الشعر والأدب
شاعرية الانزياح الاستدلالي في قصيدة (روحٌ وراحٌ) لسامر حجيجي. بقلم / د. نيفين عزيز طينة
د. نفين عزيز طينه..مكتب فلسطين
تُبرِزُ ظاهرةُ الانزياح اللغوي فوائد جمة في البناء الأدبي بالنسبة للشعرية الحديثة؛ وذلك بنوعيه الاستدلالي الذي يتعلق بماهية الوحدة اللغوية أو بدلالاتها من خلال استخدام الكلمات بمعانٍ مشابهة لمعانيها الأصلية ومخالِفة لها، مثل الاستعارة والكناية والتشبيه والمجاز، والانزياح التركيبي الذي يحدث من خلال طريقة ربط الدوال بعضها ببعض داخل الجملة، والمرتبطة بالسلسلة السياقية الخطية للإشارات اللغوية، بما تحتمل اللغة مِن بنيات نحوية عامة ومطردة. وفي هذه المقالة، سنتناول ظاهرة الانزياح اللغوي الاستدلالي في قصيدة (روحٌ وراحٌ) للشاعر الفلسطيني سامر حجيجي للكشف عن مكنوناته ودوافعه وإبراز قيمته الفنية والشاعرية.
بدأ حجيجي بمطلعٍ تنزاح فيه الألفاظُ عن دلالاتها ومعانيها المعجمية المألوفة انزياحا استدلاليا لافتا: (ما همّني لَسْعُ السُّلافِ وإنّما، عاركْتُ سُكَّرَها فغازَلَ ضِرسي)؛ فالسُّلافُ وكأنه نحلةٌ تلسعُ، والسّكّرُ وكأنه عاشقٌ يغازِلُ بعد عِراك، حيثُ خرجت الكلمتان (السُّلاف، والسُّكَّر) عن معانيهما الأصلية، وصار لهما معانٍ بلاغية أخرى؛ إذ جاءتا كنايةً عن ضرورة بذل الجهد لأجل الوصول إلى المُراد، ونستحضر في هذا السياق قول المتنبي: (تُريدينَ لقيانَ المعالي رخيصةً، ولا بُدَّ دون الشهد مِن إبر النحلِ)؛ فبيتا المتنبي وحجيجي يؤكدان أنَّ إدراكَ حلاوة الأشياء يكونُ بمقاساة مرارة الطريق إليها، ولا يبلغ حلاوة العسل إلا من قاسى مرارة اللسع.
وفي البيت الثاني، استلهم الشاعرُ قصة نبي الله آدم وتعجُّلِهِ لبلوغ الخلود، وعدم تريُّثهِ ورضائه بما قسم الله له من ثمرات الجنة وخيراتها: (كيفَ السبيلُ إلى التريُّثِ في الهوى، إِنْ راودَتْ تُفّاحَها عن نفْسي)، فآدم وزوجه أزلهما الشيطان وأكلا تفاحة الشجرة التي نهاهما الله عنها، ولم يتريّثا في هواهما. وهنا يتساءلُ حجيجي، كيف للإنسان العاشق الشغوف أن يتريّثَ في هواه، كيف يتحلّى بالصبر والأناة بينما تفاحُ محبوبته يراوده عن نفسه؟ وتجدرُ الإشارةُ أن التفاحَ الوارد في النص الذي بين أيدينا يشكِّل انزياحا استدلاليا على سبيلِ مجازِ جزءٍ من كل؛ وبينما كانت تفاحة آدم ثمرة حقيقية لم يتريث عليه السلام في أكلها، إلا أن تفاح حجيجي يمثل كل ما يمكن أن يغري الإنسانَ لبلوغ أهوائه ورغباته. وفي سؤاله إشارة ضمنية تبيح للعاشق ألا يتريث في جنونه، وأن يتبع صوت المراودة ويأكلَ التفاح دون أن يخشى الهبوط من الجنة.
ويكشف الشاعرُ أن هذه هي طريقتُه في العشق: (هذي ديادنُ عاشقٍ متلهِّفٍ، للثْمِ من وردٍ شفيفِ الحِسِّ)، ومن خلال انزياح تقليدي يشبّه محبوبته بالورد الرقيق، ويقول إنَّ تقبيل الورد ضرب من ضروب التعبير عن مشاعر اللهفة والاشتياق.
ويصفُ حجيجي سكرتَهُ عندما تلتقي عيناهُ بعينَي محبوبته، ويستعير لذلك صورة الخمر الذي يغري المتعبين فيلجأون إلى شُربه لعلهم يهربون من واقعهم وينسون ما يمرون به من ظروف قاهرة: (ما لي إذا طافت بعيني عينُها، كالخمر يغري المتعبين فيُنسي)؛ فمن خلال استفهام تقريري، يفصح الشاعر أن النظر في عيني محبوبته هو وسيلته الوحيدة وحيلته المتيسرة للهروب مِنَ الألم الذي قد يجابهه في الحياة. واللافت في هذا الانزياح أن تأثير الخمر يذهب مع الوقت أو بفعل منبه خارجي، وبالتالي يكون الشارب بحاجة إلى مزيد منه كلما رغب، وهذه إشارة ضمنية إلى حاجة الشاعر العاشق الدائمة إلى النظر في عيني محبوبته حتى يشعر بالأمان ولو بشكل مؤقت.
ويتأكَّدُ هذا المعنى في البيت الذي يليه: (وإذا استدارت غفلةً أو أعرضَتْ، ما كدتُ أعرف عشرةً من خمسِ)؛ فالشاعر يصف حالة الضياع والتيه التي تنتابه حين تغيب محبوبته/ خمرته أو تعرض عنه، ويعبر عن ذلك من خلال تعبير انزياحي صريح، وهو عدم القدرة على التمييز بين العشرة والخمسة، وما هذا الانزياح السافر إلا إشارة جلية تدلل على إحساس الشاعر بالاغتراب بعيدا عن محبوبته وعينيها.
وفي انزياحٍ آخر، يشَبِّه الشاعر النسيمَ بإنسان يسكر، وشَعْرَ محبوبته بالقدح الذي يوضع فيه الشراب، كناية عن روعة النسيم وهو يداعب شَعرَ المحبوبة في حالة من التجلي والتماهي تشبه حاله السُّكْر: (ويلاه إن سكِر النسيم بشعرها)، وتجدر الإشارة أنَّ حالة السكرِ التي أرادها الشاعر حالة سامية بعيدة عن فكرة الإفراط في تناول الخمرة حد فقدان الوعي والقدرة على ضبط التصرفات، ويتجلّى هذا المعنى في شطر البيت الثاني: (، مثلُ الكنار إذا ارتقى من حبْسِ)، فطلاقة النسيم وهو يداعب شعر المحبوبة بحرية ورقة وتجلٍّ، تشبه حال الكنار وهو يرتقي من حبسه إلى سماء الانعتاق، وفي الصورتين دلالة على كون العلاقة بين الشاعر ومحبوبته علاقة طلِقة لا قيود فيها، تماما كما لا قيود على النسيم أو طائر الكنار خارج القفص.
ومما يدلل على طلاقة العلاقة بين الشاعر ومحبوبته تصريحه أنه يفهم منها بالنظرات دون حاجتها إلى الكلام: (أو إنْ ترجَّلَ فارسٌ مِن عينها، خمّنتُ ما رغبتْ وذلك حَدسي)؛ فقد شبَّه الشاعر نظرات عينها بالفارس الذي يترجل عن فرسه، وهذه صورة جديدة لم يسبقِ صاحبَ النص إليها أحدٌ، في حدود اطلاعي. ويشير هذا الانزياح إلى متانة الرابطة بين الشاعر ومحبوبته، فهو يلبي رغباتها قبل أن تنطق بها، ويصيب حدسُه لمجرد أن ينظر في عينيها.
ويختمُ صاحبُ (روح وراح) قصيدتَه بصورة انزياحية بليغة: (هذي اللالئ كشّرتْ عن حُسنها، وأنا بها من حيثُ أصبِحُ أُمسي)، ويختصر الشاعر بهذه الصورة تجربته التي عايشناها على مدار القصيدة، فهو يصبح ويمسي ويبتدئ وينتهي من حيث تباشِرُ محبوبتُه تطويقَهُ بحسنها ودلالها، وقد صوّر ضراوة هذا التطويق من خلال استعارة صورة الكواسر وهي تُكشّرُ عن أنيابها إما انقضاضا على فريستها أو دفاعا عن نفسها أو عن صغارها، وفي هذا الانزياح الصارخ تعبير عن شراسة المرأة في تعبيرها عن مشاعرها أو احتياجاتها، فهي، في نظراتها لا تعرف المزاح أو الوسطية، تماما كالكاسر حين يكشر عن أنيابه. وبغض النظر عن تلك الشراسة، فإن الشاعر العاشق مأخوذ بها إلى حد أن يبتدئ منها وينتهي إليها.
وفي نهاية القول، نؤكد أن سامر حجيجي لم يُوَظِّفْ فكرة الانزياح اللغوي الاستدلالي حبًّا في التميّز والتفرد فحسب، أو لمجرد رغبتِهِ في مخالفةِ الاستعمال الشائع للألفاظ والتراكيب؛ حيث إنَّ المخالفةَ بمفردها لا تُعَدُّ كافيةً لتوليد الشاعرية. وقد تمكّن الشاعر من خلال انزياحاته الاستدلالية، والمرتبطة بعدد ملحوظٍ من الإشارات التناصية المختلفة مِن خلق عنصر المفاجأة داخل النص موضوع المقالة، ذلك من خلال جملةٍ من التركيبات والصور الانزياحية التي منحت القصيدةَ قيمَتَها الفنيةَ والجمالية، ورسمت أحاسيس الشاعر وأفكارَه بريشة الإبداع والاحترافية، وجنحتْ بالقصيدة بعيدًا عن المباشَرةِ غير المحمودة، وبذلك تمكّن الشاعرُ من بناء علاقة تفاعلية دراماتيكية بين النص والمتلقي، ويسَّرَ له فرصَ التأويل والتخيل والتحليل دون أن يُلقِّنَه المعاني والدلالات تلقينا تقليديا جامدا؛ فتحوّل الانزياح، بذلك، من أداة فنية بيد الشاعر، إلى منهج تحليلي في خيال المتلقي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روح وراح
سامر حجيجي
ما همّني لسع السلاف وإنما
عاركتُ سكّرها فغازل ضرسي
كيف السبيل الى التريّث في الهوى
إن راودتْ تفاحها عن نفسي
هذي ديادن عاشقٍ متلهّفٍ
للثم من وردٍ شفيف الحِسِّ
لا بلسماً للعشق إن هز الصّبا
كأسا يرن كما الشفاه بكأسي
عاقرتُ بعض الراح لما تمتمتْ
ثم استعذتُ من الحيا بالمسِّ
فترنحت شبّت و خرّت والتوَتْ
وتقاسمت أقواسها مع قوسي
و تلاطمت أضواء عينينا كما
ليلٌ أنار سهادنا من قبسِ
ما لي إذا طافت بعيني عينها
كالخمر يغري المتعبين فينسي
وإذا استدارت غفلة أو اعرضتْ
ما كدت اعرف عشرة من خمسِ
ويلاه إن سكِر النسيم بشعرها
مثلُ الكنار إذا ارتقى من حبسِ
أو إن ترجل فارسٌ من عينها
خمّنت ما رغبتْ وذلك حَدسي
هذي اللالئ كشرت عن حُسنها
وأنا بها من حيث أصبح أُمسي