خاص بمسابقة الرواية
رواية “رايات سود ”
الفصل الأول
شادية قاسمي
الجمهورية التونسية
20جانفي 1991
تململ الطفل أمامه و دار حوله قافزا متنططا فدفعه عنه بعنف حتى سقط و دخل في موجة من البكاء الهستيري الذّي زاد من توتره فلم يتوان عن صفعه ربمّا يسكته لكنه هرب بعيداً و قذف نحوه فردة حذاء كانت مهملة وسط الحوش الاسمنتي الواسع و خرج و هو يغمغم بكلمات غير مفهومة .
لم يساوره النّدم كالسّابق حين كانت تمطره نصيرة بتقريع لا ينتهي و تدعوه للكفّ عن ضرب هذا الطّفل المنغولي المسكين و أحيانا تدخل في موجة من البكاء و هي تستحلفه بكل عزيز ألا يمسّه بأذى مرة أخرى لكنه كمن يتلذّذ ذلك، لا يتوقف عن ايذائه كلما وجد الفرصة سانحة لذلك ..كلما قابله في الشارع أو في مدخل الحوش أو وراء البيت يختلق السّبب و لو كان واهياً ليصفعه على خده المنتفخ أو يركله على عجيزته .فيجري الطّفل نحو أمه شاكياً فتفهم ما به حينها ترميه بنظرات النّار
– إن كرهته فلأنه عقابك السّماوي المسلّط …
اليوم لن يجد هذا الولد الأبله المنتفخ من يدافع عنه سيستفرد به و يتسلى …ربما سيبكي كثيراً لكنه سيسكت في الأخير و ليته يسكت نهائيا كي تسكت الأفواه عن ترديد أنه ولد ولداً غريب الشّكل له مئات يشبهونه كأنهم توائمه .
سيأتي الكل لتعزيته سيخسر معزتين ..ثلاث سيغصّ البيت بالناس أياما و لن يجد مكانا ليشرب قارورة لا يهم …سيشتري حليباً كثيراً و شامية و يوصي النقل الريفي عن خمسين خبزة من الدّشرة …لا يهم …سيطاطئ و يدّعي الحزن على الفقيد و ربّما لن يعرف أحد أنه يقهقه من الدّاخل إلا هي …نصيرة طز لا تهم ستبكي ثم تنسى …
ماذا لو كان طفلا سويّا كباقي الاطفال ؟ربما كان يصطحبه الآن إلى أي مكان يذهب إليه و لأخذه إلى العاصمة ، يفرّجه على شوارعها المزدحمة و مطاعمها و خيراتها و نسائها و أشجارها و أزقتها وربما مسحت على شعره البنّي إحدى الفاتنات فدعاها لفنجان قهوة في المرسى أو سيدي بو سعيد …تبّا لهذا الحلم الأحمق الذّي لم يتحقّق فكيف يمكنه أن يصحب هذا الولد الذّي يتبوّل لا إراديا و يلطم كل من يقرب وجهه منه و يسيل مخاطه مقرفا و لعابه بلا نهاية …
وقف أمام الحوش يراقبه و هو يلاحق الدّجاج و يقبّل الكلب بلا خوف بتلقائية طفل غير واع – ابن الكلب …
رمى نحوه حجرا راوغه الطفل و جرى نحو الحقل الشّاسع.
– اليوم سأنقي غابة الشّوك التّي تنبت داخلي بسببه..
جرى نحوه ملاحقا و حين تفطن الطفل إليه جرى بكل قوّته و هو يصيح كأنه يستشعر كرهه فبادله كرها بكره يداعب الجميع إلا هو كان يبتعد عنه و حين يعود من العمل يختفي الطفل في غرفته أو يشدّ ثوب نصيرة متخفيا بهامتها عن نظرته السّوداء الحارقة و من حين لآخر يخرج له لسانه أو يردّد…
– كبّ ها كب نصيلة ..
فتنهاه عن ترديد تلك الكلمة وهي و توبّخ الرّجل:
– أرأيت ما علّمته ؟؟لم يتعلّم منك إلا كلمة كلب تلك التّي تردّدها أمامه صباحاً مساء كأنه ليس ابنك ؟ لم تفهم بعد …إن اعتبرته بلاء فهو بلاء لك أنت …لا تنسى شرورك التي اقترفتها و تقترفها…
فيتمتم لاعناً نصيرة و ابنها و ذنوبه التّي ولدت هذا المعتوه ويلعن منغوليا و يدفع من أمامه الصّحن إن كان يأكل و قد يخرج فلا يعود إلاّ بعد أن يناما الاثنين نصيرة وطفلها ..
اليوم نصيرة في المستشفى و لا أحد غيره و المنغولي الأبله في هذا الحوش الباهت و هاهو سيضطر إلى ملاحقته في الحقول كي لا يختفي عن ناظريْه فتسدل الظلمة سوادها و يختفي بين الزّرع أو في جنان اللّوز فتأكله الذئاب ليلاً …
جرى نحوه بكل قوّته فلاذ الطفل بالفرار بلا وجهة محدّدة
كانت نصيرة في مستشفى الجهة تصَارِع آلام ولادتها الثانية .
23جانفي 1991
هناك في جنان اللّوز وبعيداً عن الطّريق المعبّدة و تحت شجرة لوز وضع الناجي و صاحبيه عدة سكرهم .كرتونتين من قوارير الجعة و نصف رطل من اللوز المالح و أكثر من كيلوغرامين من البرتقال جلبه سلاّم في كيس بلاستيكي .
وضع الثّلاثة زادهم تحت اللّوزة و بحثوا في الخلاء عن بعض الأحجار كي يتخذوها مجالس و إن خيّر الفاهم أن يجعل الحشيش الأخضر الطّري مفرشا له فاليوم يحتفلون مع صديقهم و رفيقهم و صاحب الجلسات الرائعة النّاجي بمناسبة ولادة ابنه حسام و عودة زوجته المصون سالمة …
ارتفعت القهقهات في تلك البراري و تعالت تكتكات حقق الجعة و تبادل الثالوث أسفل ما يعرفون من النّكات … تحدثوا عن كثيرات في القرية موصفين أو لاعنين أو متقززين .. لعبت بنت العنبة في الرؤوس فبدت أشجار الّلوز حسناوات تتراقصن حولهم …دار الفاهم دورات حول نفسه فوق الحشيش غير آبه بما علق في ثيابه من قشّ وطين و تعالت الضّحكات .
تحدّثوا في كلّ المواضيع بداية من اسم المولود الذّي نصح سلاّم أن يسميه صدّام نسبة للرئيس العراقي الذّي تتناقل الأخبار تفاصيل دخوله الكويت شمالاً و قد يسيطر في ظرف وجيز على مراكز سياديّة فيها .. يشرح لهما كيف سيواصل صّدام طريقه نحو القدس و يحرّرها ليعود نحو بغداد ظافراً و ربّما ستمرّر القنوات أشرطة ترحيل اليهود في المقابل سيعود الفلسطينيون رافعين أغصان الزّيتون إلى ديارهم بعد تشتيت دام قرابة نصف قرن …
يواصل سلاّم شرحه كمحلل سياسي عارف بالأحداث فيرشف الفاهم علبته لاويا شدقه غير مصدّق لما سيطرأ على العالم من تغييرات فيتملك صديقه الحماس الثوري ليقنع بفكره هذين الصّديقين اللذين لا يؤمنان بهذا القائد .
– سيعمّم صدّام نفط الكويت