ط
مسابقة القصة

رِيَاحُ القَدَر.. مسابقة الرواية بقلم / مولود بن زادي – الجزائر

في صبيحة يوم الأحد 23 يونيو 1991، ودّع فؤاد أهله في أجواء كئيبة متّجها إلى مطار هواري بومدين في طريقه إلى ديار الغربة.
كم هي غريبة هذه الحياة. بالأمس، حكم عليه الزمانُ بفراق حبيبته، وهوى به في غياهب الوحدة جريحا، مدمّرا، تملأ فؤادَه مرارةُ البعاد عنها، وتمزّقُ روحَه لوعةُ الشّوق إليها. وها هو اليوم يحمل عليه ثانية، وهو لا يزال واهنا، جريحا، ينزف قلبُه دماً، وتتّقد نفسه ألماً، فيحكم عليه بفراق الأهل والأحبَّة والأقارب والنفي بعيدا عن الأوطان.
ما أشدّ حزنه اليوم وهو ينأى عن مهد طفولته. يمدّ يده فيتناول حقيبته ويتأهّب لمغادرة غرفته بقلب منقبض، فلا يكاد يبلغ عتبة الباب حتى يتوقّف ويلتفت خلفه ويجيل عينيه في أرجائها، فيتأمّل مكتبه وسريره ومكتبته ولوحاته المعلّقة على الجدران، ويتفحّص كلّ ركن من الأركان بتأثّر وأسى كأنّه لا يقوى على مفارقتها.
ما أشدّ عذابه الآن وهو يودّع أهله. يحاول أن يواري عنهم تأثّره الشّديد، فيمرّ بالقرب منهم مطأطئ الرأس، مضطرب الخاطر، متجنّبا أنظارهم المتأثّرة العالقة به.
ويشقّ على والدته الحنون فراقه دون معانقته، وهي التي كانت تعدّه كبدها وأفضل أولادها، فتمدّ له يدها وقد لاحت في عينيها نظرة حزن وحسرة، فيمضي إليها ويرتمي في حضنها بحرارة. وسرعان ما يفكّ نفسه منها، ويسير مبتعدا عنها، مطرق الرأس لا يرى من الدنيا غير الطين والشجن. ويختلس نظرة خلفه من فوق كتفه، فإذا بالدموع تنهمر على خديها، فيندلع بركان المشاعر الجائشة في صدره وتغرورق عيناه بالدّموع فيتمالك نفسه ويمضي في سبيله. ولا يكاد يتوارى عن الأنظار حتى يجهش بالبكاء فتفيض الدّموع من عينيه أنهاراً، وتتصاعد الزفرات في صدره إعصاراً.
ما أشقى هذا الفتى. يلدغ من جحر الفراق مرّتين، فيسري في أعماقه الكرب، ويقع على كاهله وزرُ الألم والغمّ يحمله معه الشقيّ في رحلته البعيدة خارج الدّيار.

في حدود منتصف النهار، جلس الفتى في طائرة الخطوط الجوية الجزائرية المتوجّهة إلى لندن يرسل نظره إلى الخارج عبر النافذة وقد أعطيت الطائرةُ إشارةَ المغادرة فأخذت تشقّ سبيلها نحو مدرج الإقلاع. كانت السَّماء عندئذ زرقاء، صافية، تسطع فيها أشعّة الشمس الوهجة. بدت بتلك الألوان الزّاهية وكأنّها رداء ناصع، مزخرف بخيوط ذهبيّة لامعة.
تودّعه الجزائر الآن بسمائها الزرقاء الصافية لتستقبله لندن في نهاية رحلته بعد قرابة ثلاث ساعات بسماء ملبّدة، ممطرة – مثلما شاهد قبل ساعات في الأحوال الجوية – فيزيده ذلك الجوّ القاتم شعوراً بالعزلة والاكتئاب والغمّ.
ما أشدّ تأثّره الآن وهو يرى مبنى مطار بلاده يتباعد شيئا فشيئا أمام بصره. لم يخطر في باله أبدا أنّ الرحيل عن الوطن من أصعب لحظات الحياة وأتعسها!
يغمره فجأة حنينٌ جارف إلى وطنه وهو لا زال على أرضه، وينتابه شعورٌ أنّه حتى إن جال الدّنيا برمتها لن يلفي أرضاً أعزّ من أرض أجداده، ولا صدراً أحنّ من صدر بلاده، فتجيش نفسه وتفيض العبرات من عينيه لفراق وطنه.

يرسل نظره ثانية خارج النافذة عبر بريق العَبرات المتدفّقة من عينيه، والطائرة تستقيم شيئاً فشيئاً في مدرج الطيران قبيل الإقلاع، فتتراءى له صورة حبيبته تسطع في الأفق من خلف غشاء الدمع، كأنّها شمس أشرقت من خلف الضباب لتودّعه. تنقبض نفسه ويشتدّ حزنه وهو يشعر أنّها قد تكون آخر مرّة يسطع فيها بريق الشمس في حياته. لا، لن يرى الشمس ثانية بعد اليوم فقد تركها خلفه في سماء الجزائر. لا، لن يرى أشعتها، ولن ينعم بدفئها ثانية في سماء بريطانيا المغيّمة، الممطرة، القاتمة.

يرحل الشقيّ بخياله إلى الماضي فتنهال عليه سيول الذكريات وتتوالى أمامه مشاهد من مشواره مع حبيبته قبل أن تعصف بهما رياح القدر وتفرقّهما.

ما أشدّ حزنه وهو يتذكّر أوّل مرّة وقع عليها بصره من خلف باب غرفته بعد أن حملها القدر إلى بيت أسرته رفقة خالته، فخفق قلبه إعجاباً بها، وانحنى إجلالاً لها، وعلق بها، لا يريد غيرها.
تتمزّق نفسه حسرة وهو يفكّر في خطاباتها المفعمة بعِبارات الحبّ والشّوق والحنين التي آمن بها عقله، وذاب لسماعها خاطره. ويشتدّ ألمه وهو يستعيد ذكرى اللّقاء المثير في محل خاله وما شعر به حينئذ من دفء وحنان، وراحة بال واطمئنان.
ما أشدّ عذابه وهو يتذكّر وعودها له بالتجلّد والصمود والتّضحية في سبيل الحبّ.
يتوالى أمام بصره مسلسلُ الذّكريات المؤلمة في لحظات الوداع على وقع أنغام مؤثّرة ما فتئت تنتابه فتعذّبه: “أهواك، وأتمنى لو أنساك، وأنسى روحي وإياك…”

ويستفيق من كابوسه فجأة على وقع صوت قائد الطائرة يأمر طاقمه بالجلوس لحظة الإقلاع. فيزداد صخب المحركات، فتنطلق الطائرة بأقصى سرعتها على المدرج ثم ترتقي في الجوّ وتأخذ شيئا فشيئا مسارها شمالا فوق البحر بعيدا عن أرض الجزائر وشمسها ودفئِها، تحمل على متنها فتى تبلّل وجهَه الدّموع ويحمل في ذاكرته قصّة لا تُكتَب صفحاتها إلاَّ بالألم والدّموع.”

مولود بن زادي – الوطن: الجزائر
مكان الإقامة: لندن – بريطانيا
[email protected]

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى