ط
مسابقة القصة

”صرخه في وجه الحب .. مسابقة الرواية بقلم / عادل محمد فوده من مصر

عادل محمد فوده
جمهورية مصر العربيه
رواية”صرخه في وجه الحب”
0096896308809 انسلخَ النهارُ من الليل وما هيَ إلاَّ سويعاتٍ قليلاتٍ حَتَّى طلعت الشمسُ فأرسلت أشِّعَتَها محمَّلةً بالدفءِ و الحياة . لتمرقَ من خِصاصِ النوافذِ ، رسُلاً إلَى كلِّ من قضَى الليلَ الطويلَ يغُطُّ في نومِه , أو من أغفى منه بعضَهُ وأمضَى ما دونه يتجافَى عن مضجعِهِ جنباهُ لعلَّةٍ أو حاجه . فهبُّوا أكتعينَ لابِّينَ نداءَ النهارِ التي هلَّت تباشيرُهُ لتوِّها , وهَبَّت تُبدِّدُ سدفةَ ليلٍ طويلٍ وتُطارِدُ فلولَهُ بعد أَن جَثَمَ لساعاتٍ عِدَّةٍ عَلَى قلبِ بلدتِهم الصغيرةِ القابعةِ في قلبِ الدلتا في مديريةِ الغربية.
دبَّت الحياةُ في أوصالِهَا بعدما كفَّت عن الحراكِ إبانَ سُباتِها العميق. فُتحت السدود فتدفقت المياهُ في الجداولِ والمساقي ,ودارت السواقي لتسقيَ رِبَّةَ القُطن التي بدت فَرِحةً تتراقص أوراقُها كُلَّما داعبها النسيم. وراحت الطيور تصدحُ فترامى لحنٌ جميلٌ ضلَّلهه خوارُ البهائِمِ ونهيقِ الحمير مختلطاً بأصواتِ “التَمَلِّيَةِ” الذين طَفِقُوا يذرِعون الطرقاتِ المُفضيَةِ إلَى المزارعِ جيئةً وذهاباً بأردِيَةٍ رثَّةٍ بالية, تشي بفقرٍ مدقعٍ وخصاصةٍ أعجفَتهم مثلَما يفعَلُ الداءُ العياءُ بالجسدِ الهزيل . ولا غروَ فغالبِيَّةِ أهلِ القريةِ يعملون في مزارعِ الحاج “حَسَّان ابو جازية ” لقاءَ أجورٍ زهيدةٍ تكفي بالكادِ حيناً أَن تسُدَّ الرَمَق, وفي أحيانٍ أخرى لا تقوَ أَن تكفيَهم ذُلَّ السؤال. كان رجلاً عنيداً, صلباً لا يلين. طباعُهُ حادَّةٌ وقلبُهُ خواءٌ إلاَّ من القسوةِ وحبِّ المال. لا يجدُ في غيرِ إذلالِ الفلاحين وازدجارِهم له عِزَّه، ولا في دونِ خنوعِهم سطوَه . فهوَ عمدةُ قريتِهم ووليُّ نعمتِهم، كَما كان اعتاد أن يقول. درجَ ، كدأبِ آبائِهِ وأجدادِه ، عَلَى شراءِ الأراضي الزراعيةِ من الفلاحينَ بثَمَنٍ بخس، تارةً بالحيلةِ وتارةً أخرى بالقوَّة, وما انفكَّ آتون شبقهِ مستعراً يجمعُها حَتَّى آلت إِلَيهِ معظمُ بقاعِ القرية. شسعت مزارعُهُ وترامت أطرافُها إلَى الحدِّ الذي اضطرَّهُ أَن يتركَ بعضَها “بوراً” دونَ زراعةٍ لَمَّا لَم يكفِ عددُ الفلاحين لرعايتِها. فراحَ يزدادُ هو غنَىً فوق غِنَىً وثروةً فوقَ ثروة ، وراحوا هم يرزحون تحت وطأةِ الفاقه, وجذوعهم موصولة إلى سيقانٍ هزيلة، ببطونٍ أخمصها الجوع ووجوهٍ سقرَتها الشمسُ فصبغتها بسمرةِ الشقاء، وقلوبٍ بيضاءٍ تحوي في أعماقها الحبَّ والصبرَ والرضا. وعيونُهم في غُدُوِّهم ورَواحِهم، شاخصةً إلَى ذلك البيتِ الكبير، الرابضِ في مدخلِ القريةِ في بهاءٍ وجمخ ، يتحدى “دوار العمده” في شموخِةِ وجلالِهِ ليُنِمَّ عن رغدِ عيشِ قاطنيه. أسرَ صاحبُهُ قلوبَ أهلِ “ميت حبيب” أحبَّهم فأحبوه وأولاهم رعايتَهُ فحظِيَ باحترامِهم. جَعَلَ مصالحَهم نُصبَ عينيه. فكَم أَنفقَ من مالِهِ ليفَرِّجَ كربهم ويفكَّ ربقاتِهم. وكَم قضَى من وقتِهِ يسوِّي خُلفَ ما ينشبُ بينهم. ولَم يكن هناك أجدى من حبِّهم له واجتماعِهم عَلَى صلاحِهِ وحسنِ خُُلقِهِ ليذكِي نيرانَ الحقدِ والغيرةِ في قلبِ الحاج “حَسَّان” ويوغرُ صدرَهُ تجاهَه. فكان أعتَى ما يستجيشُ بغضاءَهُ أَن يتجاهلَهُ الفلاحون في حين يتَّخِذون من بيتِ الحاج “علوان الجانِي ” مُستقرَّاً ومُقاما . كانت دارُهُ محفِلَهم وقلبُه مَوْئلَهم. إذا امتروا في شيءٍ سألوه, وإذا اختلفوا عَلَى أمرٍ قصدوه. فما كان انشغالُ العمدةِ بجمعِ المالِ بدمِ الفلاحين ليبقيَهُ مهموماً بمالِهم.
لَم يرث “سالِم” ,الإبنُ الأوسطُ للحاج”علوان “, عن أبيهِ شيئاً. فلَم يغشَ ظلَّهُ دربَه، ولَم يتفيَّأ ظِلالَ صلاحِه. ولَم يبلغ في قلوبِ الناسِ قدراً ممَّا بلغَهُ أبوه , فلا قلبَهُ ينتفضُ يوماً لِنجدةِ محتاجٍ ولا تنطوِي حناياهُ عَلَى حبٍّ لغيرِ نفسِه. أهملَ دراستَهُ وانقطعَ عَنها عَلَى غيرِ رغبةِ أبيهِ بحُجَّةِ التفَرُّغِ لرعايةِ “الأرض الزراعية” التي أصبحت فيما بعد إحدَى أهمِّ ما تحويهِ سلَّةُ مُهمَلاتِه. بات مبلغ همِّهِ أَن يمشِي في القريةِ منتشياً في خويلاءٍ وتيهٍ في زُمرَةِ أصحابه، رافِلاً في جلبابٍ بهي، معتمراً عمامَتَهُ الشامخةَ التي يدُسُّ فيها رأساً خواءً أجوف.تشابهت أيامُهُ التي قضى منها النهارَ نائماً قريرَ العين حتَّى إذا ما أغطشَ الليلُ ، برحَ فراشَهُ وانطلقَ في صحبةِ “عبد الهادي” و”حمدان” و”محمود” ليسابقوا الريحَ إلى ماخورِ الراقصة “شروق”. فيقضون من الليلِ جُلَّهُ وعيونُهم ثابتةً إلَى جسدِها البَضّ ، وشفاهُهم لِصقَ كؤوسِ الخمر. وإذا ما بزغَ نورُ الفجرِ رَجَعَوا إلَى دِيارِهم يتلَمَّسونَ إِليها الطريقَ مترنِّحين. لَم تكن “شروق” لتغفلَ مكانةَ “سالِم” وعائلتَه ,فآلت إلَى نفسِها أَن تحظى به. فأنشأت تنسجُ له كالعنكبوتِ خيوطها . وما زالت به حَتَّى سَاخَت في حبِّها قوائمُهُ وأمسى الظفرُ بها حلماً يراوده. ولكنَّها لَم تكن تجزلُ له الحبَّ آنما كان يستجديها إياه, بل تثاقلت و ضنَّت عليهِ بهِ وآصدت في وجههِ أبوابَ حَتَّى كادَ قلبُهُ أَن يقفزَ من بين ضلوعِه. وذات يومٍ طلبَ إِليها أَن تكُفَّ عن الرقصِ وتحيا كسائرِ النساءِ لبيتِها وأولادِها. فتوقَّفت عن تمشيطِ شعرها وأشاحت بوجهها عن المرآةِ تُبصرُهُ وانخَرَطَت في الضحك وسألتة في سُخرِيَةٍ…..
– وكَم سأجني من ذلك ؟
رفعَ حاجبهِ في دهشةٍ ودَنَا منها وسألَهَا . .
– وماذا يُفتَرَض بالمرأةِ أَن تجني لقاءَ رعايتِها لبيتِها وأولادِها؟!!
أمسكت عن الضحكِ وانبسطَت تجاعيدُ وجهِها الذي رَُدَّ إِلَيهِ وقارُه وقالت
– هذهِ حياتي …أُحبُّها…أعشقُها….تهافُت الرجالِ عَلَيَّ يتَوِّجُني بين
حِسانِ النساءِ ملِكَة ، ويملأُ قلبي بالرضا والنشوَه . آمر فأُطاع …أَنهى
فيذعنُ لي أشاوسُ الرجال ..أرضَى فتفيضُ قلوبُهم غِبطة ، أغضبُ
فيخِرُّونَ تحتَ قَدماي سُجَّداً…..فهل هناك ثَمَّةُ دنيا أفضل أو حياةٌ أَحسَن من تلكَ لأحياها ؟!
أطرقَ”سالِم” إلَى الأرضِ كَمن تملَّكَهُ اليأسُ فتدَلَّت شفتاهُ لتشيا بفيضِ ما يعتريهِ من حزن……نهضت من قعدتِها وتقَدَّمت نحوه بخطواتٍ ثابتةٍ فربتت عَلَى كتفِهِ وابتسمت في مكرٍ وقالت …
– هل هناكَ من قلبٍ لرجلٍ يغنيني عن قلوبِ كُلِّ الرجال؟!!
كان ينفقُ جُلَّ مالِهِ عليها وعَلَى أصحابهِ بُغيةَ أَن يتَبَوَّءَ بينهم ربوةَ الكبار، فيَروونَ بدورهم شغفَهُ بالجاهِ والسلطان. وكانت “شروق” تحظَى بقَدرٍ وافرٍ من الذكاءِ ما مكَّنَها أَن تُسبِرَ غَورَهُ وتذهنَ طباعَه. فألبستهُ ثيابَ العِزَّةِ وأطعمتهُ الكِبرَ والرِياء.
لَم يكتفْ “سالِم” بالمالِ عَوناً ، بل ألفَى في كنفِ “نصر السيوفي” رَِدئاً وسندا . هذا الشقِيُّ الذي أخرجَهُ أهلُ القريةِ منها ذليلاً مدحوراً وأسرتَهُ حين بُصِرَ مع زوجةِ أحدِهم يواقعُها . فأقسمَ حينئذٍ بكُلِّ مُرتخَصٍ وغالٍ أَن يقتَصَّ لِنفسِه. أقامَ في مكانٍ ناءٍ وسطَ البرارِي وانتظرَ ريثَمَا كثُرَ رجالُهُ واشتَدَّ بأسُه ، فراحَ يُغِيرُ عَلَى القريةِ بين وقتٍ وآخر. وكان لا يغفلُ دجاجةً في “ميت جيب” إلاَّ وفرضَ عليها إتاوَةً ما دامت تنعمُ بالحياه. وأحدٌ لَم يسلَمْ من شرِّه . حَتَّى العمدة ذاتَه، في أوجِ سطوَتِهِ وجبروتِهِ لَم يسطع أَن يَملُصَ من براثنِِة. فكان إن رفعَ الناسُ يوماً رايةَ العصيانِ وأحجموا عن دفعِ المال ,دَوَّت أصواتُ النساءِ في أرجاءِ القريةِ يلطِمنَ أصداغِهِنَّ من حسرةٍ عَلَى ما فَقَدوه.فهُنا يتوَقَّفُ خفقانُ قلوبُ البهائمِ بِسِمِّهِ المدسوسِ إلَى حشاها ، وهناك تموتُ رِبَّةُ النباتِ بالماءِ يدفعُهُ دفعاً ليُغرِقَها ,أو يُحترقَ منها ما يبلغُ الحصادَ بنارِ شنآنه
استغلَّ “السيوفي” شغفَ “سالِم” بالمالِ وصداهُ للسلطة,
ونَصَّبَهُ عَلَى رأسِ جُباةِ المال. كان أهلُ القريةِ يتَهَيَّبُونَ طلعتَهُ
مهابَتَهم”للسيوفي”. إذ أصبحَ لسانَهُ الذي يرمي بأقذعِ القول،
ويدَهُ التي يبطِشُ بها ، وسوطَهُ الذي يُلهِبُ به أجسادَ الفلاحينَ
الذين ضاقوا ذرعاً بظُلمِ العمدةِ وسئموا من بطشِ “السيوفي”.
فأضحَى بُقعةً سوداءَ في ثوبِ أبيه الأبيَضَ الناصع. ولا خيرَ
في غيرِ طيبةِ قلبِ الرجلِ وكريمِ خصالِهِ لتمحُ السوادَ وتُجَمِّلُ قُبحَ
الوجوه.

(2)
أوتيَّ “محمد”, الإبنُ الأصغرُ للحاج”علوان”, ما لَم يؤتَ
أخوه من دماثةِ الخُلُقِ ونُبلِ المآرب . مُشرقُ الوجه ، بَرَّاقُ الثنايا ،
طويلُ الأَناه، لَيِّنُ العريكه، جَلِّيُّ القريحه. أفاءَ اللهُ
عليه ، كَما لَم يهب أخاه ، نورَ البصيرةِ وقُوَّةَ حُجَّةٍ وبياناً في الحقِّ
وزلاقةَ لسان . أُشرِبَت كلِمَاتُهُ حلاوَةً تأسِرُ الآذانَ وتُفحِمُ الرجال.
ذهبَ في برِِّ الناسَ أن جَعَلَوا رؤياهُ مناطَ غِبطَتِهم
وحبورِهم. إذا ما صمتَ تَرَقَّبوا حديثَهُ في شغفٍ وشوق، وإذا ما
تكلَّمَ أصغوا ومَطُّوا إِلَيهِ الرقاب. كان وحدُهُ من أَنهى دراستَهُ
الجامعيَّة. تَخَرَّجَ في كُلِّيَةِ الحقوق، وساعدَهَُ في ذلك نفسُهُ
الطموحُ الجامحةُ ويُسرِ حالِ والِدِه . كان مهموماً كوالِدِهِ بأحوالِ
الفلاَّحين. فكثيرٌ ما كان يصرخُ في وجوهِهم يستنفرَهم ويستنهِضَ
عزائِمَهم كيما ينتفضوا ثائرينَ عَلَى الظُلمِ والإستعباد، ولكن دون
جدوَى، إذ استبَدَّ بهم الخوفُ عَلَى أولادِهم وقوتِهم, فَبَاءَت
كُلُّ محاولاتُهُ وصديقَهُ المُقَرَّب “حساب”, لتأليبِهم عَلَى “العمده”
المستَبِدِّ و”السيوفي” الظالمِ, بالفشل . ولكنَّهُ , برغمِ استيائهِ من
تخاذُلِهم وازدجارِهم لظالِميهم، كان لا يستنكفُ أَن يجتمعَ بهم
بعد صلاةِ العِشَاءِ كل ليلةٍ في مقهى المعلِّم “حواس”, يقرأُ عليهم ما
تنطوِي عليه الصُحُفُ من أخبار. ولا سِيَّما تلك الخاصّةَ بجنودِنَا
عَلَى جبهةِ القِتالِ في فلسطين. فكَم منهم فاضت أرواحُهم
وكَم منهم ضاقت المشافي بأجسادِهم المُثخنَة بالجراحِ بعدما
زُجُّوا إلَى حربٍ ضروسٍ بلا رَوِيَّةٍ دون عِدَّةٍ أو عتاد. و إلَى الآن لا
صادَّ لرحاها عن الدوران. و ما أَن يفرغَ حَتَّى تنطلقُ بعضُ
الحناجر تُندِّدُ بقرارِ الحربِ غير المدروسِ و بالفسادِ الذي راح
يستشري ويَفُتُّ في عَضُدِ البلادِ ناجماً عن جرائرِ الملك . أَمَّا غالبيةُ
الحضورِ فلا ناقةَ لهم فيما يُلقَى عَلَى مسامعِهم و لا جمل. فمبلغُ
همِّهِم أَن يأووا إلَى مهاجعِهم ليريحوا أجسادَهم و يمحوا بعضاً من
عناءِ يومٍ مضَى استعداداً لتِجَشُّمِ عناءِ يومٍ لاحق. و ما كان
جلوسُهم إلَى الرجلِ سوى لحبٍّ ربا بداخلِهم له أو للتَّسرِيةِ عن
أَنفسِهم بعد عملٍ مضنٍ أشقاهم طوالَ النهار.
فانبَرَى”مغاوري” يقول ….
– ماذا يعود علينا من فسادِ الملكِ أو صلاحِة… فالأحرى بي ألاَّ أفكرَ في غيرِ رزقي ورزقِ عيالِي.
ابتسم “محمد” وحطَّ الصحيفةَ عن يده ثمَّ قال……….
– يا حاج “مغاوري” إنَّ فسادَ العمده و السيوفي وغيرِهِم نتاجٌ حتمِيٌّ
لفسادِ الملكِ والسلطة.
استغلقَ الكلامُ عَلَى “مغاوري” فلَم يفهم فحوى حديثِ
“محمد”. فَهرَعَ يخفي جهلَهُ أَن يظهرَ فيلحظَه الناسُ بسؤالٍ جَدَّ في استجدائه ………
– و ماذا عسانا نفعَلُ حيالَهم ؟!!
ضمَّ “محمد” قبضته ولوَّحَ بها في الهواءِ وهو يقول بقوَّه
– نجتمعُ عَلَى قلبٍ واحدٍ و رأىٍ واحد … إن أحجمتُم يوماً عن
الخروجِ للعملِ في أرضِ العمده , بهدفِ زيادةِ أجورِكُم , فسوف
يرضخُ لِمطالِبِكُم لا محاله.
فسأله الرجل مستنكراً, رافعاً حاجبيهِ إلَى منتصفِ جبهتِه…
– و ماذا نُطعِمُ أولادَنَا في ذلك اليوم؟!!
أثارَ الجدالُ حفائِظَ بعضِهم, فنهضَ”سليمان” واقفاً و قال بلهجةٍ ساخره
– يا “مغاوري” “محمد” بك لَم يشعر يوماً بالجوعِ و لَم تصبهُ يوماً
حاجه… يعيشُ في بحبوحةٍ ويرفلُ في النعيم… فهو ربيبُ التَرَف .
أَنَّى له أَن يسمعَ أصواتَ الصغارِ تتعالَى طلباً للطعام.
انصرفَ الرجلُ من فورِهِ بعد أَن خَلصَ من حديثِهِ فهاج الناسُ
وماجوا واختلفوا فيما بينِهم , بين مؤيدٍ لرأى “سليمان” و معارضٍ
له. ثُمَّ انفَضُّوا دون أَن يجتمعوا عَلَى شيء. و ما أَن يتفرقوا كلٌ في
طريقٍ حَتَّى يكونُ أحدُهما ماثِلاً في حضرةِ العمده ليقُصَّ عليهِ ما
دارَ بحذافيرِة, ويُنبِئهُ بفحوى الاجتماعِ ممَّا يزيدهُ حِنقاً عَلَى
الحاج”علوان” وولديه اللذين نغَصَّا عليهِ حياتَه.
كانت “أمينة”، الإبنةُ الكُبرَى للحاج”علوان”, تحوي بين ضلوعِها قلباً مُفعَماً بالحُب ، يفيضُ حنانا. فبعد وفاةِ والدتِها صَارَت لأخوَيها أُمَّاً كفَتهم عوزَ الحنان . فقبل أَن يعتلِي سالِم صهوةَ الكِبرِ والصَلَف ، كثيراً ما كان يرتمي إلَى صدرِها يشكو ألَماً أصابَهُ ويرجو ربتةً من يدِها الحانيةِ ليبرأَ من عِلَّتِة . أَمَّا “محمد” فكان الأقرَبُ إلَى قلبِها قُربَ الوليدِ إلَى قلبِ أُمِّه . فمنذُ أَن كان صبِيَّاً في المهدِ وحَتَّى بعد أَن شبَّ عن الطوقِ وهوَ لا يفارقُها أينما تذهب . ولَمَّا بلغَ مبلغَ الرجالِ استحالَ معينَ حُبِّها الذي لا ينضُب ، تَردُهُ آنما تستشعرُ جفاءَ الزَمَنِ وقسوةَ الأيام. أضحى الصخرةَ التي يتكَسَّرُعليها موجُ أحزانِها. ولو أُوتِيَت جمالَ خِلقةٍ عَلَى قَدرِ ما مُليءَ قلبُها حُبَّا ، لسدفَت لرؤيتِها الأبصَارُ, ولتأجَّجَت نيرانُ الغيرةِ في قلوبِ النساء . أكَم من ليلةٍ قضَتها مسهَّده , شارِدَةَ الذهن, تَدُّقُ نيرانُ الحسرةِ قلبَها الرقيقَ وتطوفُ بعقلِهَا خيالاتُ الهموم. تقَدَّمَ بها العُمُرُ فتخَطَّت الثلاثين في زمنٍ تُنعَتُ فيها الفتاةُ بالعانسِ إذا ما بلغت العشرينَ وهيَ لا تزال في بيتِ أبيها .انفرطت السنونُ منها كحبَّاتِ مسبحةٍ شُدَّت بخيطِ عنكبوت. مضى قطارُ الزواج , مرقَ كالبرقِ دون أَن يلوي عليها. ولَم يكن عزوفُ شبابِ القريةِ عَنها لشيءٍ إلاَّ لضيقِ حالٍ أو خشيةَ بطشِ أخيها “سالِم”, الذي مابرحَ يرفضُ الواحدَ تِلوَ الأخرَ بحُجَّةِ فاقَتِهم متعلِّلَاً برأيٍ كان يؤمنُ به..
-من لا يملكُ أرضاً كَمن يمشي حافيا, تدمي حصى البطحاءِ
أَخمُصَ قَدمَية.
وكان إن اجتمعَ أبوهُ و “محمد” عَلَى شخصٍ لا يرضاهُ, راح يتهدّده ويتوَّعده حتَّى يجنحَ عن طلبِه. فانتابَها اليأس. و لَم تجد في غيرِ الصبرِ مربأً فآوت إِلَيهِ عسى اللهُ يهدي من عضلَهَا وصدَّها أَن تحيا كَما تحيا سائرُ النساء.
تُُُوفِيَ الشيخُ “فتحي سَلاَّم” و خَلَّفَ من بعدِهِ ابنتَهُ “شوق” , وحيدةً
بلا راعٍ أو سند . ولَمَّا كان صديقاً حميماً للحاج “حَسَّان”, أَزمَعَ
عَلَى أَن يكفلَها . فكفَتَها إِلَيهِ و ألانَ لَهَا قلبَه الجافي. و لَم تكن آنَذاكَ قَد أتَمَّت بعد عامَها الرابعِ حين انتقلت للعيشِ في كَنَفِه. أكرَمَ وفادتَها وأحسَنَ نشأتَها كَما لَم يُحسن نشأةَ ابنِهِ “نعيم” . رعاها كأَحسَنَ ما تكونُ الرعايه. و كأنما اختُصَّت بمكانٍ في قلبِ الرجلِ مُليءَ بحبٍّ نُزِعَ من باقِيه. وبرغم أَنَّها لَم تُصِب قَدراً كافياً من التعليم, شَبَّت مُتَّقِدَةَ الذكاء، مُحكَمةَ التقدير. بلغت لتَوِّها الثامنةَ عشر من عُمُرِها فطَفِقَت تتفَجَّرُ منها ينابيعُ الأُنوثةِ . فُطِرَت عيناءَ نجلاوَتُهُما, تغيبُ فيهما الدنيا بما رَحبَت , ناهدة ، شامخةَ الصدرِ غيداء بخصرٍ نحيل. تتمايلُ في مشيِها كغُصنِ البانِ يداعبُهُ النسيم. يلاطفُ شَعرُها السَبِطُ حين يسترسلُ رَِدفيْنِ بلغا من الكَمال أَناه. استحالت زهرةً جميلةً تنفثُ في الأجواءِ عطراً تطيبُ به النُفُوس. فما من شابٍ بالقريةِ يبلغُ الحُلُمَ ويشرََعُ سائِلُةُ في الطفورِ إلَّا وتُمسي محظيَّتَهُ في منامهِ, ولا يعنو له النومُ حَتَّى يروي شبقَهُ من سنا طيفِها.
كانت “أمينه” الأقربُ إلَى قلبِها. حيث دأبت عَلَى زيارتِها بين الفينةِ و الأخرى. تقصدُها كلَّما ألقى الهَمُّ بحملِهِ عَلَى قلبِها وسُدَّت أَمامها دروبُ الحياه، تُفضي إِليها بمَّا يعتلجُ في نفسِها من ألَمٍ فتَخِفُّ أحمالها. لَم تكن صداقتُها “لأمينة” وحدَها ما تُحفِّزُ خُطاها و تدفَعُها نحوَ بيتِ “الجانِي” , بل كان للحُبِّ أثرٌ عظيم . فما أَن رأتهُ حَتَّى أَخَذَت تتلظَّى بنارِ حُبِّهِ حين تُمسي و حين تُصبح. عندما لاقته للمرَّةِ الأولى أَحَسَّت برجفةٍ سرت في أوصالِهَا. ففطنت أَنَّهُ الحبُّ ابتَدَأ يُدغدِغُ قلبَها و يزلزلُ كيانَها. كلَّما استَبَدَّ بها التوق إلَى رؤياه, تغافل كافِلَهَا و ابنَه, لَئِلا تلقَ منهما ما لَم يكن يغيبُ عن مُخَيِّلَتِها أَن تلاقيه, و تسلَّلَت مُيَمِّمَةً وجهها شطرَ البيتِ
المُحَرَّمِ عليها ارتيادُه. تُقَلِّبُ ناظرَيها يميناً و يساراً علَّهَا تراه.
تصغي وتتسَمَّعُ عسى صوتُهُ يترامَى فيُخمِدُ نارَ شوقِها. وذات يومٍ
فطنت “أمينة” بذكائِها إلَى ما يشي بهِ اضطرابُ “شوق” وزيغُ
عينيها. فتألقت عَلَى وجهِها ابتسامةٌ رقيقةٌ وقالت..
– “محمد” ليس بالدار الآن..
جاهدت “شوق” أَن تنفيَ وتسترَ ما افتضحَ من أمرِها، فتلعثَمَت ولَم تسطع أَن ترَُدَّ جواباً . لاذت بالصمتِ واستسلَمت لَمَّا علِمت أَنَّهُ قَد بَليت سريرتُها. احمَرَّ وجهُها خجلاً فازدادَ جمالاً و بريقاٍ وأطرقت إلَى الأرض . ربتت “أمينة” عَلَى كتفِها وأَردَفَت قَائِلةً دون أَن تفارقَها ابتسامتُها…
– هوِّني عليكِ يا حبيبتي ، فليست هناك من هي أجملُ منك كي تحظي به دونك
أفل وجه “شوق” واكتسى بظُلمَةِ الحزنِ لِيُنِمَّ عما يجيشُ في نفسِها من مشاعرِ القلقِ والحيرةِ وقالت بشفاهٍ مضطربةٍ وصوتٍ يغلِفُهُ اليأس . . .
– أَينَ أَنا منه وأَينَ هو منِّي …؟ هو “أبوكاتو” كبير ,أَمَّا أَنا فلَم أُكمِل
تعليمِي… هو نشأ في أهلِهِ أَمَّا أَنا فنشأتُ في غيرِ أهلي.
راحت الدموعُ تبرقُ في مقلتيها. فَدَنَت منها “أمينة”و قالت
– يا حبيبتي , لا أحدَ في “ميت حبيب” قاطبةً يغفلُ من تكونين.
فأبوكِ كان رجلاً فاضلاً و شيخاً جليلاً يُجِلُّهُ الناسُ و يُوَقِّروه .
وجميعُنا يعلَمُ أَنَّ “حَسَّان أبو جازيه” لَم ينفق عليكِ من مالِِهِ مَلِّيماً
واحداً. فَقَد خَلَّفَ أبوكِ لكِ إرثاً كفيلاً أَن يجعَلَكِ ملكةً ما
حييتي… بل هو من يدينُ لكِ بعشرين فدانا …… فخلِّ عنكِ يا
حبيبتي ودعِ الأمرَ لى.
كان لحديثِ “أمينه” أبلغُ الأثرِ في نفسِ “شوق”. فتبدَّدَ قلقُها
وانفسحَ صدرُها وأشرقَ وجهُها من جديد. ثُمَّ استَغرَقَتا في
الحديث.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى