،
سمفونية الحب تعزف ألحان الخلود؛ نتقلّب بين جمرات الحنين إلى الذكريات ودموع الكبرياء، البكاء بصمـتٍ مع الاحتفاظ بحق العـودة في شموخ وبهاء. ما أوجعَ أنين جناحٍ مكسور!؛ مطويّ على الجراح يرتجي طِيب الشفاء، ذاك الوجـع الخـافي عـن العيون، الغافي بين الجفون، يستعيد بدمع الحنان ذكريات الصفاء..
هنا في حجرة مكتبي الرمادي، أجلس على مقعدي الدوّار، أواصـل الليـل بالنهـار، علّهـا تنجلي تلـك الليالي البـاردة المقيتـة؛ فأرتاح، أو ينقشع ذاك الضباب الأسود الجاثم على صدري، والذي يوشك أن يفتك بي، فهل أستحق أن أنال مرادي؟!..
يذبحني الندم، ويدميني الشعور بالذنب، وكيف لا أفعل ومن بيدها سـعادتي وراحة بالي؛ طردتها؟!..، نعم طردتها!، وأخرجتها من حياتي بأسوأ طريقـة، وأقسى طرائق الألم..
اليـوم موعدنـا؛ فمنـذ ثلاثمائـة وخمسة وستين يومـاً، وعشرين سـاعة، وثلاث عشرة دقيقـة، وسبع ثوانٍ لعينـةٍ أليمة.. قاسـيةٍ أليمةٍ.. ثقيلةٍ طويلةٍ لا تكاد تنقضي، قضيتهم وحدي أصارع الألم؛ فأحترق اشتياقاً وأتجرّع مرارة الندم نيابةً عنّا..
تصادمات واعتراضات، فروقات كثيرة، عقبات وتحديات توقعناها، صمود وتحدي وعهود قطعناها؛ فخذلتهـا وفقـدت ثقتهـا عنـد أول هبـة ريح عـلى حياتنـا الوليدة الفريدة، والفريدة مع كل الامتيازات..
لم أخبركِ ياحبيبتي كيف سرقتِ أنفاسي؟!، لم أخبركِ ياحبيبتي كيف ارتعش ذلك الكامن بين الضلوع بقوة، ويكأنه يعود للحياة بعد سباتٍ طويل؟!، لم يلفت انتباهي تناسق قوامك باعتدال، ولا تناظر عينيك اللّوزيّتَيْن في اكتحال، ولا أناقة شعرك اللّيلكيّ باكتمال، بلى؛ قد فعلت وقد ملكتِ إحساسي..
بلى قد فعلت؛ وفعلت.. حيث انجذبت إلى قوة شخصيتك، وهالة وقوفك الثابتة، على هيئتك الشامخة، وأنت تسألين عني، وأنا من أنا؟!، وأنت محامية وناشطة حقوقية وكاتبة روائية، متخصصة في القانون الدولي وحقوق الإنسان، ومن هنا كانت أول الاختلافات..
كانوا هم السبب الأول والأخير؛ عائلتي ذات الحسب والنسب، عائلتي ذات الأصول العريقة، والمكانة الأرستقراطية الرفيعة، والوجاهة والنفوذ الغير محدود، يا للأمر المثير!!..
أدخلوها دوائرهـم الملوّنـة بالتملـق والمزيّفـة بالنفـاق، وحاصروهـا بالابتسامات الصفراء، ولاحقوها بالعبارات التي تحمل الكثير من المعاني، والتلميحات التي تغذي نواياهم الخبيثة، فأهانوها وقلّلوا من شـأنها، واحتقروا منها كل تصرف ومقال، في غيابي، وفي حضوري يكون الإشراق..
تحاول جاهدةً المثابرة والتماسك من أجلنا، ولم تسمعني شكوى ولا تذمر عنهم، بل الصبر والابتسام؛ حتى قادونـا لفخهـم الأنيـق بـذكاء، فذهبنـا مبتسـمَيْن وعيوننـا مفتوحـة، فسـقطنا في الفخّ معاً، تهاوت بعيداً عني، وتركتني أصابعها الرقيقة، وعندما استعدت رؤيتي كانت تحت أقدامي كأوراق الخريف، وإذ بي أتابع المسير وأتركها دون اهتمام..
يالوقاحتي!!.
ألومهـا، أعاتبهـا، وأقسـو عليهـا بالاتهامـات، وشيطان الشك والغيرة يتراقص أمام عينيّ، وشـبح الخيانـة يجلدني؛ فظللت أكيل إليها الاهانات؛ فأذبَحُنِي بها، حـتى طردتهـا مـن بيتي؛ فهَجَرْتُنِي، فمزّقت روحها؛ وقتَلْتُني؛ فغـدوت أسير على قيد الممات، أسكن قبراً جميـلاً، ليتني كنت فداءً لها..
حبيبتي؛ هذا أفضـل ما استطعت وصـف حالتي به دونـك، فأنا لست بارعاً مثلك في الرسم بالكلمات، وقليـلٌ عليّ تعذيبي وبكائي وجَلـْد الذات، ويقودني للجنون كيـف تغافلت عن ألاعيبهم الخبيثة، ومخططاتهم المقيتة؟، كيـف شـككت بـك لحظـة واحدة، وقد كنتِ لي وحدي قلباً وعقلاً وروحاً؟، كيـف لـم أرَ دموعـك ولـم أسـمع بـكائك وندائك..
ياإلهي؛ كيـف فعلت هذا؟، لا لـم أكـن أنـا، بل كان شبحاً، كان شيطاناً يتَلبَّسُني..
وعندمـا علمـت حقيقتهـم وانكشـفت غيامـات غبـائي؛ خجلـت مـن نفـسي، وفضّلـت جحيـم النـدم وعـذاب بُعْدك، والاكتواء نيران الشوق إليكِ؛ عـلى رفضـك إيـايّ، سأدخل الجحيم سعيداً كي تعودي إليّ، حبيبتي وألف ألف حبيبتي؛ لم ينقطع عهدنا، ولن تنتهي صلتنا، وبكل وسيلة سأستعيدك، وأنال ثقتك وحبك، يملأني الأمل وحسن ظني..
حبيبتي؛ أحتاجك لأتنفس، أريدك لينبض قلبي من جديد، أتعلمين حبيبتي كيف تشـتعلين بالاشـتياق؟، وكيف تتذوقين اللهفة؟، وكيف تنامين بين الوجْد والاحتراق؟!..
فـي كل زاويـةٍ أراكِ وأسمعكِ، وعندمـا أمـدّ يـدي لألمسـك تتلاشـين وتذوبـين في ليلي الطويل الـذي لا ينجـلي، حتى ينشقّ النهار أمام ناظريّ، قبل أن أُصاب بالجنون، وقسماً لم تفارقني نظراتك المتوسّلة ولا دموعك الغالية عقلي ووجداني، وقد كانت آخر ما ضمته عيناي منكِ، كـم تمنيـت أن أتجاهـل مسـافات الجفـاء ومـدارج العتـاب لأكـون معـك؟، وكـم تفاوضـت مـع جنـوني وكبريـائي الغبي لأمزّق كل الحواجز حولكِ..
كيف أصف لكِ مقدار اشتياقي لأن أعود إلى الحياة؟!، كيف أَزِن لك مقدار ندمي وشعوري بالذنب؟!..
ظننـتني أقـوى مـن الهجـر والقطيعـة، وأن اضطرابـات نبـضي واختـلاف جريـان الـدم في عروقي، مـا هـو إلا حـمى تلازم المتشبثين بالعناد، والمتمسكين بجمرات البعاد؛ وعندما انتفضت على ثورة قلبي وعقلي من أجلك، وتألمت لعصيان جوارحي طلباً للمسك، وتواطأ النوم والنسيان على هجراني؛ فأيقنت أنني أسير على طريق الانتحار بامتياز..
وتذكرت كيف كان قلبـك منيعاً؟!، وكيف سمحتِ لي باختراق حصونك؛ فكشفتِ لي بواطنك الثمينة، وأسقطتِ أمامي دفاعاتك الدفينة؟!، علمتيـني قوانينـك وفهمتيـني دسـاتيرك، وأن مدينتـك الحنونـة مسـحور مـن يدخلهـا، معشـوق مـن يعيـش فيهـا، موعـود بالسـعادة الأبديـة مَن يختلـط دمـاءه بدمائهـا، وتسـافر روحـه إلى أعمـاق روحهـا، حيـث سحر الحـب، وصـدق المحبة، وتفاني الأحبة..
فوشـمتك بالنـار عـلى جـدران قلـبي لأتذكـرك كلمـا تألمـت، فيا حبيبتي وأميرتي ووجعي الكبير؛ هل توقفين زمان الترحال هذا؟، هل تُلَملِمين مـعي بقايـا ذكرياتنا، وتمسـحين عـلى شـغاف قلـبي الوحيـد بدونـك ليسـتكين وجيفـه ويرتـاح؟..
سـأقاطع كل جهـات الدنيـا وأُقبـل عـلى جهتـك، وأكـون كل إطـلالات نوافـذك، وأقطع كل حواجـز الفـراق بيننـا، وأمـارس كل فنـون الحـرب في الحـب، وقوانين الحب في الحرب، فـفي الحـب والحـرب كل شيء مـشروع..
حبيبتي لم يكن لقاؤنا صدفةً؛ بل كان تطبيقاً لمَا كُتِبَ في كتاب الدهر، فما بيننا لا يقطعه بشر، وكان لجسدي ثورة ثانية عندما ساقتني قدميّ أمام بابِك، فكنتِ هناك خلف الزجاج تواجهينني، ولم أصدق نفسي وأنا ألتهم خيالات جسدك بعيون جائعة، وأنفاس لاهثة، ونبضات بالقلب مدويّة..
هل كنتِ في انتظاري؟، هل شعرت بما مررت به؟، هل سرق الليل راحة بالك مثلي؟، أم ماذا؟.. وليتك تفعلين..
لا أعلم كيف وصلت عتبتها، ولا متى انفتح الباب، غير أنني أخيراً كنت أتنفس.. أتنفس، حين ضممتها، ولثمتها، وعميقاً عميقاً بين الضلوع خبّأتها، وبين شغاف الفؤاد ضغطها، ولساني يخبرها بكل ما مررت به، ومسامعي تشرب أصوات تنهداتها وبكائها المكتوم على صدري، طويلاً.. كثيراً.. يختلط أنين بكائها بصوت شجوني، وعندما يخرج زفيرها الباكي ييلتقطه شهيقي الشاجي؛ ووجدتني على قيد الحياة..