بقلم / عبد الرازق أحمد الشاعر
كان يوما مرهقا للغاية، لم يقطع فيه صاحبنا النجار واديا ولم يبق ظهرا. ففي طريقه إلى مزرعة أحد زبائنه، أحس بصوت غير مألوف يصدر عن سيارته العتيقة، فلما ترجل، وجد إطار السيارة الأمامي فارغا من النيتروجين والهواء. لم يكن من عادة صاحبنا أن يحمل في سيارته إطارا إضافيا، فاضطر إلى ركوب حافلة أقلته إلى كراج قريب. ولما انتهى الرجل من مهمته الصعبة، كان النهار قد نقص ساعة كاملة.
فلما وصل إلى المزرعة وحط أدواته وأوصل منشاره الكهربي بالقابس، أدرك أن منشاره لا يعمل. قطب الرجل جبينه وأحس بضيق في التنفس، لكنه في هدوء قرر أن يغادر ليحضر المنشار الاحتياطي من المنزل. فلما أدار مفتاح السيارة مرة ومرة، ولم يصدر المحرك أنينه المكتوم، تكور الرجل في مقعده، ووضع رأسه المكدود فوق المقود ولم يحرك ساكنا.
اقترب صاحب المزرعة من الرجل، فنظر الأخير إليه وكأنه يندب حظه، لكنه لم يزد على أن يقول: “تعطل المحرك يا سيدي. ليست عادته، لكن هذا ما حدث.” عندها عرض صاحب المزرعة أن يقل النجار في سيارته الخاصة، ولما لم يكن من القبول بد، جلس الرجل ذاهلا يشير بإصبعه إلى الطريق، يمينا وأماما ويسارا، وكأنه اكتفى من الكلام بمص الشفاه والتأوه كالموجوع من فرط النكد. وحين وصلت السيارة إلى بيته البعيد، فرد أصابع يسراه في وجه مضيفه أن توقف.
ربما لم يجد صاحب المزرعة من الكلمات ما يسري بها عن صاحبنا، وربما لم يشعر بألمه البتة، وربما كان ذاهلا في شئونه الصغيرة. وأخيرا، توقفت السيارة أمام منزل بائس في منطقة مهجورة تحيطها القمامة من كل زاوية. دعى النجار صاحب المزرعة ليتناول قدحا من الشاي في كوخه الضيق، ولما لم يكن من اللياقة أن يرفض الرجل عرض صاحبه، قرر أن يسير خلفه واضعا يده اليسره فوق أنفه ليتجنب الروائح النتنة ما استطاع.
وكان في الطريق إلى الكوخ شجرة صغيرة، توقف النجار أمامها قليلا، وأخذ يلمس أطراف فروعها في دعة وكأنه يمارس طقسا دينيا خاصا. لم يرد الرجل أن يفسد على النجار تأملاته، وسار خلفه بعد أن انتهى الرجل من ممارسته المريبة. فلما دخل النجار كوخه، احتضن صغيريه وقبل زوجته، وتغيرت ملامحه تماما. فلما شربا الشاي، حمل النجار منشاره وسار أمام ضيفه ليمر بالشجرة تارة أخرى ويمارس نفس الطقس الغريب.
عندها قرر صاحب المزرعة أن يخرج عن صمته، فقال لصاحبه: “رأيتك تلمس أطراف فروع الشجرة هذه عندما دخلنا وكأنك تطرح فوقها ثوبا مبللا، فلما خرجنا، أتيت بنفس الحركات ولكن في الاتجاه المعاكس. ما الذي تفعله يا رجل؟” فقال النجار: “تلك هي شجرة أحزاني.” فرد صاحبه: “ماذا تعني؟” فقال: “لكل منا في الحياة معاركه. قد تكون تلك المعارك تافهة أو دامية، لكنها تنتهي حتما بالانتصار أو الهزيمة. فإذا ما حققت انتصارا يذكر، عدت لأتقاسم المغانم مع زوجتي وأبنائي. وإذا حدث العكس _ كما هو الحال اليوم _ جئت إلى شجرة أحزاني، وطرحت فوقها رداء هزيمتي، حتى لا أوزع الجراح على أجساد أطفالي الغضة أو أثقل كاهل زوجتي الطيبة. تكفيها هموم المنزل ياصديقي.”
لماذا نوزع همومنا على كل الوجوه التي نراها؟ ولماذا نحمل شقاء الحياة إلى دور العبادة ولا نخلعها مع الأحذية لنفرغ صدورنا من شحنات الوهم الزائل كي نتواصل مع الحقيقة الخالدة هناك؟ ولماذا نحمل همومنا إلى مكاتبنا لنعرضها في غباء منقطع أمام العملاء الذين يحملون بين ضلوعهم من الهموم ما قد يفوق هزائمنا بمراحل؟ ما ذنب جيراننا لكي ننظر إليهم ذاهلين ونحن في طريقنا إلى العمل دون أن نلقي عليهم تحية الصباح؟ وما ذنب الطفل الصغير عند إشارة المرور الذي يبيع المناديل ليعول أما مريضة، فنقطب في وجهه أو نتجاهله تماما بحجة أن لدينا دوما ما يشغلنا؟
ليتنا نستطيع أن نزرع أمام كل بيت وكل معبد أو دير أو كنيسة أو مسجد أو مؤسسة أشجارا نخلع فوقها معاطف آلامنا حتى لا نقحم من لا ذنب لهم في شئوننا الصغيرة، ونضيف إلى همومهم المزيد من الآلام والأحزان. ليتنا نمارس طقوس التجرد من الحزن ونبتسم في وجوه الآخرين بكل براءة مهما حملت ملامحنا من تحديات. يقول برناردشو: “يتعلق الناس بالهموم عادة أكثر مما تتعلق الهموم بهم.”
عبد الرازق أحمد الشاعر