ط
مسابقة القصة القصيرة

زواج عذرى . مسابقة القصة القصيرة بقلم / بهاء العوام . سوريا

فئة القصة القصيرة
الإسم / بهاء العوام سورى مقيم فى بريطانيا

زواج عذري

كان اللقاء الخامس لهما، جلسا على طاولة بعيدة في ذلك المطعم الفاخر الذي افتتح في “جرمانا” مع انطلاقة الثورة ضد الرئيس بشار الأسد.

صوت فيروز كان يحتل المكان ويبدد أي إحساس بالحرب التي تدور رحاها خارج حدود البلدة، ويتردد صداها في أصوات قذائف تعبر سماءها أحياناً، وتهبط في شوارعها أحياناً أخرى.

حمل وجدي كأسه بهدوء وأخذ منه رشفةً سريعةً عكست نيته في خوض حديثٍ استعدّ له مسبقاً، ثم راح يسرد ذكرياته المكانية مع خطيبته السابقة وهو يحدّق في وجه ريم بحثاً عن غيرة اعتقد أنه أوقد حطبها.

مر الوقت بتثاقل، وشعرت ريم بسأم شديد أنقدها منه عودة النادل للسؤال عن طلباتهما.

تناول كلّ منهما قائمة الطعام والشراب، وبعد بضع ثوان اختارت ريم وجبة من “السودة” المقلية مع دبس الرمان وكأساً من الماء يحتوي على شرائح من الليمون.

أثار اختيارها السريع حفيظته، ولكنّه فضّل الصمت خوفاً من مجهول يثير قلقه. ابتسم لها وأملى على النادل طلبه، ثم عاد إلى حديثه.

بعد دقائق صدح رنين جوال ريم، فالتقطته بزفرة طويلة ثم استأذنت لطمأنة والدتها التي اعتادت الاتصال كلّ نصف ساعة. ابتعدت قليلاً وأنهت المكالمة بنزقٍ، ثم عادت إلى الطاولة ليبدأا تناول الطعام على أنقاض مغامرات وجدي العاطفية.

غرست شوكتها في قطعة “سودا” مغمسة بدمس الرمان ومرّرتها إلى فمها بعد أن تلمّستها بشفتيها اللّتين تلوّنتا ببقايا أحمر شفاه كانت قد وضعته أمام مرآتها، ولكن كعادتها، التهمته بأسنانها ولسانها في الطريق من بيتها إلى موقف الباص.

“ماذا عنكِ؟ هل ثمّة أماكن تحتفظ لك بذكريات جميلة؟”.

استشعرت ريم الفضول الكبير المُخبأ في سؤال وجدي، ولكنّها فضّلت التعامل معه في سياق حديث طبيعي، فأجابت:

– “نظرياً نعم وعملياً لا، فقد زرت أماكن عدّة عبر الانترنت، ونشأت بيننا علاقة افتراضية حميمة إلى حدّ أنني أشتاقها، رغم أنني لم أطأها في حياتي”.

“وأين تقع هذه الأماكن؟”، سألها، وهو يتنفّس الصعداء، بعد أن هدّأت الإجابة من قلقه حيال احتمال وجود ذكريات حقيقية ترتبط بعاشق عابر في حياتها.

– “في مكان ما على هذه الأرض”

ردّت ريم وهي تحدّق في كأس الماء الذي تعكّر صفاؤه بقطع الليمون المتجمعة في قعره.

صعد هروبها من تحديد جغرافية الأماكن التي ترتبط معها بقلق وجدي إلى ذروته مجددا، ودون أن يكترث لأي رد فعل قد يصدر عنها سألها بنبرة حادّة تعكس امتعاضاً واضحاً:

– “ماذا عن حياتك العاطفية؟، هل عشت أي علاقة سابقة؟”.

جاء وقع سؤاله على مسامعها كالصاعقة، تلبدت ملامحها، ارتبكت وسقطت الشوكة من يدها لتلوثّ ملابسها، فاستأذنت لتذهب إلى الحمّام.

وقفت ريم أمام المرآة وبللت منديلاً بالقليل من الماء وراحت تمسح بقع الطعام على كنزتها الزرقاء التي كان يفضّلها جميل، ويصفها بقطعة من السماء تلفّ غيمة بيضاء مفعمة بالحياة وتنضح بالأنوثة.

انهالت دموعها بجنون أفقدها اتّزانها ودفعها للركوع على الأرض، مستندة على المغسلة.

ماذا عساها تقول لـ وجدي وكيف تصف علاقتها بجميل؟، هل يمكن أن تسمّيها علاقة عابرة؟، هل يصحّ تسميتها بالعلاقة أم أنّها تستحقّ تصنيفاً جديداً لم يعرفه البشر بعد؟، وقبل هذا وذاك هل أصبحت علاقة سابقة أم أنّها لا تزال حاضرة وربما تكون لاحقة أو أبدية؟.

لم يجتمع ريم وجميل وحدهما في الحقيقة قط، كان لقاؤهما الأول في حديقة عامة مع مجموعة من الأصدقاء المشتركين، ثم تتالت الصدف والأحداث التي جمعتهما بحضور أشخاص آخرين، حتى انتهى الأمر برحيل جميل إلى القارّة العجوز.

بعد أشهر من رحيله احتضن “الفيسبوك” أول لقاء عاطفي لهما، ليشكّل بعد ذلك مع “سكايب” و”واتس أب” عالمهما الخاص الذي عاشا فيه لعامين متواصلين.

تشارك جميل وريم بفضل التطور التكنولوجي الحياة لحظة بلحظة، وبات كل منهما يعرف عن الآخر أدق تفاصيله، بما في ذلك ألوان ملابسه الداخلية وأماكن “الحسنات” و”الشامات” والعلامات الفارقة في جسده. وعندما كان جميل يخرج من منزله كانت ريم تتجوّل معه عبر شاشة “سكايب” في كل مكان، معهد تعلم اللغة، مركز التسوق، الحديقة العامة، المتحف، عيادة الطبيب…الخ، حتى باتت تعرف كل شيء عن مدينته، وكأنها تعيش فيها فعلا.

تعرفت ريم عبر كلمات جميل على جسدها لأول مرة، ومن خلال مغازلته الافتراضية عاشت نشوة الحب حتى باتت تشعر به إلى جوارها في السرير والحمام وعلى الأريكة وأمام مرآتها وخزانة ملابسها، كما صارت تخاطب مكونات جسدها كما كان يسميها.

كيف لها أن تشرع في بناء علاقة جديدة وهي لا تزال تحافظ على شعرها طويلاً كما يحبّه جميل، ترتدي تلك البيجامات الملوّنة الواسعة التي تعجبه، تستمع إلى الموسيقا التي يحبّها وتكتب له عن مجريات حياتها اليومية، حتى عندما طلب وجدي يدها كتبت إليه تسأله رأيه.

مرّ على غياب ريم نحو عشرين دقيقة مما دفع وجدي إلى طلب مساعدة سيدة كانت تجلس على مقربة منهما للاطمئنان عليها، وما إن دخلت المرأة حمام السيدات حتى تنبهت ريم واستجمعت قواها، لتقف مجدّداً أمام المرآة وتتظاهر بإعادة ترتيب ملابسها وزينتها.

شكرت ريم السيدة على مساعدتها ثم عادت إلى الطاولة حيث كان وجدي ينتظرها بقلق شديد. جلست أمامه بكل ثقة، وبعد أن اعتذرت عن الفوضى التي تسبّبت بها، قالت: “لابد أنك لا تزال بانتظار الإجابة عن سؤالك حول ماضي العاطفي”. وقبل أن ينبس ببنت شفة تابعت:”أنا مطلّقة منذ ما يقارب العام، تزوّجت لمدة عامين من شاب يدعى جميل، وعشت معه في ألمانيا حياة سعيدة جداً إلى أن انفصلنا وعدت إلى منزل عائلتي نهاية أذار الماضي”.

 
هذه هي القصة
اسمي بهاء العوام .. سوري

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى