ط
الشعر والأدب

سفير في ورطة ……بقلم بوفاتح سبقاق

بوفاتح سبقاق
وصل السفير الى مقر الرئاسة في الوقت المناسب ، وجد في استقباله مدير الديوان ، لحد الساعة لا يعرف سبب إستدعاءه العاجل ، حاول معرفة فحوى الأمر و لكن هذا الأخير أبلغه بأنه لا يعرف شيء كل ما في الأمر ان الرئيس طلبه بصورة سريعة و أصر على دخوله للبلاد.
لو تم إستدعاءه من طرف وزير الخارجية ، كان يمكن إعتبار الأمر يدخل في إطار العمل الروتيني للنشاط الدبلوماسي ، و لكن ان يكون الرئيس هو صاحب الدعوة الإستعجالية فهذا أمر مثير للريبة و التخوف و خاصة ان الفترة الأخيرة شهدت الكثير من قرارات التنحية التي صدرت عن الرئاسة.
تمضي الدقائق و كأنها ساعات بالنسبة للسفير ، مساره الدبلوماسي بأكمله يتجسد أمامه ، من ملحق دبلوماسي مغمور ببلد إفريقي لا يكاد يذكر في الساحة الدولية الى قنصل في دولة آسيوية و أخيرا اصبح سفيرا فوق العادة في عاصمة أوربية مرموقة ، لم يحدث أي مشكل عنده و ليس لديه اي شكاوي من طرف الرعايا ، مع انه في زمن الأنترنات و الفايس بوك كل شيء ممكن ، ربما هناك أطراف تريد ان تفسد عليه فرحته الحديثة بمنصبه الجديد ، بإعتبار ان المنظومة يمكنها ان تتخلى عن أي شخص في أي لحظة بأسباب او بدونها.
تذكر كتاب كان قرأه منذ سنوات ، يتكلم فيه مؤلفه عن اللحظات التاريخية الحاسمة ، و عن كيفية التصرف مع الأزمات و مفاده حين نقبل السيناريو الأسوأ تصبح كل السيناريوهات السيئة مقبولة .
يجب عليه أن يبدأ بالفكرة الأكثر سوءا و هي تنحيته من المنصب و العودة للديار بحقيبة غير دبلوماسية ، في هذه الحالة ما عليه سوى التفرغ لتسيير شركته المختصة في الخدمات الفندقية و التي أنشأها بإسم زوجته منذ سنوات ، أو المتابعة المباشرة لمشروعه الفلاحي الكبير الذي يشرف عليه صهره منذ فترة ليست بالبعيدة و في كل الأحوال سيبقى غير بعيد عن المنظومة الحاكمة بإعتباره دبلوماسي سابق.
و ما إن سافر عبر الزمن و أخذ يعيش الواقع الذي تخيله حتى وجد نفسه بصدد منبه زمني حاد يخبره بوجود سيناريو آخر أكثر سوءا لا يمكن توقعه ، مثل إتهامه بتحويل أموال السفارة الى وجهات أخرى أو المساس بسمعة البلد في الخارج او تدبير محاولة إنقلابية ضد الرئيس بالتواطئ مع جهات خارجية و طبعا هذه ستكون تحت بند الخيانة العظمى و جزاءها حتما الإعدام بحكم قضائي او ان تكلف أطراف بتصفيته خارج نطاق القضاء، أو يرمى به بين أحضان الشعب الحاقد على كل رموز الدولة ، ليسحل في الطرقات .
وجد نفسه يتصبب عرقا من هذا السيناريو الأليم و إرتمى اكثر على الأريكة الفاخرة و شرب كأس العصير البارد بكل لهفة و عطش في نفس الوقت.
و ما إن أوقف آلة الزمن حتى كاد ينهض و يصفق و يقدم أروع التحيات الى خياله الواسع و المبدع و خاصة أنه سيغادر الحياة طبقا لآخر سيناريو ملعون.
يتذكر دوما ما كان يقوله درويش القرية :
لا تنزعج يا بني أي مشكل سيكون له حل حتى و لو بقطع الرأس.
لم يستطيع ان يخرج من الكابوس و خاصة انه يجلس وحيدا في انتظار الدخول الى مكتب فخامة الرئيس ، لا يصدق ان خاتمة مساره الدبلوماسي ستكون حزينة و غير متوقعة.
افنى سنوات طويلة من عمره في السلك الدبلوماسي و الآن يخاف ان يذهب ضحية سلك معدني يدمر حياته ، يعني إحتمال ان يسجن أمر وارد جدا.
لديه قناعة بان المنظومة لن تجد أي صعوبة في تلفيق تهمة جاهزة له و هذا طبعا بالإستعانة بترسانة إعلامية عميلة متحكم فيها عن طريق الإشهار و شراء الذمم ، فعلا لديهم قدرات رهيبة في تلميع الشخصيات أو تسويدها.
دخل عليه السكرتير الشخصي للرئيس بوجه عابس و ملامح مزعجة و هذا ما يكرس تخوفه الكبير من الإستدعاء المفاجئ له من الخارج .
– بعد دقائق سيستقبلك فخامته سأطلب لك فنجان قهوة تعدل به مزاجك.
قال جملته و خرج بنفس الطريقة التي دخل بها.

في هذه اللحظات أضحت كل تخمينات السفير في محلها و لا شيء يوحي باستقبال عادي ، فعلا لقد اقتربت نهايته المأساوية ، ربما إبقاءه في قاعة الانتظار لفترة طويلة يدخل في إطار حرب نفسية غير معلنة ، و لكن الرئيس ليس بحاجة الى ممارسات من هذا النوع فهو مجرد سفير من بين عشرات السفراء الذي ينتشرون عبر أصقاع العالم.
حين وضع فنجان القهوة أمامه تردد في ارتشافه و من يدري ربما كان طريقه الى العالم الآخر بسم قاتل في ثواني يجعله سفير فوق العادة في مقبرة مغمورة لا يزورها أحد.
الزمن في هذه اللحظات أضحى مشجبا حزينا تعلق عليه كل مخاوفه و نكساته و هزائمه ، ما أصعب بداية النهاية ، و الأكثر صعوبة ان يصبح ذهنه مسرحا لكل الإحتمالات الصادمة.
وبدأ يسترجع شريط ذكرياته كخادم وفي و مطيع للدولة و فيما يتعلق بملفات ما قد تورطه ، هم أصلا ليسوا بحاجة الى تلفيق تهم او قضايا طيلة مشواره عبر كل المناصب التي شغلها كانت له أخطاء مرتبطة بفضائح مالية او نزوات جنسية و التي كان سرعان ما يتم التكتم عليها حفاظا على هيبة الدولة ، الملفات الوسخة تمثل دولة داخل دولة و كل طرف داخل المنظومة يمتلك ما يدين الطرف الآخر و لكن لا أحد يلجأ للعدالة ، انها توازنات مصالح و ريع و جماعات ضاغطة و جماعات صامتة.
يعرف بعض ما يحدث داخل دهاليز الحكم و لكنه يدرك جيدا أنه ليس بالرقم المهم في معادلة النظام و يمكن الإستغناء عنه في أي لحظة كما يمكن طلب خدماته في أي لحظة أخر.
أحس ان عقله الباطني أصبح بمثابة ملتقى دولي حول سياسات الأنظمة الحاكمة في العالم الثالث ، حيث ان افكاره المتصارعة و تحاليله الكثيرة و المميزة تمثل مداخلات رجالات الفكر السياسي في العالم.
و فجأة صوت داخلي بأعماقه يوقف كل الجدل و التساؤلات الغريبة و لكن بطرح قراءات أخرى لتفسير الإستدعاء المستعجل من طرف فخامة الرئيس.
حاول ان يسترجع قائمة الوزراء او الشخصيات المهمة التي زارته في الفترة الأخيرة ، قد تكون وشاية من احدهم او تقرير كاذب حول سوء إستقبال لوفد رسمي.
او توصية لم تلبى لشخصية مرموقة في الحكم او خارجه ، فالكل يتزاحمون على سفارات البلد بالخارج، الإطارات السامية العاملة و المتقاعدة و هذا بدون إحتساب عائلاتهم ، مصالح و إنشغالات لا تنتهي.
المواطن العادي مهما وجد من خدمات سيئة لا يفعل شيء و لن يسمع صوته مهما كتب أو احتج لدي الهيئات العليا ، بإعتبار انه لابد من الحفاظ دوما على تلك الصورة الجميلة للبلد بين الأمم.
وصل السفير الى مرحلة إستهلك فيها كل الفرضيات الممكنة و الآن يجد نفسه مستعد لأي قرار يصدر عن الرئيس مهما كانت درجة قساوته على حياته او مساره في السلك الدبلوماسي ، النهاية مهما كانت يراها الآن افضل من الوساوس الكثيرة التي تنتابه.
لا يصدق بأنه يمكن ان يصبح مجرد مواطن عادي يتجول في الأسواق و يتأثر بأي إرتفاع في أسعار السلع و الخدمات ، في الحقيقة لم يعد يهمه المنصب بقدر ما يهمه ان تكون نهايته بأقل سوء ممكن و خاصة انه تعود على نمط عيش خاص و سيجد صعوبة في إقناع عائلته بوضعه الجديد و أقصى ما يتمناه أن تتم تنحيته من المنصب بدون محاسبة و هكذا يصبح مثل الكثير من الأسماء الكبيرة التي أصبحت صغيرة و اختفت بكل هدوء من المشهد السياسي للبلاد.
– تفضل سيدي الرئيس يطلبك ….هذا ما قاله السكرتير
نهض بكل قلق و فرح و خاصة أنه سيعرف اخيرا نهايته التي طال إنتظارها ، بعد كل الحسابات و التوقعات و الكوابيس التي عاشها بدون ان ينام سيكون محظوظ بمقابلة فخامته و سماع الحكم الذي سيرمي به في الحضيض او في بئر ليس لها قرار.
الرئيس كعادته بسيجاره الكوبي الفاخر يقف في منتصف المكتب دوائر الدخان تعلو وجهه ، ربما يفكر في مبادرة سحرية تخرج البلاد من عنق الزجاجة.

و ما كاد السفير يجلس في مكانه ، و يسترجع أنفاسه المنهكة بثقل ما عاناه في قاعة الإنتظار ، حتى وجد نفسه يعيش حالة وسطى بين الموت و الحياة ، بين العطش و الإرتواء ، بين الخوف و الفرح.

– و كيف الحال عندك ؟ سأله الرئيس بدون مقدمات.
بقي السفير في مكانه يريد ان يتكلم و لكنه لا يستطيع الكلام ، احس بأنه يعيش كل الأزمان في مكان واحد و كأنه اصبح تمثال من عصور ما قبل التاريخ ، يشاهد الرئيس بكل ملامحه ينتظر إجابة منه و لكنه عاجز عن قول كلمة واحدة ، و هذا السؤال الذي طرحه فخامته لا يعكس أي سؤال ، انه مثل صباح الخير التي قد يقولها المرء لأي شخص يصادفه في الطريق.
و اي حال يقصد الرئيس ، حالته الشخصية ام حالة السفارة أم أحوال أخرى مجهولة ، إنه سؤال يحمل في طياته غموض كبير فيه نوع من التهكم او الوعيد انه يشبه سبر آراء حول قضية نتائجها معروفة مسبقا.

و في لحظة تاريخية فارقة تشبه صرخة ممثل مغمور على خشبة المسرح ، إستطاع السفير ان يستجمع كل قدراته و أفكاره و يخاطب الرئيس بثقة تخفي وراءها مشروع إنهيار تام.
….. انا بخير سيدي كل شيء على ما يرام –

مشى الرئيس بخطوات واثقة نحو شرفة المكتب ثم عاد الى السفير بكل سرعة ليعبر عن المغزى الحقيقي للقاء المستعجل.
– ستكون رئيس الحكومة الجديدة ، عليك ان تجهز نفسك من الآن.

لم يصدق السفير ما سمعه و كأنه يعيش اغرب حلم في الواقع و لكنه إستطاع ان يرد بكل ثقة.
– أنا في الخدمة سيدي و مستعد لتحمل المهمة و سأكون عند حسن ظنك.

– الحكومة الحالية فاشلة على كل الأصعدة و لم يعد لها أي رصيد شعبي ، المشهد السياسي بأكمله يعيش سقوطا مذهلا ، موالاة بلهاء ومعارضة مجنونة…….هذا ما قاله الرئيس .
شعر السفير بسعادة كبيرة و هو يستمع الى فخامته فعلا إنه تشريح يعكس مدى الأزمة الكبيرة التي تعيشها البلاد ، أراد أن يحكي للرئيس عن رأيه الشخصي حول نظرته للواقع السياسي و لكنه وجد نفسه يعيش أجواء رائعة لم يكن يتوقعها من مهدد بالتصفية أو التنحية الى رئيس حكومة ، فعلا الحياة دائما تخفي سيناريوهات أفضل هواجسه و مخاوفه كلها تبددت في لحظات و القادم سيكون أروع و أجمل.
غادر السفير الرئاسة بكل نشاط و حيوية و هو يفكر في التشكيلة الحكومية التي سيقترحها على الرئيس في غضون أيام.
فخامته يؤكد على ضرورة إختيار وجوه جديدة قد تضفي شيئا من المصداقية على الدولة التي تعيش أوضاع داخلية متدهورة مست كل القطاعات.
رحلة عودته كانت تختلف كثيرا عن بدايتها ، من سفير مهدد بنهاية مأساوية الى رئيس حكومة بصلاحيات موسعة فعلا حين تتوفر الإرادة السياسية كل شيء ممكن.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى