إن مستقبل الشرق واحد وإن تفاوتت خُطى أبنائه. ومن الجهل أن نشيح بوجوهنا عنه، ومن الخرق أن نتجاهله، ومن البلادة أن ننسى أننا مرتبطون به وإن خفيت الخيوط، ومن الغفلة أن نتوهم أن الرحيل لا يكون نافعًا إلا إلى الغرب، وأنه لا فائدة تُكتَسب من زيارة الشرق والاطلاع على أحواله.
تتابعت قوافل المعتمرين عبر محطات سلكتها جموعهم وصولاً إلى الديار الإسلامية المقدسة في الحجاز، وكان من بين خطوط قوافل المعتمرين تلك التي كانت تنطلق من جمهورية ألمانيا قاصدة مكة المكرمة والمدينة المنورة عابرة مدن شمال أفريقيا وجزر البحر الأبيض المتوسط مرورًا بنبض قلبي -الديار المصرية- وصولًا إلى أرض الحجاز.
ما أن تطأ قدماك هذه التربة الطاهرة تستنشق عبير الإيمان، أجواء من الروحانية والخشوع لا تصفها الحروف والكلمات تعيشها مدينة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم وهذا المسجد تحديدا
توقف الزمن عند هذه الأرض طويلاً ليروي كيف استمدت الأرض قدسيتها من السماء ليتنزل الوحي على النبي الأعظم وليسطر أمجادا من التضحيات لإرساء مبادئ الدين الحنيف ونشر رسالة السلام وثقافة الحب والإيمان بالله
لحظات تلامس شغاف القلب لتثور المشاعر في حب المكان على أمل العودة من جديد
ناهيك عن رهبة الموقف
ما إن تتجلى لك معالم المكان حتى تحس برهبة الموقف وعظمته وتشع أنواره وقدسيته وأنت تسرع الخطى نحو الحرم المبارك يحملك الشوق للصلاة في الروضة الشريفة التي تواترت النصوص على فضلها إنها من “رياض الجنة” كسيت بفراش أخضر قشيب يتقدمها محراب النبي صلى الله عليه وسلم ويميل عنه يمينا منبره الشريف وإلى الشمال حجرات أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن ومع ارتفاع أكف تكبيرة الإحرام تعيش الطمأنينة والسكون وأنت تقرأ بفاتحة الكتاب ثم تنحني راكعاً وساجداً تتقرب إلى الله عز وجل بأعظم ما افترضه عليك من العبادات حتى تتم ركعتي التحية فتلهج بالدعاء الخاشع إلى الله ، الكل إلى جوارك يعيشون مشاعرك، وتتسابق عبراتهم بصدق الإنابة، عندها لن تتمكن من حبس دموعك، دعها تسيل لتغسل ما مضى من حوبة أو ذنب بطهر الخلاص من شؤمها.
التاريخ في المدينة ليس كتابًا نقلب صفحاته بل حياة نتنفسها ونعيشها، وليس مجرد عبادات بدنية ظاهرة بل ترياق روحاني عميق، هذا ما يتضح عند زيارة شهداء أحد، والجبل الذي “يحبنا ونحبه”، هناك أرض المعركة تسمع صهيل الخيول ومقارعة السيوف، والنبي تكسر رباعيته ويجرح في المعركة ويثبت بشجاعة، ويرتقي الشهداء الذين اصطفاهم الله عز وجل وفي مقدمتهم عم المصطفى حمزة بن عبدالمطلب -رضي الله عنه-، وكلما اتجهت شرقاً وغرباً شمالاً أو جنوباً، فاح عبق الطهر والنبوءة حتى تصل بك الطرق إلى ميدان الخندق فتستحضر غزوة الأحزاب وتسمع ضرب الفؤوس في الأرض لحماية المدينة حتى ينتصر الحق على الباطل
ما هي إلا لحظات حتى أخذت بمجامع قلبي وفيض الإيمان يدب في كل جزء من جسدي، لم تكد تحملني قدماي وأنا أقف قبالة المواجهة الشريفة لأسلم على النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ، ثم على صاحبيه العظيمين أبي بكر الصديق وعمر الفاروق -رضي الله عنهما-، لحظات من الخشوع أهرقت فيها الدموع لترسم طهر الصحبة بين النبي الخاتم وصحبه الكرام الأماجد، جهاد وشظف وأزمنة من العسرة دفاعاً عن المبادئ الحقة في وجه عصابات الظلام والكراهية
والاستبداد والعنصرية المقيتة
لم أنس كل من عرف تيممي الديار المقدسة بالدعاء ، منحتهم ذات الأماني التي رجوتها لنفسي، هكذا استلهمت نفسي ذكريات رحلة امتدت لأيام إلى أطهر مكان لم يقلها زائر واحد بعفويته، بل هي لسان حال كل من قدم إلى هذه البقعة الطيبة
الزيارة لم تكتمل فصولها فهناك عشرات المواقع التي ينحني لها الزمان إكبارًا وتعظيمًا ما بين مساجد وآبار ودور وقصور أثرية مشهورة، وكذلك عيون وآبار وجبال وأودية وثنايا وحرار، ليست مجرد آثار بل قطع حية من التاريخ.
أجمل موقف بالعمرة سأفرد له مقالًا آخر (لقاء الحبيب) بعد غربة ولوعة وفراق وشقاء .