ط
مسابقات همسهمسابقة القصة

رفقة…مسابقة القصة القصيرة بقلم / أحمد طبابى من تونس

أحمد طبابي
تونس

رفقة
..كان عقبة أول من راوده النوم هذه الليلة، بعد طريق طويلة طوتها قدماه. افترش شطر البطانية و التحف بالشطر الآخر و لم يترك للبرد منفذا . أما نصير فقد كان البرد يأكل من جسده أكل الجارح من فريسته. هو لم ينعم بالدفء بعد. حتى النار التي أشعلها تطايرت شرارتها بسبب الرياح الهائجة. استعطف رفيقه عله يشفق على حاله التعس لكنه لم يسمح له بمشاركته في الغطاء. انتصف الليل و لم ينم نصبر حتى ألآن لف جسده بالبرنس البالي كما كان يفعل من قبل. لكن هيهات. لم يجدي ذلك نفعا. حتى عشير العمر هذا لم يغني عنه شيئا و شاء القدرأن يذق لونا من العذاب كما ذاق صاحبه بالنهار. ارتعشت أوصاله، تجمدت أنامله، أحس بأصابع أطرافه قد ماتت و اصطكت أسنانه ببعضها وانتابه سعال مسترسل. تضرع الى السماء و جاهر بالنذور، استغاث بخالقه كي يخفف عنه من العذاب فلم يجد أفضل من التسليم للقدر و التعلق بالصبر. لوكان يعلم أن البرد سيبلغ هذا المبلغ من الشدة في هذه الليلة البليلة لدفع ما دفعه مقابل ذلك الحمار و أكثر فيما هو أحوج اليه الآن.امتلأ قلبه حقدا وبغضا على جاره. فكان أقرب الى استنباط الشر له أكثر من أي وقت مضى. فماذا وسوس له شيطانه هذه المرة؟ و ماذا ينوي أن يفعل يا ترى؟
استل نصير من قلب النار المستعرة عودا، ودسه في بطانية جاره الغائب عن الوجود. ثم تظاهر بالنوم. ما هي إلا لحظات حتى مدت النار لسانا جشعا و التهمت جزءا من البطانية فكادت تدرك لحم صاحبها الذي استفاق على رائحة الدخان.استفاق عقبة مذعورا مستنفرا و أخذ يحث التراب على النار حتى خمدت. نظر حوله كانت كل الدلائل تشير بإصبع الاتهام الى صاحبه. فموقد النار كان أبعد من أن يصل اللهب الى ما وصل اليه. اغتاظ عقبة كثيرا من كيد رفيقه الذي لايزال يضمر له العداوة و البغضاء. ولما أيقن أن هذا الرجل لن يتغير طبعه الخبيث أبدا، قرر أن يرد له الصاع صاعين و يكيد له كيدا أعظم.
قبيل الفجر بقليل اتجه عقبة صوب الحمار البائس وكان صاحبه قد أخذته غفوة بعد ليلة طويلة، قاسية لم يذق خلالها طعم النوم و لا حلاوة الدفء.استل خنجرا حادا من تحت ازاره و شد رأس الحيوان المستضعف بشراسة ثم قطع له شفتاه بلا رحمة و لا شفقة و تركه ينزف دما. بألم طويل ضاق به الوادي الفسيح، فتح الحيوان البريء فكيه على الاتساع و رفع عقيرته بنداءات الشكوى الى المجهول.
عند الشروق أفاق نصير وهو لا يعلم شيئا عما لقيه حماره المظلوم من ويلات العذاب لساعات. استعجل أمره، و بصوت مفزع أيقظ رفيقه:
– عقبة..عقبة..انهض…انهض…بطانيتك احترقت يا صديقي …انظر….
فتح عقبة عينيه و هو الذي لا يدري أنه كان أظلم و أطغى عندما استضعف مخلوقا بريئا وزر وزر مالكه. ثم قال لنصير:
– رأيت ذلك يا عشيري..و ما نبهني اليها هو حمارك الذي ما انفك يضحك على حالي منذ الفجر.
التفت نصير الى مربط الحمار و قد انتابه ذهول عميق لما في المشهد من قزازة، حمار بلا شفاه…حقا المنظر مقرف و معيف. عجزت عن رسمه حتى الطبيعة بعظمتها إلا أن هذا الانسان الضعيف استطاع أن ينحته بظلمه.
ظل نصير باهتا في أمره . لم ينطق و لو بكلمة واحدة. ماذا عساه أن يقول بعد هذا. هو غير ملزم لا بالاعتذار و لا بالقصاص كل واحد منهما اقتص من صاحبه على طريقته المفضلة. واحدة بواحدة حتى يقطع القدر هذه الرفقة المشؤومة.
و الآن ماذا بعد ذلك؟ لف عقبة ما نجا من البطانية وحملها على كتفه كما تعود. أما نصير فقد كمم فم الحيوان بخرقة مزقها من قشابيته، وبدأت مسيرة جديدة من سفر الشقاء. انطلقا و في نفسيهما غاية التخلص من عبئهما فلا البطانية مازالت تدرء البرد ولا الحيوان حافظ على هيئة الحمار.
مرا على قرية لم يسبق أن دخلاها من قبل. لم يمكثا فيها طويلا. ظلا هناك ما يكفيهما من وقت لبيع ما لم يعودا في حاجة إليه :حمار بلا لجام و بطانية بلا استعمال. كان هذا نداؤهما في سوق القرية…حمار بلا لجام و بطانية بلا استعمال…
اشترى رجل أعمى بضاعتهما جملة وهو لا يعلم عن عيوبها شيئا. قبض البائعان الثمن ثم توارى عن الأنظار، حتى أنهما لم يتزودا من القرية بشيء للطريق.
لما ابتعدا بما لا تصلهما أعين الناس قررا اخذ استراحة قصيرة يلتقطا خلالها أنفاسهما و يتقاسما ثمن البضاعة.
هذه المرة تبدلت قواعد اللعبة و قررا الشقيان قسمة المال بضربة الحظ .سيجريان قرعة العمر. بعد كل هذه المشقة و الحرمان و الخصام، سيجازفان.إما الفوز وإما الخسران المبين. و يمضي كل واحد منهما في سبيله، و لا يتصاحبا بعدها. على هذا جرى الاتفاق بينهما و تعاهدا عليه. ثم شرعا في التحضير للقرعة. حفر عقبة حفرة ضيقة على حجم قطعة الدينار و على مسافة تقرب العشرة أمتار من الحفرة رسم نصير خطا للوقوف عنده و ترمى من هناك القطعة فمن أتى بها في مستقرها فاز و من لم يقدر خاب. ووضع المال كله في جراب نصير و بدأت ضربة الحظ. و لا يعلم غير الله الى من ستؤول عاقبة الأمور.
دامت القرعة ثلاثة أشواط توفق عقبة في شوطها الثالث و برمية أخيرة حاسمة استقر الدينار في الحفرة. كسب الجشع الغنيمة و لم يكن حتى يحلم بها في منامه أما الخائن فقد وقف مذهولا مأخوذا بكل حواسه لما حل به، فقد كل ما يملك تبخر حلمه و أيقن أن البؤس سيعيش معه ما شاء الله أن يعيش. و أن تلك العجوز التي تنبأت لأمه بمستقبله البهي يوم ميلاده قد تشابهت عليها الأقدار.

قصة قصيرة ل : أحمد طبابي

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى