هبت من فراشها مذعورة، تتحسس سريرها الحديدي، وسط الظلمة الدامسة للغرفة، لتصطدم يدها بجسد مكور ممتلئ، ورأس يغطيه منديل تفوح منه رائحة الخزامى والورد والحناء..وكأن تيارا كهربائيا هز جسدها فتدحرج على أرضية الغرفة مصعوقا!
كانت هدى تحتاج إلى إنارة قوية، تفوق حاسة الشم التي استقطبت روائح الشعائر الهندية، المقامة على رأس والدتها، لتؤكد أن ما حدث الليلة الماضية، ضرب من الواقع لا الخيال.
زحفت نحو الجانب الأيسر للغرفة، تتحسس حافة الحائط ، ثم تضغط ببنصرها الصغير زر المصباح، ليستقر الضوء على وجه والدتها المتجهم المتسائل عن سبب استيقاظها بهذا الوقت المتأخر من الليل، و تتابع السير نحو خزانة صغيرة من خشب الصنوبر الأبيض، المتكئة على الجدار المقابل للسرير ..
تفتح بابه الأوسط لتواجه فراغا يقتسم معها حوارا عقيما، جوابه صرخة..ثم استسلام.
هذا الشعور بالانحدار نحو الجوف، وكأن الجاذبية خلقت لتقلص أمعاءها..باستسلام تام وانبطاح أرضي !
كانت الساعة تشير إلى الرابعة فجرا حين علا صوت الآذان معلنا عن بزوغ أولى خيوط ضوء متسللة من نافذة مشرعة على حي شعبي، بالطابق السفلي..
صباح انتظرته الصبية ذات العشر ربيعا، بفارغ الصبر، طوال الليلة الماضية.
كان العرق يتصبب من جبينها القمحي الصغير، ورموشها مبللة بدموع تتدحرج سريعا من عينيها الصغيرتين اللوزيتين..تحملق في الفراغ.. بوجه متعرق جامد..وجسد منكمش ضئيل.
كيف تنام بغرفة خالية من عطر قاسمها شرشفا ووسادة تختزن حكايا شقاوة البنات..كيف للنوم أن يطفئ قبل أن تطفئ دغدغات سعاد بطن وإبط أختها المدللة ..!
رمت الأم اللحاف جانبا، وخطت خطوات وئيدة نحو ابنتها المنبطحة أرضا، تلامس خصلات شعرها القصير، و تضمها إلى صدرها بمحاولة منها تهدئتها..وبقبلة هادئة على الجبين، وكلمات دافئة، وشوشت بأذنها أن الحياة تحاول إدانتها، وأن الأمر خارج عن إرادتها، وما حدث ليلة البارحة، ردة فعل طبيعية لامرأة لا حول لها ولا قوة ! وما قرارها بشأن أختها، إلا إعادة تأهيل لا أكثر !
تعتقد سعاد أنها خلقت بالمكان الغلط..فماذا لو كان إسم والدتها “جوسفين” و ووالدها ” ويليام”………
لجسدها وفكرها بطاقات خضراء، لرحلة اللاعودة ..لا تفرق بين ساعات الصفر حيث يلبس فيها الليل وجه الرذيلة، ويعيرها جسده لتنهل منه أبناء تتلمذوا في ملاهي لا تستثني أعمارا أو أجناسا !
انتفظت هدى من تحت ذراع والدتها مصوبة نظرها تحت السرير، نحو قارورة عطرفارغة، أسرعت نحوها ترش من العطر روحا فارقتها دون أن ينزعها قابض أرواح..
سعاد على قيد الحياة..بل على قيد أب اعتقدت والدتها أن من مسؤوليته مشاطرتها مهام تربية البنات…فلتكن سعاد المتمردة !
فارقت الغرفة..والشرشف..والخزائن..حتى قارورة العطر لم تعلق روحها بقعرها !
جن جنون هدى ..فكان للخلاص وجهة بدون مفتاح، ممسكة بقبضة الباب، تفتحه ثم تطلق ساقيها للريح، دموعها توثق طريقا بالشارع الموصل لردهة بيت والدها بحي الصفاء.ستركع تحت قدميه، ستترجاه أن يعيد إليها أختها..ستعده بالاستقامة !
ويحدث أن يكون للعبثية زمن ومكان..وامرأة ! فهل ياترى زوجة أبيها الآن تسرح شعر سعاد المجعد، أمام مرآة تعكس قدرها الجديد ..تعطي لجسدها ذي السابع عشرة مراهقة، دروسا في كيفية أن تصبح زوجة صالحة في خمسة أيام..أم أنها تمدها بدروس “العيطة” والغيطة والهز والدك ل “شيخات النهضة” ..لقب الفرقة الموسيقية الذي اختاره والد جعل من بيته مخدعا سريا لتداريب لغة الجسد المتحرر.
فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون