ط
مسابقة القصة القصيرة

زُرفه، عروس السماء . مسابقة القصة القصيرة. بقلم غانية أحمد الوناس/الجزائر

غانية أحمد الوناس/ الجزائر

[email protected]

“زُرفه، عروس السماء “. مسابقة القصة القصيرة. بقلم غانية أحمد الوناس/الجزائر

“زرفه”(1) العذبةُ، الرقيقةُ، الطّفلةُ الّتي كانت تركضُ في حقولِ القمحِ، تفرك بين كفّيها الصغيرتين السنابل المملوءة حبّا، وتنثرها للعصافير، وتهربُ حين تسمعُ صوت جدّتها تصيحُ من أعلى التلّة: “يا زُرفه، أبقِ عينيكِ مفتوحتين، هذا القمحُ لجوعِ الشّتاء، وليس طعاما للطيّور”، كبرت وصغرت مسافاتُ ركضها. صار الحقلُ بعيدا عن حلمِ الطّفولة الجميل، حلّ محلّها فزاعةٌ بحجمِها، تقفُ حاجزا أمام العصافير.

لما كبرتِ سريعا يا زُرفه؟ لما لبستِ ثياب العمرِ الجديدِ بدل طيشِ الطفولة، وخدلتِ للهمّ مبكرا؟

تضحك حين تقترب من شجرة البلوط العتيقة التي تجاور البيت، هناك تحت ظلالها دفنت ضحكات وألعابا وقهقهات، وأسرار طفولةٍ عبرتها الأيام بسرعة، ومضت مخلفة إياها جذعا يابسا لا حياة فيه.

كانت زرفه هي حياتها، كانت ضحكة المكان وعبيره الممتد من أعلى جبل العلاّيق(2) المقابل، إلى سفحه حيث النهر الذي يسير في طريقه إلى أخر أطراف القرية.

تلك البيوت القديمة، بحجارتها العتيقة، والطين الذي يغلف الجدران ويكسبها لون التراب، تلك المترامية هنا وهناك تذكرها جميعا، تحفظ لهجتها الأمازيغية حرفا حرفا، تأخذ عنها فصاحتها حين تتحدث، وتتقن وصلات غنائها حين كانت تجلس أعلى العلاّيق، مخاطبة السماء، فتصدح بصوتها حتى يبلغ مداه النهر وما جاوره، هناك حيث تلتقط هواء نقيا، بعيدا عن ثرثرة العجائز ونسوة النهر اللائي يقضين النهار تحت أشجار الجوز والتفاح، يحكين عن كل شيء، وعن اللاشيء، كانت أصواتهن تصل إلى أعلى التلة، فيعلق الجد بالقول مستنكرا: “فارغات شغل، حين يلتقين ينسين حتّى أنفسهن”.

كان كل شيء يستعيد وجهه حين كانت زرفه تضحك، حزن المكان يختفي حين تقرر بنقائها الحضور، شيء ما في البيت القديم يعرفها، يحفظها، يشتم عطرها من بعيد إذا ما قدمت، فتزهر الحقول في غير الربيع، وتغرد العصافير محلقة في السماء، حتى المطر كان يتراقص طربا إذا ما هطل بخفة فوق شعرها الطويل.

كانت روحها تطغى على كل شيء، ابتسامتها، وجهها المبتهج، كمن ينتظر دائما خبرا سعيدا، لم تكن تحزن إلا حين تفقد عصفورا، أو حيوانا من حيواناتها التي كانت تؤنسها طوال الوقت.

من قال إنها ستكبر لتفقد ابتسامتها؟ من قال إنها ستنسى الفرح، حين تكف عن الولوج إلى عالم الطفولة؟ ومن قال إن الحياة ستجعلها تماما كجذع شجرة البلوط العتيقة التي كانت تحبّ.

تقف عند الباب حائرة، خائفة، أمامها أعينٌ كثيرة ترقبها، هي لا زالت طفلة هكذا كانت تشعر، لكنهم جميعا كانوا يتهامسون، كانت تسمع أصواتهم، همزاتهم، غمزاتهم، حركاتهم بالأيدي، إشاراتهم لبعضهم البعض، ووشوشة كانت توحي إليها بأن ثمة أمرا عظيما بانتظارها.

لا يمكن لطفلة جاءت لتوها من لحظات اللهو أن تنقلب فجأة إلى امرأة كاملة، يحمّلونها وزر الحياة القادمة كلها، كيف ستفهم كل شروحاتهم؟ وكيف ستفهم كل ما سيدلون به أمامها؟ وهي كزهرة نديّة تحاول مقاومة قطافها، أو كسمكة تتخبط هربا من الصنارة التي علقت بها.

تقدمت زرفه إلى الداخل، تتوجس من كلّ حركة تراها، تنظر باتجاه جدتها، فهي أكثر من يعرفها ويفهمها، ويتفهم دائما ما تشعر به، كانت تسألها بعيونها، لعلها تستوعب شيئا من نظراتها التائهة.

“إيه يا بنيّة، كبرتِ وأصبحتِ امرأة جميلة، تعالي اجلسي إلى جانبي، لدي ما أقوله لك”.

“جدتي ما الأمر؟ لما تجتمعون هنا جميعا؟ العيد لا زال بعيدا، ويناير قد مضت عليه أشهر، ولما لم تحضر زينب والبقية مع عمي السعيد؟”

“زرفه يا ابنتي، أنت الآن أصبحت امرأة، اللعب مع الأطفال لا يناسبك، زينب صغيرة، وأنت عليك منذ الآن أن تهتمي بما تهتم به النساء، شعرك، زينتك، ثيابك، يجب أن تتعلمي كل شيء كما يجب، فأنت ستتزوجين قريبا”.

“جدتي أنا…”

كما لو أن السماء أطبقت فوق رأسها، كما لو أن الجبال تحركت جميعها في وقت واحد، وكما لو أن العالم كله فجأة قرر أن يهوي فوق رأسها الصغير، اختنق الكلام في حلقها، غصّ صدرها بالنبض المتسارع وبالحروف المبتورة عند البدء، امتزجت دموعها بحمرة خدها، فاشتعل وجهها نارا تأكل الأخضر واليابس، كانت تبدو جليّة على ملامحها التائهة، ما بين الحلم الجميل والواقع المر الذي لامست قعره لتوها.

“كيف أتزوج؟ جدتي ما زلت صغيرة، وأنتِ دائما كنت تناديني طفلتي، لماذا علي فعل ذلك؟ أرجوكِ جدتي أخبريني لماذا أنا؟

“زرفه يا طفلتي، أنتِ كبرتِ ويجب أن يكون لديك زوج وعائلة وأطفال، لن تبقي طوال حياتك طفلة، افهمي ذلك، انظري إلى نفسكِ يا فتاة، قد أصبحت بطولي، أمك في سنك هذا كانت قد أنجبت جميع إخوتك، وأنت ستكونين مثلها، يجب أن تصغي إلي جيدا، وأن تتوقفي عن البكاء حالا، أنت كبرت هل تفهمين ذلك؟ كبرت وانتهى الأمر، ونحن نفكر في مستقبلك”.

كيف نقنع طفلة بأن تكفّ عن اللعب؟ كيف نقنع زهرة بأن تكفّ عن التفتح كل صباح حين تداعبها قطرات الندى الصباحي العذب؟ كيف نقنع عصفورا بأن يكفّ عن الطيران، ويأوي إلى القفص مبكرا؟ كيف نقنع زرفه بأنه لم يعد بإمكانها المضي في حياتها السابقة، لأن حياة جديدة قد فصلت لها، جاهزة على مقاس جدتها العجوز.

سيكون عليها منذ ذلك اليوم أن تجالسها، لتتعلم منها كل شيء، سيكون عليها أن تغير من عاداتها اليومية، لتصبح امرأة تهتم بشؤون البيت، بدل تلك الطفلة التي كانت تقضي وقتها في الحقول تطارد الفراشات، وتغني مع العصافير.

زرفه كبرت فجأة، فأصبح وجهها الطفولي غائبا عن الكون كله، صار الشحوب يلف تفاصيلها، عيناها الصافيتان امتلأتا حمرة، وزاد الحكل الأسود الأمر سوءا، كانت تبدو كشبح جاء بالخطأ إلى هذا العالم.

مضت أيامها التالية متشابهة، لا تغيير فيها، يوم يليه آخر، والحزن يستقر في نفسها أكثر فأكثر، تجلس في غفلة عن جدتها إلى شجرة البلوط، تشكي لها وحدتها، تخبرها عن أشيائها الجميلة التي تفتقدها، عن الأم التي لم تعرفها، عن الأب الذي لا تذكره، تحكي لها عن رغبتها في الموت، أتصدقين ذلك أيتها الشجرة العتيقة؟ أتصدقين بأن رفيقتك الوحيدة التي كانت تنبض بالحياة، تريد الآن أن تموت؟ تريد أن يتوقف تنفسها، ويسكت قلبها عن النبض، لتصبح هامدة بلا حراك.

ماذا يصنع البشر ببراءة الأطفال حين يقررون عنهم حياتهم؟ كيف تمتد أياديهم الخشنة إلى تلك البراعم الندية فتقطفها قبل أوانها؟ وتقدمها قرابين جاهزة للوحوش.

زرفه الطفلة، سيزوجونها إلى رجل يكبرها بأضعاف عمرها البريء، فقط لأنه رآها مرة، فوقعت في قلبه واشتهاها، ولأنه صاحب نفوذ في القرية كلها، ولأن الرجال يجوز لهم الزواج بمن تعجبهم، ولأنه رجل لا ترفض أي عائلة مصاهرته، حتى لو كانت العروس طفلة، كانت منذ قليل ما زالت تركض وترقص، تجري وتلعب.

“سي العربي”، هكذا ذكروه بالاسم أمامها، هذا الذي سيصبح بعد حين زوجها، مالكها، سيدها وولي أمرها وحياتها القادمة، تضيء الجدة شموعا تضعها أمامها، تختبئ الدموع في المآقي، ينقبض القلب المدرج بالحزن آنفا، تقترب زرفه، تخطو بخطوات ثقيلة فوق أرض لم تعد تماما صلبة كما كانت، تقف أمامهم مباشرة، يضحك سي العربي مبرزا أسنانه المتراصة في فمه بشكل فوضوي، تلمع من بينها سن ذهبية، يضحك متباهيا، ويظهر سروره وكأنه ملك يجلس على عرشه لأول مرة.

“أشرقت الأنوار يا زرفه، تعالت الشمس في السماء، كان يجب أن تحضري منذ زمن بعيد، لكان كل شيء مختلفا”.
تضحك الجدة مجاملة وتقول: “كل شيء في وقته يا السي العربي، هي ذي أمامك الآن”.

“ليس لدي ما أقوله لالا خديجة، ما شاء الله، توكلنا على بركة الله”.

كسلعة معروضة للبيع تقف الطفلة التي كانت مزهرة بابتسامتها قبل الآن، تقف بثياب ليست ثيابها، بوجه غير وجهها الطفولي، بعيون سافرت عن الكون كله منذ لحظة أخبروها أنها لم تعد طفلة، تقف أمامهم لينهوا مراسيم تشييع طفولتها.

تجلس إلى جانب الزوج القادم، يقرأون الفاتحة على نية التوكل، تلبسها جدتها حليا أحضرها إليها، تضع الحناء في كفيها الصغيرين، تطلق زغاريد متقطعة، يهرع الجد إلى الفناء، يطلق طلقتي البارود في الهواء إيذانا بعقد القران المقدس.

تتقدم إليهم العمة بصينية الطمينة(3) والزيراوي(4) والحليب، تضع قطعة منها في فم زرفه وهي تقول لها: “مبارك يا زرفه، مبارك هذا الزواج يا ابنتي”.

تتألم هي في داخلها، تبكي في أعماقها يتمها، لا تعرف كيف يستطيع جميع من يراها هكذا أن يفرح، تبتلع قطعة الحلوى بمرارة الفاقد كل شيء في لحظة الانتهاء.

تنتحب جوارحها، أيها القلب المخضب بحناء العروس الحزينة، أجّل نحيبك قليلا، دعها تمتلئ وجعا إلى حين، دع الدموع تغمرها وتغسل ما في داخلها من جراح وندب، دع الطفولة تعرف كيف تودعها على مهل، لا تتعجل الولوج إلى داخلها، في نفسها من الألم واليتم ما يكفي قبيلة، ما يكفي كونا من المواساة والصبر.

أيها الجالسون على فرحها المؤجل عنوة، أيها المتكئون على حزنها الجلل، كيف تعرفون طريقكم إلى الفرح، فيما يستبيح الحزن كل شرايينها؟ كيف تملكون الرغبة في الحياة، وأنتم تدفعون بالفراشة نحو الاحتراق؟

يغطّون رأسها بوشاح أبيض، يقبلونها جميعا، يرشقون الحلوى والماء من ورائها، تتمازج الأصوات مع الزغاريد المبحوحة، صوت الدفّ الحزين يلج إلى الداخل قادما من زمن اليتم الأخير، تضطرب شجرة البلوط الوحيدة خارجا، كأن السماء حزينة هذا المساء، كأن الشمس لا تريد أن تغيب أبدا، كأن القمر يستعجل الظهور، وكأن الحياة كلها توقفت لحظة وقفت زرفه لتغادر بيت الجدة.

ماضون هم أمامها يرسمون الفرح على وجوههم، وخلفهم طفلة البيت، يكسوها الحزن رداء أبيض من فرط وجوده استحال لونه مائلا للسواد، خطواتهم متسارعة نحو الخارج البهيج، خطواتها بطيئة متثاقلة، ماضون هم إلى القادم الجديد، وهي مغادرة عالم البراءة والطفولة، عالم الحياة التي كانت تحب، إلى عالم الكبار، الكبار جدا الذين لا تعرف عنهم سوى تجاعيد جدتها ولحية جدها البيضاء.

أصوات الفرح خارجا تزفها إلى سي العربي، وأصوات الحزن داخلها تنعيها.

إيهٍ يا طفلة الربيع، يا ابنة الشمس والسهل والنهر والجبل، من يخبر هؤلاء الناس بأن الزهور لا تعيش في غير الحقول؟ من يقنعهم بأن الأسماك لا تعيش في الأحواض ولا تعمّر؟ من يجعلهم يقتنعون بأن طفلة سوف لن تغدو امرأة حين هم يقررون؟

لحظات الفراق قاتلة، خطواتُ المجهول لها رهبةٌ كالموت، في الخارج يستقبلون صيحات الفرح، وزرفه ورائهم تسقط في قاع الهاوية.

سقطت جثة باردة، بيضاء هامدة، غادرتها الروح التي اشتاقت الضوء والهواء، سافرت إلى السماء، خلّفت لهم ورائها جسد الفتاة التي زوجوها، واختارت هي الخلود الذي تريد، هي حرة الآن، هي حرة تركض حيث تشاء.

= = = = =

(1) اسم أمازيغي مشتق من الفضة آزرف.

(2) اسم جبل صغير في قرية من قرى الأوراس.

(3) + (4) حلوى أمازيغية.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى