رقـــــصــــة
“حين تكسر ساق الأقحوانة تؤد رقصات الأحلام”
تدمع السماء في الشتاء لتسقط النجوم على الأرض فكأنما حبات المطر تعانق الهواء بذراعين من ريح على مسرح الأرض يؤدون طقوس التانغو و الشمس تستريح ، كذلك وقع الخطوات على مسرح الباليه حيث تؤدي الراقصات رسمهن داخل دوائر من مطر يرسمن السحاب بأيديهن و تحضنهن السماء ، فالسماء بقاب قوسها سعة و عطائها يغلق من خلفها الأقواس ،بعض منحها للبشر نفحات وان تجسدت ستكون للممنوح له دربا من نور.
تجسدت روح فينوس في كمال الروح مع الجسد فكيف إن كان الجسد من صنع إله جميل كيف للجمال ألا يتجلى في جسد “بيلار” الذي نحت من الجماد فصار آية تنطق بروح آدمي كان الجزء الرمادي من القمر مرصعا حول حوضها الملائكي و الثلج ذاب في كحل شعرها بانسياب مما يدل على هيئة متفردة ومزدوجة إلا أن النسيم يتنفسها من سحر تعاويذها الليلكية ، تعرف كيف تحول الصمت و الحياد إلى حقل يزيدها بريقا و إيجابا، ولان “بيلار” راقصة باليه فجسدها الممشوق و الممتلئ من الأسفل ممتدا إلى السنابل في ارتفاعها العذب عند فراغها منحها ذلك قدا مرغوبا …
نسب الثلج إليها لبرودتها في المواقف ولبياضها المغري عند الموقد تتمرس الأناقة في أنوثتها العذبة المنسابة إلى آخر قطرة تخرجها ليصبح العدم جمالا تلقي بصمتها التائه على حواف الكلمات فهي و المتاهة وحدة يصعب تحويلها و الوصول إلى بوابتها، هادئة كيوم ربيعي تبتسم فيه العواطف و تكتم الأمطار جوف الغيوم.
تمتهن الدوران في كل يوم أحد على خشبة ذهبية على وقع موسيقى “الناي السحريّ” للموسيقار “وولفغانغ أماديوس موزارت” كانت من أجمل ما تفتح به صفحات جسدها كل حركة تفتح نوافذ النسيم المتوارث من الإبداع تضم الجروح المفتوحة لتكسر الحواجز المتراصة كخيل أصيل، مخيفة هي حين تصمت عيناها و تبدأ الحركات في المهاوشات مع الجسد ارتفاع فانخفاض فانحناء فدوران داخل حلقة مطرية كأنها حبة ثلج تتمايل في الهواء إلى غاية وصولها الأرض تذوب لتحيي الرماد الذي تقع عليه .
تأتي العائلات لترى رقص الحوريات بين الغيوم فتنثر “بيلار” الحياة في المتفرجين كانت ميزة تكسيها من الوقار ثوبا لا يتعلق الأمر بقوة المغناطيس المتواجد في حقل جمالها و إبداعها إنما قوتها تكمن في جذب الكواكب من كل فضاء إلى أرضها بدربها المشع نورا فجسدها كان شمسا لا تغيب عنه الأنظار و كل حركة تعني: “أغني لك أيها الأزل بلحن خطاي فامشي في دربي وبخطاك”، ولأنها رمز للحياة سمع بها “انجلو” الذي لا يسعه رؤية جمال فينوس في الأرض فقد حرمه القدر من نعمة تحسس الجمال في حادثة له إلا انه أصّر على الذهاب ليرى أقاويل الناس بملمس نبضه ، و لحظه العثر ذهب لمرات ولم يرها فقد كان في كل مرة يتأخر فيها يجدها ملئ فيقول لو أني أجالسها ولو لآخر سكراتي فلم يشأ القدر ذلك دافعا ثمن التأشيرة حنينا على موقد من انتظار…
في اليوم الذي عزم فيه الحضور مبكرا حمل بيديه التي تتحسسان ما تعجز عنه عيناه أقحوانة أخذ الزمن منها لونها فبقيت كهيكل بيت مهجور جرد من الحياة ، إلا أن العرض ألغي بسبب الطقس الممطر لكنه بقي في المسرح وحيدا كالقمر ليلة اكتمال طقوس ولادته ، سرح صديقه الوفي إليها جلبها إليه في خياله رقص معها فوق خشبة أمنياته رقصة الموت على ركبة الحياة حتى صحصح من سعة إبحاره إلى جزيرة الواقع ” هاي أنت ما تفعل عندك؟ “
و استرق السمع بشغف جئت لأرى “فينوس” ( كما لقبها الأهليون ) في هيئة بشر فهل يسمح لي ؟
العرض التغى فماذا تفعل هنا ؟
قلت جئت لأرى “فينوس” في هيئة بشر …
عذرا منك لدينا تدريبات الآن عد في الأسبوع القادم …
لا يمكن فانا هنا مذ فتحت السماء شفاهها ليقبلها الفجر و لست من هذه القرية من فضلك أريد أن أرى “فينوس” …
مممم تود أن تراها و أنت تضع نظارات من ليل …
لا أراها لكن ثمة من يراها بدلا عني و يترجم لي حركاتها فيصلني نورها المنبعث من جبين القمر …
أتود أن تراها و أنت لا تراها ؟
اجل أود أن أراها و ثمة من يراها …
أشعلوا الموسيقى وكانت “بيلار” من تأمر بذلك وكأنها تقول أشعلوا النار لأشعل الخشب من تحتي و أذيب الجليد من وجهي و صدري و خطاي تبدأ المعزوفة في الاتحاد مع “بيلار” خطوة خطوة و يبدأ الكون في الصلاة على روحها التي غادرت جسدها إلى الفضاء تأخذ النسيم و المطر و الصلابة و الانصهار و تندلع الخطوات في مرمى الأصابع تسجل بروحها الموت باسم الحياة يستمع إليها بنبضه فكل دقة على الخشب كانت تعني له يوما جديدا في أحضان السماء فكأن دغدغة الحنين و ريح الذكرى هبّت عليه من حيث لا يدري ، غادرت روحه معها فبقي يسامرها أينما ولت كظلها الوفيّ انتهت النوتات و انتهى العزف و توقفت الحياة الأزلية رفعت يديها إلى السماء فكأنما السماء تباركها بنزول المطر و يقف “انجلو” يصفق لها لكن بشفاهه الوردية حاول الصعود إلى المسرح فوقع من نفسه هرعت إليه مدت يديها فإذا بجزر وجهه يدنوا منها التحم الصمت بدفئ المناظرة الحسية فكسر “انجلو” ذاك الهدوء الأنيق
سمعت عنك وقلت في شك غير موجودة لكن عندما جالستك هنا و مد يده إلى عقله أدركت انك لن تبرحي هنا ومد يده الأخرى إلى قلبه إن توحد جسدك مع الموسيقى فانا توحدت فيك فكرا وحسا هناك ما اجهله فقهيني فيه إن سمحت هل يجوز للأعمى إبصار المستقبل في كفّ راقصة حرّة؟ …
و هل يجوز للمستقبل أن ينتحل صفة أعمى ليبصرني ؟
مُدّ يدكِ كي أبصركِ ففنجانك قرأ على يد أعمى لا صوب نحوه إلا خطاك هذه اقحوانة كنت سأهديك إياها حين قدمت إلى قريتنا في موسم الأقحوان وكنت حينها انتظرك فغفوت و أنا احلم بك و اليوم أهديك إياها و قد اخذ القدر مني غفوتي ببصري فقد وقعت من الشجرة الأم التي احتضنت حياتي وموتي فقد كنت أراقبك بعينيها حتى لا تزيغي عن أفقي أهديتك بصري يوما وها أنا أهديك كياني وما تبقى مني فاقبليني إن كنت للأعمى ترشدين …
ابتلعتها الكلمات وآثار الصدمة تلوح في وجه “بيلار” كيف لي أن أحيي بصرا غادرته مجرمة و دفاتري لا تحملك حبرا بما لا تطيق …
“انجلو” …
عيار يجذب قطبين في حقل واحد دنت و هي تلفظ اسمه و الأنا يردد اسمها لينال الشوق قبلة تطابقت فيها الشفاه على جمر الأنين لكنه أراد الغوص في المحيط أكثر حينها أوقفته شدتها “لم الآن و ليس بعد الآن إلا الآن” رقصت بجنون حين انتظرتك ليلتها و كان القمر حكما و النجوم دليل و لأن الوقت لم يمنحني سعة صدره غادرت قبل أن أقبلك قبل أن أسقيك من حفنتيّ الحياة …
“بيلار” أتعبني الليل ومن يومها لم اعرف نورا إلا ما تبقى منك في ذاكرتي فأنيري بفينوسك حياتي فلم تعد عيناي تحملان مشكاة إلا دربك تفقدها بأصابعه وكأنه يقول لها “أراك ومالي لا أرى الهوى في أهدابك” ، ابتعدت “بيلار” قليلا و إذا في خطواتها قول : “سلام لك من قلب ميت أحييته لتميت” …
إذا بصوت مهلك يبعث الظلام “بيلار” أينك تأخر الوقت علينا إحضار “ويليام” من الروضة ….
شهاب تبعه حس مارد و صاعقة رجت السماء فبكت في مسرح جامد الموت يصارع النبضات في آخر انحناءة يترقب كصقر ركوعا أو سجودا لا يعلم المفر أين يفر من المسرح المتهالك …
آتيت إليك عذرا منك زوجي وولدي في انتظاري و أنت للأزل حيّ إن كان الأزل سيّداً لا يموت سأحيي حبنا في ضفائر رقصاتي وكل انحناءة أرسلها من ظلمات خطواتك هي مهد و مقبرة للكلمات …
“ســـــــــارة عقون”
الجزائر