ان ما حدث شىء مفزع ….مخيف…مرعب ..ولكنى أحرص دائما على أن أخفيه فى داخلى ذات مرة قررت أن أصارح به بعض الأصدقاء فضحكوا وعلق أحدهم “ان ما تقوله يبدو فيلما من أفلام الرعب أو رواية من هذه الروايات الخرافية التى كثيرا ما قرأنا عنها ..
وقرر أخر “انه مجرد كابوس ..نعم هو كابوس مفزع”…وللمرة الأولى أجلس كما تعودت منذ فترة ..منفردا فى حجرتى خافتة الاضاءة والمغلقة النوافذ وقد سيطر على شعور مجهول بالتشاؤم الشديد والكابة البالغة ..لأول مرة أجلس لأكتب عنها وأنا على يقين من أن الجميع سوف يقررون فى النهاية انها قصة من وحى الخيال ..هذا ان لم يذهب البعض الى ان كل هذا ضربا من الجنون أو الهلوسة التى تجعل الانسان يتخيل أشياء ليست حقيقية على أنها واقع مادى محسوس …
“منصور حسانين ” شاب فى مقتبل العمر أنهى دراسته الثانوية فى موطنه فى صعيد مصر والتحق بكلية الخدمة الاجتماعية فى جامعة “حلوان” …رفض أن ينضم الى أى من الطلبة المغتربين الذين سكنوا فى أماكن كثيرة فى حلوان المدينة واثر أن يقيم منفردا وحيدا فى شقة خالة من الأساس فى عمارة مهجورة لم يكتمل بناؤها بعد و قد ذكرلى انها ملك لأحد أقاربه من الصعيد …كان هذا فى أواخر التسعينات …والى الان لا أدرى كيف تعرفت عليه وأصبحت صديقه الوحيد فقد كان منطويا لا يتكلم مع أحد وكان شخصا غريبا فى مظهره …فى ملابسه ..كان نحيفا تحيط عينيه هالات سوداء ويبدو دائما مرهقا قد أضناه سهر طويل وقلق عميق ..كان شديد التشاؤم لدرجة تخيلت كثيرا أنه سوف يقتل نفسه ليتخلص من عذاب هائل خفى …….
ولشد ما كان تعجبى عندما ذهبت معه الى المكان الذى يسكن فيه وأذهلنى ما رأيته …كانت البناية ترتفع منفردة فى منطقة نائية بعض الشىء وكان مدخل العمارة ملىء بالقمامة التى تنبعث منها رائحة كريهة وكانت الشقة فى الدور الثانى وهى الوحيدة فى البناية التى لها أبواب وشبابيك وعندما فتح الباب وولجت بقدمى الى الداخل كدت أن أتراجع فى رعب وفزع ..اصطدمت به ..و لكنه ابتسم فظهرت كل أسنانه وازداد وجهه الممصوص شحوبا وقال:”ادخل يا صاحبى ..لدى تليفزيون فى الداخل سنسهر أمامه ….
كانت الشقة خافتة الاضاءة ذات جدران كئيبة باردة تلفها غلالة من الكابة والفتور وكانت خالية من الأساس اللهم الا بطانية سوداء رثة ولمحت تحت المائدة المتهالكة التى عليها تليفزيون قديم عفى عليه الزمن أطباقا وأوانى متسخة ببقايا والفول والطعمية وجلس هو على الحصير وهممت بفتح النوافذ ولكنه صرخ فى وقال متلجلجا :”بالله عليك لا تفعل انها تطل على الحياة الكئيبة ..المليئة بالهموم والاوجاع ..صدقنى ان أفضل ما فيها هو جدران القبر الباردة التى تحوى الجسد الساكن حيث الراحة الأبدية “……
وفجأة وجدت نفسى اتسائل :”ماذا؟ ماذا قلت ؟”.. تجاهلنى وفتح التليفزيون …قررت أن أغادر المكان فورا ..ما هذا الشخص ؟انه غريب الأطوار ..استأذنته فى الانصراف ….ونهضت وأنا أقول له لماذا هذه النوافذ مغلقة لا بد أن يدخل الهواء الى الشقة فمشى الى شباك فى الصالة وفتحه وهو يقول “هذا شباك المنور اننى أحيانا أفتحه فمشيت اليه ونظرت الى أسفل ثم تراجعت فى عنف وكدت اسقط على ظهرى فقد رأيت أو خيل الى أن هناك نيران تشتعل فى الأسفل فنفضت رأسى وانصرفت ..
فى الصباح قابلته فى الجامعة وهممت أن انتقد حياته منفردا ولكنه بادرنى قائلا :”هل تعلم هناك فتاة معجبة بى انها تنظر نحوى كثيرا وهى شديدة الجمال ..فقلت له لماذا لا تكلمها …فقال لى ليس الان ..فأنا غير مستعد ..وطوال الليل راح يحدثنى عن جمالها ورقتها ..وراح يصف اعجابها به واعجابه بها حتى ودعته وانصرفت …
لشد ما كانت دهشتى عندما وجدته فى اليوم التالى واقفا فى نفس المكان وأخبرنى أنه ينتظرها وأشار الى فتاة تمشى مع أخرى و قال انها هى ولكنى لن أكلمها الان سأنتظرها تبدأ هى الحديث “..قررت أن أنقذه من حيرته فتقدمت من الفتاة وأنا ابتسم قائلا “انه صديقى يرغب فى التحدث اليك و….”..ولكنى لم أجده بجانبى ..لقد اختفى ..وعندما ذهبت اليه أخبرنى أن الفتيات هن ألعن ما فى الحياة ولو خلت منهن الحياة لأمتلأت بالسعادة واختفت الالام والشقاء …..
بعد انقضاء الفصل الدراسى الأول عاد لبلدهم ولم يتصل بى كما اتفقنا ولم يحضر الى الجامعة مع بداية الفصل الدراسى الثانى فذهبت اليه وسألته “لماذا لا تحضر الى الجامعة فأخبرنى أنه متعب قليلا وأنه سأم الجامعة ولكنه سيعود اليها قريبا ….
وذات يوم وبينما كنت فى الجامعة بين بعض الزملاء سأل أحدهم طالبا من الصعيد يبدو أنه يعرفه أين منصور لما لا يراه أحد ؟”..فأجابه زميلنا الصعيدى”ان “منصور” لن يعود مرة أخرى لأنه مات… .قيل أنه انتحر ..كان هذا أثناء اجازة نصف العام الدراسى ..وجدوه مقتولا فى حجرته المظلمة مغلقة النوافذ”…ووجدت نفسى اهتف فيهم “من هذا الذى مات ؟ان “منصور” سيعود الى الجامعة قريبا “..
وفى المساء ذهبت اليه ولما فتح لى باب الشقة القديم ابتدرته قائلا “انهم يقولون انك مت ..مت منذ فترة طويلة و…”
ولم أجد “منصور” أمامى ..ولم أجده خلفى أو فى أى مكان ..لقد اختفى ..لم أصدق ..نفضت رأسى ووضعت أصابعى على عينى ثم مشيت الى الداخل وأنا اهتف فى لوعة وأسى “منصور” ..أين أنت يا صديقى ؟”…ولم أجد الا الجدران الكئيبة الباردة ولم يجبنى سوى الصمت المطبق وخيل الى أن النيران تتصاعد من المنور وتدخل الشقة ..نار مخيفة ..مرعبة وكأنها وحش هائل جائع ..اتسعت عيناى عن اخرهما وكاد قلبى أن يقفز من حلقى وراحت ركبتاى تتخبطان فى بعضهما وأنا أكاد أسقط من شدة الرعب والفزع …ولم أدر كيف استطعت أن استديرو أفتح الباب…وقفزت عبر السلم لأسقط وسط أكوام القمامة ..ومن خلفى صوت فحيح النيران وهى تلف الشقة فى رعب وفزع …وحبوت حتى خرجت من باب العمارة وأخذت أركض وسط القطط الفزعة الواجفة التى كانت تجمعت على أكوام القمامة ..وكأن هذه النيران تطاردنا جميعا فى حزم واصرار وأخذت أركض وأركض وشعرت بدوار فى رأسى ثم ….لم أعد أشعر بشىء ……..
فتحت عينى لأجد أفراد أسرتى يجلسون حولى وأنا مدد على سرير أبيض وسمعت أحدهم يقول “لا ندرى ماذا حدث لقد وجدوه فاقد الوعى قريبا من منطقة نائية فى ساعة متأخرة من الليل …:وجدت نفسى أغمم فى ضعف بصوت خافت”منصور” ..أين “منصور” ؟..انقذوه ستأكله النيران “…وشعرت بألم فى قدمى التى ارتطمت بالسلم …وعدت مرة أخرى الى عالم اللاشعور عندما غرست الممرضة المحقن فى ذراعى …والى الان لا يعرف أحد ماذا حدث لى …حرصت على كتمان هذه التجربة الرهيبة لأنه لن يصدقنى أحد ..أنا نفسى غير مصدق لما حدث …
لقد اقنعت أصدقائى بالذهاب الى العمارة المهجورة التى لم يكتمل بناؤها بعد ..ودخلنا الشقة الخالية من الاساس الامن حصير قديمة وقد القى عليها بطانية رثة …وأخبرتهم أن “منصور” كان يسكن هنا
…وفجأة وجدتنى انظر الى النافذة التى تطل على المنور …ووجدت نفسى أتراجع فى فزع وأنا أهتف “النيران ..النيران انها تصعد من المنور وتركت أصدقائى ورحت أركض فى الشارع …
ولست أدرى ما أصابنى ..فقد أصبحت متشاءما أميل للعزلة والانطواء واتخيل الحجرة المظلمة القبر الساكن ذو الجدران الباردة حيث الراحة الأبدية ويراودنى شعور أن الحياة ا هى الشقاء والتعاسة ومصدر للالام والأوجاع….