ط
الشعر والأدب

شارع سعد منصور .قصة قصيرة بقلم / عاصم صبحي

 

أعلنت دار الإفتاء المصرية أن غدًا هو المتمم لشهر شعبان و أن يوم بعد غد هو أول أيام شهر رمضان الكريم .. كان هذا الإعلان بمثابة فرحة كبيرة لأطفال و صبية و شباب شارع سعد منصور الكائن بحي كليوباترا المحطة بالاسكندرية ، ليس هذا و حسب بل لعموم شوارع مصر خاصة التي تقع في الأحياء الشعبية و المتوسطة ، كون أنها أي الشوارع تزدان بالأنوار و المعلقات من أوراق زينة و فوانيس رمضان التي يبدع كل شارع في إخراجها ..

جلس عاصم في شرفة منزله المطلة علي ممر يؤدي إلي ساحة متوسطة الإتساع بها مدخلين لمنزلين يقطن بهما عدد ليس بالقليل من أخوته الذين شب علي صحبتهم و لقائهم يوميًا هو و أشقائه الأصغر منه سنًا محمد و سامي اللذان يتواجدا في تلك الساحة بصحبة أسامة الساكن بالطابق الأرضي بأحد المنزلين ، و حميد و سامح جيران من الشارع الموازي ، و توني جار عاصم بنفس المنزل ..

كان عاصم يعد قصاقيص ورق الزينة من كراريسه القديمة ، حيث كانت تلك مهمته في إعداد زينة رمضان ، يقوم بقص الورق علي أشكال أهلة و نجوم بأشكال و أحجام مختلفة ، من ثم يمرر ما تم قصه لفريق العمل المنتظر بالساحة ليقوموا بصبغ القصاقيص بألوان صبغة معدة من قبل أسامة حيث قام بتجهيزها بالمنزل ، ليقوم باقي أفراد الفريق بنشره علي دبار مشدود بعناية و لصقه بالكولة المعدة من الدقيق و الماء كنوع من الصمغ اليدوي الصنع ..

تري الفرحة و الهمة و النشاط في أداء المهام التي وكلت إليهم ، تلك المهام التي تأتي كل عام مرة مع قدوم الشهر الكريم ، فلقد توارثوها و نشأوا عليها .. بينما هذا الفريق يعمل بهمة تجد فرق أخري تتولي مهام أخري ، فهذا محمد و ايهاب ولاد العم و فوزي و مسعد من شباب الشارع يقوموا بتعليق أفرع الزينة الورقية التي أصبحت جاهزة علي التعليق في الشارع بعرضه ، إلي جانب تجهيز أفرع النور و التي لا تقل عن ستة أفرع بكل فرع ثلاث أو أربع لمبات فئة المائة واط إلي جانب لمبتان كبيرتان فئة الخمسمائة واط ، بالطبع بخلاف فانوس كبير من الخشب مكسو بورق ملون قاموا بإعداده مسبقًا ..

في جو من الألفة و المحبة مر بعض الصبية و الأطفال علي بيت بيت من سكان الشارع و ذلك لجمع مبلغ من المال صغر أو كبر المهم أنه بمثابة مشاركة جماعية من بيوت الشارع كله لجمع المال اللازم لشراء كل متطلبات زينة رمضان ..

لا يكاد يأتي مغرب يوم السحور الأول المنتظر حتي يضئ الشارع كله و ما أن يضاء حتي تسمع أصوات التهليل و الفرحة تعم الشارع ، فالأطفال و الصبية و الشباب الكل مجتمع في الشارع لوضع اللمسات الأخيرة ، فالليلة أولي ليالي رمضان و لا تحلو إلا بالسهر و اللعب في الشارع ، أبرز الألعاب و أهمها علي الاطلاق في عموم شوارع مصر هي كرة القدم ، تلك اللعبة الشعبية الأولي بالنسبة لصبية و شباب الشارع .. يبدأ الأطفال باللعب فرحين بالإضاءة و باللمة ثم يستحوذ الفتية الأكبر سنًا علي الشارع بطوله ، فإذا ما كان هناك عائق يعيق اللعب كوجود سيارتان أو أكثر بقليل لا يتجاوز الأربع سيارات مركونين في الشارع حتي يسارع كل واحد بإبلاغ صاحب السيارة بضرورة تحريكها و ركنها في مكان آخر و يتم ذلك بكل ود ، و لوالد عاصم سيارتان إحداهما يجب أن تتحرك من مكانها ، و يتسع الشارع و يتحول إلي ملعب كرة قدم ، و إذا بالفرق تتكون و تعلو الأصوات و يتنافر البعض حرصًا علي البدء باللعب فهناك أكثر من فريق ، فريق الشارع و فرق الشوارع المجاورة التي تأتي بإنتظام ، كان عليهم أن يلعبوا مباراة أو مباراتان علي الأكثر أو أن يختموا لعبهم حوالي الحادية عشر و النصف ليبدأ لعب الكبار حتي موعد السحور …

يقف ايهاب ممسكًا ببلونة منفوخة صغيرة الحجم عليها قطعة قماش و يبدأ بلف بكرتان من الخيط السميك بعناية و دقة فائقة ثم يكسوها بشريط لاصق مكونًا كرة نموذجية لمباريات الشارع ، لتبدأ عمليات الإحماء و تجربة الكرة و تقسيم الفرق ..

أجواء رمضانية خالصة أهم ما يميزها روح العائلة السائدة بين كل الجيران ، والدة توني تقف في شرفتها تتحدث مع جارتها في الشرفة المقابلة والدة جمال مهنئة إياها بقدوم الشهر الكريم ، عم ابراهيم والد كل من حسين و محمد و أسامة يقف عند مدخل العمارة مع والد عاصم يتبادلان الحديث و التهنئة ، تكاد تكون أبواب الشقق في جميع العمارات مفتوحة …

يمر السحور الأول و قبل أن ينقضي نهار أول أيام الشهر الكريم بساعة كان لابد أن تجد محمد ” راكيت ” و محمد شقيق عاصم و ايهاب يمارسون هوايتهم المفضلة و هي لعب الراكيت و هم محترفون بحق .. يتعالي صوت التلفاز في جميع البيوت لمشاهدة أولي حلقات الفوازير ثم المسلسل ، بينما يتسابق الذكور للخروج من المنزل ، الوالد يذهب ليصلي صلاة العشاء و التراويح بالمسجد القريب ، مسجد بلال بن رباح و هو المسجد الأكبر بالحي و الذي يجتمع فيه كل أفراد الحي بلا مبالغة ، و الصبية و الشباب يبدأوا تجمعاتهم المعهودة ، و تسمع صوت فرقعة البمب و لهو الأطفال …

ذهب عاصم ليصلي صلاة العشاء و التراويح ، في طريق عودته للمنزل اشتري بعض متطلبات السحور من خبز و فول و زبادي للأسرة ، ما إن وصل علي ناصية الشارع حتي تسمرت قدماه ، لم يستطع الحركة من هول ما يراه أمامه ، يا إلهي ما هذا لا أصدق عيناي كيف حصل هذا و متي ؟!! هكذا وقف عاصم متسائلًا ..

الشارع يغمره الظلام الدامس ، خالي من الناس إلا بعض المارة الذين لا يعرفهم ، الشارع متكدس بالسيارات عن اليمين و اليسار ، لا يبدو علي هذا الشارع أي مظهر من مظاهر ليالي رمضان ، يبدو كأنه في ليلة من ليال الشتاء القارس ، خاو تمامًا ..

لم يقطع لحظات الذهول هذه سوي صوت رنين الهاتف الشخصي لعاصم ، يخرجه من جيبه و يرد علي المتصل ، كانت ابنته تسأله هل اشتريت الزبادي يا بابا ؟

عرف عاصم أنه كان يري شريط ذكرياته مع رمضان و ليالي رمضان في الشارع الذي ولد به و كبر و نشأ بين جنبات هذا الحي الجميل الذي كان ..

عاد إلي منزله متسائلًا كيف حدث هذا التغيير الكبير في غضون خمسة و ثلاثون عاما مضت ، أين الناس أين الجيران ، أين الزينة و الأضواء ، أين الفرحة أين الحب ، أين الروح ؟!!!

كيف تراجعت كل هذه المعان ، كيف اندثرت و من المسئول عن هذا التحول الجذري ، هل يعقل أن نتطور إلي الأسوأ ، هل يعقل أن نتباعد و نتلاشي هكذا ، و يزيد الوجع وجع أعظم و يعمق الفرقة لتفرد هذا الوباء اللعين ، هل ينتهي الأمر أن يعزل كل فرد في الأسرة نفسه في غرفة منفردًا بذاته و يتفرق المتفرق ؟!!

لم يجد عاصم نفسه مهمومًا أو حزينًا أو حتي متشائمًا رغم كل هذا لا يدري لماذا ، لعلها رحمة من رب العالمين في هذه الأيام المباركة ، و لعلها تحد لواقع أليم يحيط بالكل ليس به شخصيًا فهو انسان واثق بالله و بنفسه يحمل مشاعر الحب لكل من حوله ارضاءًا لربه و ارضاءًا لنفسه فما كان منه إلا أن يقرر كتابة ما يجول بخاطره ليشاركه مع من يحب .

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى