيب؟؟،
بيدين كبيرتين مجعدتين مبلطتين بسواد قاتم يعود إلى تراكمات زمنية غابرة، ومعانات ضاربة في عمق التاريخ، احتضن الصحن بقوة، وأخذ سبيله نحو ظل الحائط المجاور هناك.
ذهلت، استغربت، والناس في شغل من أمر بطونهم الجائعة، لم يلتفت منهم أحد إلى القطط الجائعة من حولهم، فآذانهم صمّت عن سماع المواء…
ــ قد أصابها ما أصاب الجياع من الناس ولسان حالها يقول:
ــ أليس لنا ما للعم سعيد من الحظ والنصيب ؟؟؟.
الْتفتُ فجأة أتذكر حال الرجل المسكين… فوجدته قد افترش الثرى، والصحن السمكي بين رجليه المبسوطتين على الأرض، وقد مد يده العطوف للقطط الجائعة التي تحلقت حوله تشاركه وجبته السمكية، وكأنها تقول:
ــ لأنْت أشفق حالا من غيرك علينا… فالمعاناة مشتركة، والهموم واحدة، والإحساس متبادل…ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم…