طعم التــوت/ حُرية سُليمان من مصر خاص بالمسابقة
ـ
– لم تتغيرْ يا عبده، أعرفُ، ولن تتغيرَ. اغتسلْ وصلِّ.
تقولها وتزفر..
توقفتْ أمي عن معاملَتِي كصبيٍّ، كانت تدركُ أنني غادرتُ الطفولةَ لاعنًا نحولي, فرحًا ببعضِ شعيراتٍ خشنةٍ متفرقةٍ بذقني وفوقَ شفتيَّ. كانت تخشى عزلتي؛ فتدفعنى لقراءةِ القرآنِ, وتحثُّنِي على المواظبةِ على الصلاةِ بزاويةِ الشيخِ المنجي, والكفِّ عن الحملقةِ بالفتياتِ الرائحاتِ الغادياتِ أمامَ الدارِ. لم تكنْ لهنَّ روحُ رقيَّةُ، ولم تكن أيٌّ منهنَّ كرقيَّة، ولا زالتْ أمي ترددُ جملتَهَا وتغضبُ حينَ يأتينها شاكياتٍ.
أسبوعٌ من المعاملةِ السيئةِ وتجنبِ الحديثِ، بعدَ أن ضبطتني أختلسُ النظرَ لها عندما كانتْ تركضُ بصحنِ دارِنَا، وكنَّا صغارًا، يسحرُنَا الحصادُ وطقطقةُ القشِّ بالتنورِ ومناغاةُ اليمامِ. أمسكتُ بطرفِ جلبابِهَا, وحجلتْ؛ فظهَرَتْ ساقاهَا بيضاوينِ كالشمعِ. ارتجَّ برعماها، كنتُ مبتسمًا بالبابِ حينَ لمحتني, فتوقفتْ عن اللعبِ وتركتْ جلبابَهَا متذمرةً واختفتْ.
كانت تكبرُنِي بعامٍ وكنَّا نلعبُ معًا، تجري البناتُ, وألاحقهنَّ, ويتمردُ صدري فأسعلُ بنوبةٍ ربوٍ قصيرةٍ؛ فيأتينَ مهرولاتٍ. كنتُ ألمحُ الجزعَ بعينيها؛ فأبتهجُ وأتمارضُ لتطولَ النوبةُ, حتى أننى سمعتُ دقاتِ قلبِهَا الفزعِ، مؤخرًا أصبحتْ تفضلُ الأحاديثَ الجانبيَّةَ بحجرةِ هند وفاطمة، أحاديثَ أقربُ للهمسِ لا يصلني مداها، فاجأتُهُنَّ مرةً, ودخلتُ عليهن بئرَ أسرارِهِنَّ لأميطَ اللثامَ عن شغفي، لأجدَهَا متربعةً كالبدرِ بفراشِ فاطمةٍ. لم تكدْ تمرُّ رأسي حتى صرخنَ، وهاجمنَنِي كخليةِ نحلٍ ودفعنَنِي للخارجِ. وجودُها كان يبعثُ نشوةً تشبهُ قطفَ التوتِ الناضجِ من شجرِ الفاجومي، سألتُ أمي عن سرِ احتجابِهَا، فوجمتُ وباغتتْنِي بنظرةٍ غاضبةٍ وقالتْ:
ــ ما الذى يهمُّكَ من كونِهَا تتجنَبُكَ، للبناتِ سترٌ لا تخدشْهُ بفضولِكَ.
كان ارتطامي بهما غيرَ متعمدٍ, أو هكذا ادعيتُ، كانا صلبينِ نافرينِ كتلةٍ صغيرةٍ ببطنِ جبلٍ، سرَتْ بي لفحةٌ ساخنةٌ, واندفَعَ للساني طعمُ التوتِ الحلوِ. تعرقَتْ وارتبكَت وانسحبتْ باكيةً ولم تلتفتْ لندائِهِنَّ. توقعتُهَا تخبرُ أمَّهَا وبدورِهَا تخبرُ أمِّي فلا تقومَ لي قائمةٌ.
لم يكنَّ ليهنأنَ بخلوةٍ إلا بعدَ أن يأتينَ ببعضِ ثمارِ الفاجومي. كان بإمكاني فعلُ ذلكَ, ولمْ يكنْ ليمنعَنِي الفاجوميُّ نفسُهُ، لا لقوةٍ وتبجحٍ وإنما كنوعٍ من الرأفةِ بصبيٍّ سيرهقُهُ تسلُّقُهَا بعدَ قذفِهَا العبثيِّ بالحجارةِ. كنت أرسلُهُنَّ؛ فيعدنَ بصحنٍ كبيرٍ ممتلئٍ ولذيذٍ، فيهنأنَ بالخلوةِ وأهنأَ بالخيالِ بينما تهرسُ أسنانيَ التوتَ.
كبرتْ رقيَّةُ, ونَضَجَتْ تفاحتاها, وصارتْ أهدأَ حركةً وأجملَ صورةً، رقيَّةُ أصبحتْ شجرةَ توتٍ.
تمرُّ الليالي وتركض الأصباحُ, أسألُ ضابطَ الحدودِ عن أرضِنَا التى نحرسُ رملَهَا ولا تنبتُ توتًا، فيجيبُ بسؤالٍ : لِمَنْ هذه الأرضُ يا عبدَ المؤمنِ؟
فأجبتُ: لنا
قالَ: ولأنَّها لنَا فهي تنبتُ أكثرَ مِنَ التوتِ.
ثمارُ الفاجومي كانتْ لنا, برغمِ توسطِهَا بقعةً شرقيةً على البحرِ الصغيرِ تبعدُ عن بيتِنَا مائةَ مترًا، والأرضُ لنا لأنَّها تنبتُنَا كما تُنْبِتُ الأشجارَ.
جاء صوتُهُ يصرخُ:
– أمُّكَ تناديكَ يا عبدَ المؤمنِ.
يخفينَا التلُّ، لمْ نتبينْ غيرَ ارتعاشِ النجومِ وغيمةً تخفيَ القمرَ وصوتَ عبورِهِمْ. يقتربُ الطابورُ الأسودُ. الأرضُ لنا, خبزُ الرحماتِ الفواحِ، دخانُ التنُّورِ، الشجرُ، التوتُ، اليمامُ، الساقيَةُ، الطريقُ، الرمالُ، القمرُ، الشجرُ، التوتُ، التوتُ، التوتُ… ولا شيءَ لهمْ.
جبينُهُ الأسمرُ يلمعُ. يركضُ خارجَ الساترِ. يتوسَّطُ التبَّةَ…
– ماذا يفعلُ ؟!
– يخرجُهُمْ
– وحدَهُ .؟!
– كلُّنَا نفعلُ
– أمُّكَ تناديكَ يا عبدَ المؤمنِ، أمُّكَ تناديكَ
فقدَ الظابطُ ساقيهِ فمنحوهُ وسامًا ونجمةً. ماتَ مرعيُّ وجبريلُ وسليمانُ. لم يعدِ الحسينيُّ ونجمٌ وغاليَ، علَّقُوا مكانَهُمْ النجومَ والنياشينَ والأوسمةَ على الجدرانِ. تَزَوَّجَتْ رُقَيَّةُ ولَمْ أذقْ توتَهَا، ولمْ يكنْ ليَ غيرَ نجمةٍ ووسامٍ، لكنَّ القريةَ حكتْ عنَّا.