ط
مسابقة القصة

عازف الوجع . ملخص رواية,مسابقة الرواية بقلم / حكيمة جريبيع من الجزائر

رواية للمشاركة في مسابقة همسة :
الكاتبة  حكيمة جمانة جريبيع / الجزائر
 عنوانها :    عازف الوجع
عازف الوجع
 
   جثمتْ المحنةُ فوق صدره، صخرة صلدة تضغطُ و تضغط ُأكثر وهي تستبقُ الزمن في الظفر بوجع جديد
يتناسل في تلافيف رأسه أو روحه ، فكلاهما مهمتان لكسب الجولة ..
تململ على فراشه المحموم وكأن حبات جمر أحرقت حشوة القطن لتحل محلها و تبدأ في مهمتها ، هكذا
تحالف الوجع والأرق في سيمفونية غاضبة .. عُمْرُ الحالة أزيدُ من شهر لم تنفعْ معها كل المهدئات و لا
المسكنات..
فكلما خلا بنفسه حطّت فراشات الوجع و حَامتْ فوق رأسه، لتخلقَ ربيعها الخاص .. ما أقصاها وهي تَجْدلُ
ضفائر المشهد اللَّيلكِي ..انتفض مذعورا كمن لم يصدق ما حدث به، مرددا ( لم أعد أحبها..لكن كمْ أحببتُها إ)
 _ قال الصوت الآخر( وهل أنت نادمٌ على صدقك .. ؟)
 _ وأجاب : في الحقيقة نادم على غبائي ..
 _ ما كان لك أن تكون غير أنتَ .. صدقُـك هو أنتَ و هويتك و ليس في وسعك أن تخرج من جلدك إ
_ لكنها كانت بوجهين كالعملة الصورة من جهة و الرقم من جهة أخرى .. كيف أنني لم أنتبه كلّ هذا الوقت؟
_ غشاوة الحبّ تحجب دوما عن العين القبح و عن القلب الشك ..
_ تــــــــــــوقـــــــف اعتقني ما عدتُ أحتمل كل هذه الفلسفة العقيمة.. إ
دفن رأسه بين راحتيه في محاولة لإيقاف الصوت الهادر، محركا رأسه بقوة كمن يريد أن يخرج منها حصاة
أو حجرا ، يقف مذعورا يسحب خطاه نحو غرفة مكتبه ، يرتمي على أريكته ، يخرج نفسا عميقا ..
تداعبُ عيناه بعض أشيائه الغاليةِ على قلبه ،العودُ و آلةُ التصوير اللذين هجرهما من يوم أن توقف على
حُبّها.. التصوير الصحفي مهنته و العود كان غريمَ المهنة .. و يوم كان الحبُّ تعايش اللحنُ و الصورةُ في
 
 
  وئام حتى أنه كثيرا ما كان يردد على مسامع أصدقائه ( الحبُّ مضخةُ الفن ).
تملّكَهُ الاحتراق من جديد فثمة ملح تناثر لتوه على جرحه.. دار حول نفسه عدّة مرات، مسلوب الإرادة.. لم
ينتشله من هذه الحركة غير رنين هاتفه الذي أضرب هو الآخر عن مهمته منذ أكثرمن أسبوع.. فأخر الصور
كان قد قدّمهَا  للمجلةِ لأجل العدد الشهري القادم..و مُتيقْنٌ بأن لا شيء جديد حدِّ اللحظةِ يجعلُه متأهبًا لسماع
أوامر أو تعليمات جديدة، تباطأ في الرد، توقفت موسيقى الشيخ إمام التي ضبط عليها رنة هاتفه ، لم يشأ  
 الردّ وعادَ الرنينُ من جديد .. حملَ هاتفَه..ضغط على جهة الاستقبال ..
 _ ألو مساء الخير أستاذ “صادق”
 _ مساء النور ..
 – أ نسيت الموعد ..؟
_ أنا الراقصة” سَمَرْ”.. أ لم نتفق على موعد التصوير الليلةَ لأجل المجلة ، و بعد ساعة ستبدأ وصلتي إ..
كُلُّ فنانة جميلة أو حتّى التي داهمَ الزمنُ ملامحَها أومن كانت تعاني من  عيب عندما يلتقطُ لها الصُّحفي
المصور “صادق” صورة ، فهي لا تصدق نفسها ، تُصْدَمُ  لبهاء ما تراه..و كأنّهُ ساحر سبحان الله أو كأنّ
مصحح عيوب رُكّب في آلة تصويره ، ويقوم بما تقوم به عمليات التجميل .. الجميلة تزداد جمالا و الناقصة
تزداد اكتمالا .. 
 استجمع قواه شيئا فشيئا يستحثُ الخطى نحو شارع “النسيم”.. رافقتهُ ذكريات جميلة تزاحمُ وجعهُ ، تذكـّرَ  
المسابقة المتوسطية التي نال فيها الجائزة الأولى بصورته المعنونة بِ “الألمُ يبتسمُ ” والتي كان قد التقطها
في أحد الشوارع الشعبية لشابة إفريقية لاجئة على قارعة الطريق تمدُّ علبة خاوية ليلقِي فيها أحـدُ المارة
بعملة تسدُ بها حاجتها من رغيف وماء..اقترب منها ألقى في علبتها مئة دينار ثم دخل معها في حديث مطوّل
 عن وضعها المدنيّ وظروف معيشتها حتى انتهى الحديث بينهما بصورة وهو يشير لها بيده على طريقة
الممثل الأسمر أحمد زكي ” ابتسمي تطلع الصورة حلوة “..
و امتثلتْ الفتاةُ السمراء للملاحظة، و خرجتْ الصورةُ في أبهى حلّتها بلونين اثنين لا ثالث لهما من نصاعة
صدق و تلقائية مطلقة ..      
   سرّ جمال صوره يكمن في تلقائيته.. حتىّ أنه كثيرا ما كان يطلبُ من نجمات المجتمع و الفن التقليل من
 
 
الزينة و المساحيق المبالغ فيهما و يقول لهن ( دعوني أخرجُ عملي بلا طلاء.. فهو قشرة تسرق نبض   
 الأشياء وتخنقه بوحشية مُقيتة ..)
  النجاح الذي أدخل سربَ الفرح إلى قلبه المحبِّ سرعان ما أدار له وجهه و لحق السربُ بحرائق النبأ   
المفجع، ليجلده دون توقف..اهتزتْ جوارحُه وسرت قشعريرة لاسعة في كامل جسمه  لمّا استحضر مشهد
 التكريم..ها هو شريط نابض بالحياة يمثلُ أمام عينيه، يذكرهُ بلحظة الخلود، تسلمه الجائزة و اعتلائه المنبر
 أمام مثقفي عاصمة الجن و الملائكة..
كانت لحظات خالدة رقص لها قلبه و ظلت حمامة الفرح تهدل بأعماقه أجمل سنفونية حلم لصورة خلّدها
التاريخ لا يقل شأنها عن لوحة الموناليزا ..
و توقفت أجنحة الفرح عن التحليق و كأنها تواعدت مع توقف أجنحة الطائرة في أرضية المطار عائدا
بحصاده الذي لم تمهله اللحظات ليعبَّ من بريقه الآسر، ولا ليأسر خطاه المتسابقة في بيادر نجاح كان له
مذاقه المميز ، حقق نجاحات من قبل لكن هذا النجاح قد تواعد مع  قلبه بأن يهديه لها ..
استحضر الموقف يوم زارته في مكتبه و بمجيئها رن هاتفه حاملا نبأ فوزه بالجائزة .. ابتسمت و هللت للنبأ
وهي تقول بنبرة هادئة :
 – مبروك حبيبي ..تستحق أكثر..لو لم تكن أنت سأجزم أن هذه المسابقة مجرد لعبة أو معرض لصور اجتمع
فيه الغث و السمين و انتهى  .. إ
  كلامها الدافىء حرك كوامن  روحه التي رقصت نشوانة بحبها و بالنجاح أيضا.. يا الله وردة النجاح والحبّ
 قد انبعث شذاهما الطيب من قلبه فبدا كل شيء من حوله جـميلا.. حتى العود أشركه الفـرحة و خـرج منه   
   أعذب لحن بعد طول انتظار..
و كان القدر و كانت صفعة النبأ التي ترنّحَ لها وأخلطتْ كلّ أوراقه ولم يستعد معها حتى الآن وقفته.. وقفته
 المقصوفة التي عبثتْ بها الأقاويل وكذا أعداء نجاحه..ها هو فجأة يصرخ (هي السببُ هي السببُ وقد أخذتْ
معها السر ..)
تراتيل الماضي القريب تواصل أداءها دون توقـف.. لم يلتقط صورة واحدة من شهر و نصف .. ( وهل لدي  
قدرة على تحريك ألة التصوير كالمعتاد..؟إ ) قالها في قرارة نفسه و هو في طريقه إلى “سَمَرْ” ..
 سحب خطاه بتثاقل نحو الفندق حيث “سمر”.. ولج قاعة الحفلات.. وقعت عيناه على رؤوس كبيرة ، من  
 
نشطاء سياسيين و رؤوساء أحزاب و رجال أعمال( مجتمعين على تقاسم كعكة كبيرة .قالها في قرارة تفسه)
 تحركتْ عيونهم لمرآه بايماءات انطوت على نقد وقدح تلتها همسات..تأكد أنه سيسرق الأضواء من “سمر”
 التي لم تشرع بعد في وصلتها..و أن ملفّه على طاولاتهم تماما كالكؤوس التي يفرغونها في أجوافهم و أنّه
 سوف يمزج مع كل جرعة مشروب تمرّ إلى أفواههم التي ستطحنه طحنا .. لم يتحمل تلك النظرات البلهاء ،
 لم يتحمل همزاتهم و لمزاتهم ، فغادر القاعة نحو غرفة الراقصة .. طرق بابها :  
– تفضلْ ..
دخل  بينما كانت منهمكة في وضع اللمسات الأخيرة ، اتجهت نحوه و هي تمدّ يدها لمصافحته .
    – أهلا .. عساك بخير
    –  لا بأس على العموم
    – لنبدا في العمل ، أفضّل أن أخذ لك الصورة من هذا الجانب..استديري قليلا ، اطلقي ملامح وجهك هيا…
    – أ لا تأخذ لي صور و أنا أرقص  ؟إ
    – سأفعل .. 
حرّك ألته ، ارتعدتْ أصابعه ، وضع عينه على العدسة ، خانته الإصبع السادسة التي  كانت بين السبابة
 و الابهام ، إصبع زائدة ولد بها، قالت له أمّهُ :
  ( يوم كنت رضيعا لا تبكي كما الأطفال ،تضع إصبعك الزائدة في فيك و تكتفي بها.. لولا مواعيد
الرضاعة لَمِتَّ بسبب صمتك وأنه في يوم مولدك اتسع رزق أبيك بعد عيشة ضنكا )
إصبع زائدة في يمناه كانت مصدر إبداع و رزق ، وها هي اليوم تسحب الإبهام سحبا و تمنعه من الضغط
 على الزر..حاول عدة مرات لكنه أخفق، لمح أيات التذمر وهي ترتسم على محياها و قد حان وقت تقديم
 وصلتها ، فزعتْ بعدما سمعتْ الصوت الجهوري و هو يقدمها تحت وابل من التصفيقات …
 – ما لذي يحدث ؟
 –  لستُ أدري إ
 – أعدك بترتيب لقاء قريب .. لا تقلقي
عاد إلى القاعة ليتابع وصلة”سمر”ربما تنسيه حزنه، لمح صديقة مقّرّبة لحبيبته،اقترب منها، تبادلا التحية .
 –  لو سمحتِ ممكن أن تشرحي لي ما حدث مع “أُمْنِيَة” ..
 
 
    – أخي صادق الوقت غير مناسب للخوض في تفاصيل القضية على الأقل الآن .. 
   – الكابوس مزمن،أريد أن أرتاح..أختي .. إ
كانت عيناها قد تسمرتا في الراقصة وهي تتلوى كأفعى جائعة إلى الدم الفائر الذي يحرك الجيوب.. انسحب
بعدما أدرك أن محدثته ليست معه..وهو يلوك بقايا وجعه المتجدّد الذي كلّما امتثلَ بين يديه عاد بوهج أقوى
من بداية مطلعه عليه في زمن الحصاد المرّ..
الوجعُ يفتح براعم الحنين إلى شيء يتربّعُ على قلبه.. آلة العود.. يمدُّ يده، يحملها ، يتحسسها بإصبعه
الغريبة ، تتحرك الإصبع على الأوتار .. يتحرك الشجن ، يتصاعد العزف دون توقف ، الإصبع الزائدة التي
رفضت من قليل الضغط على ألة التصوير ، ها هي تنحاز إلى العود تبارك فتحه الجديد، كأنها توّقعُ نهاية
 التصوير لتحتفي بعهد الوتر.. تقاسيم جميلة رغم الشجن المتماوج في ألحانها ..
 “يا زرياب”.. ثمة وتر سادس هذي الإصبع التي صارت وترا جديدا وصارت مضرابا تتحدى مضراب ريش
النسر، ذاك السبق الموسيقي الذي احتفى به التاريخ و لا يزال ، الإصبع السادسة تفتح صفحة سبق جديد قد
يخلّدُ لو تحتضنُه الرعاية الساميةُ..
فرح مبتورارتسم على محياه المنقبض منذ أكثر من شهر..ألحان الشيخ “إمام” تملأُ الغرفة وهو يدندن بحزن
( البحر بيضحك لـيـه ..
وأنا نازلة أتدلع أملا القلل..البحر غضبان ما بيضحكش..
أصل الحكاية ما تضحكش .. )
“أصل الحكاية ما تضحكش” رددها عدّة مرات، واستوقفته على اثر سقوط عبرة حارة ألهبت وجنته اليسرى
كانت مرسال قلبه لتذكره بالحادثة المريعة و بالسرّ الذي دفنتْهُ “أمنية” معها..
الليل في منتصفه يستحثُه على سحب الخطى بعدما حضر البحر في عزفه وهو يغريه بمرفئه الذي ربما
 يحتضنهُ بصدق بعدما تخلى عنه الأصدقاء و الأحباب الذين كانوا يتصلون به كل ساعة ولا يهدأ هاتفه عن
الرنين ..لا أثر لهم اليوم بعدما صوروه في آحاديثهم المنسوخة الممسوخة، وحتى في مقالاتهم الصحفية
 “بالزوج المطعون”
كلما تذكر موقفهم دارت الأرض من تحته وصعدت حرارة مستعجلة تضخّ تلافيف جمجمته المتخمة بالوجع ..
 
فهو يهرب من وصفهم له بهذه العبارة الجارحة لأنه يعرف “أمنية” وحبّ اربع سنوات و ما كابده لأجل
الوصول اليها والعراقيل التي اعترضت زواجهما.. أ كل هذا كان مجرد كذبة ، فقلبه يقول له بصوت مرتفع
( لا تصدق افتراءاتهم هناك خطأ ما أو سر يحتاج أن تنفض عنه الغبار فقط  ؟إ)
و صوت العقل يقول له ( لا دخان دون نار .. الشبهة موجودة .. فهي لم تتقيها ولم تستبرىْ لعرضها  ..إ)
يتجاذبه مطرقة العقل التي تخبط بقوة على رأسه و هديل القلب المسالم بينه ورقة يعبثان بها يمنة و يسرة
حتى اعتلت أعصابه..لم يعد يحتمل ، استعجل الخروج من بيته في هذا التوقيت ، البحر وجهته وقد يكلّفُهُ
نصف ساعة سيرا ..( المشي في حالتي مفيد ) قالها بنبرة مضطربة ..
ومشى بخطى سريعة جدا..المسافة الطويلة قطعها في ربع ساعة فقط ،و وجد نفسه وجها لوجه أمام الأزرق
 الهائج.. ارتمى على صخرة منفردة على الشاطئ كانت تدعـوه إليها بلهفـة ربما كانت هي الأخـرى تشكـو
 من قلّة الأنس الليلي..أطلق العنان لعينيه والقمر من فوقه يرتجف وكأنه خائف من ان ينتفض البحر ويجرّه
 إلى الغرق..راق له أن يكون وحده شاهدا على هذه اللوحة السرمدية من قتامة ليل ومن أضواء باهتة لبعض
السفن التي تشقّ عبابه ، ومن وجعه أيضا.. يـا لها من لوحة وقّعَهَا الليلُ في ربيع موسمه ، بينما قلبه في
شتاء لم تهدأ عواصفه..
 راح يعبُّ من اللوحة بنهم ، بعض التأمل قد يزاحم حزنه و لو للحظات علّهُ يتوقفُ، هذا الذي لم يعرفْ له  
 لحظة توقف، في  ضيافة البحر تولد فلسفة الحياة و الموت، وقد تماهى بداخله  شعور لا هو بحياة ولا موت
هل من تصنيف لهذا النمط من الوجود؟ طرح على نفسه السؤال و هو في غمرة تأملاته الهلامية، فهي
شريدة غير مستقرة على شيء محدّد ، صوت باخرة قادمة من رحلتها ، تترنحُ مثقلة على صفحة الأزرق
تزامنت مع مقدم سيدة في مقتبل العمر تركض حافية القدمين نحو المرفأ الهادئ إلا من خطواتها الصاخبة ،
 أعتقدَ منذ قليل أن المرفأ ملكه الليلة لكن فجأة اكتشف أن هناك من يشركه في مقاسمته.  
أقبلت كالشبح دون مقدمات، من أين خرجت، أين كانت قبل اللحظة ، بمجرد ظهور الباخرة التي مهدت
لمقدمها بصوتها الثقيل .. هبطت هذه السيدة على تخوم تأملاته وتساءل :
 ( هل هي حقيقة أم شبح ..هل هي إنسية أم جنيّة.. مجنونة أم هي عاقلة وما الذي جاء بها هنا في هذا
التوقيت بالذات .. ؟)
تكوّم حول نفسه لئلا يشغل نفسه بأمرها لكنها أقبلت نحوه ، اقتربت منه أكثر.. بدتْ ملامحها أكثر..وجهُهَا
 
أبيض  وقد تمردت خصلة حمراء من تحت خمارها الأسود ، ثم راحت تلوح بيدها للسفينة التي لم ترسُ بعد.
( سيطل منها طارق بعد قليل ) قالت بصوت كأنّه لازمة لأغنية بحرية..
 وعدني أنه سوف يعود في عيد الأم … )  
أدرك أنها تنتظر عودة ابنها الغائب ، وأنّ فاجعتها لا تقلّ عن فاجعته وأن بين العقل و الجنون شعرة هي في
يد القدر يلهو بها يرخيها حينا و يشدها حينا آخر،مستمتعا باللعبة على أقلّ من مهله حتى تفلت أعصاب
صاحبها..أخذ يدندن بكلمات محاولا أن يلبسها لحنا على مقاس البحر المكابر، ارتفع صوت الباخرة وارتفعت
معه حماسة المرأة الواثقة من عودة غائبها .
أخرج ألة التصوير ضبطها على إضاءة مطابقة للّيل في محاولة لالتقاط صورة لها .. ضغط بوتره السادس
فلم يستجيب ،أعادَ الكرة فامتثل في طواعية و كان له ما أراد.. فهو يعـرف كيف يصطاد صوره ويقبض
 عليها قبل أن يسرقها ذئب الوقت البائس ثم يترجم ايحاءات ملامحها  بكلمات  تقطر صدقا ..
فكر مليا وقال ( حقا اليوم الواحد و العشرين من آذار عيد الأم إذن المرأة واعية ولم تكن تهذي .. ؟ ) 
رستْ السفينة حبلى بالغنائم ، و المرأة المقهورة حبلى بالحلم .. هبط ربانها وهو يسدي أوامره لبحاريْن
بإفراغ الحمولة ..
 – هل أتى معكم طارق ..؟
 –  ها قد تذكرت ..هي اذن أنتِ في نفس الموعد من ثلاث سنوات في مثل هذا التاريخ تأتين كعادتك .. الله
 يشفيك.. ) قال البحار البدين .. وسقطتْ ضربتهُ على قلبها الموبوء بالحلم ..
انكسرت المسكينة بعدما أيقنت أنه لم يأتِ هذه المرة أيضا.. ارتمت على الرمل ودخلت في موجة بكاء ..
تحركتْ خلجات الإنسان بداخله..اقترب منها ليواسها مدّ يده وسحبها حيث الصخرة وهو يقول لها :
 – استريحي يا أمّي .
–  آه لم أسمع هذه الكلمة من ثلاث سنين أصغر أولادي هاجَرَ عبر البحر و لا أعرفُ عنه شيئا حتى اللحظة
كل ما قاله لي أنه سيعود في عيد الأم وها أنا قد أتيت من بعيد  في الموعد نفسه وهو لم يأتِ .. 
لم يعد لي أحد في الدنيا بعدما فقدت من شهر أخاه الأكبر الذي كان مهاجرا ومقيما في كندا ولم أره  من 
  من خمس عشرة سنة و يوم أتى فقدته و فقدت معه درّة قلبي.. 
 
         
  وانخرطتْ في موجة بكاء جديدة وفي غمرة نحيبها أخرجتْ من عبائتها السوداء صفحة جريدة ، مدتها له
 بقلب منكسر وهي تقول :
 – من المؤكد أنك سمعتَ أو قرأتَ عن هذه الحادثة المروّعة .. ؟إ
فتح الصفحة المطوية عانقت عيناه الأحرف التي اختزلت حياة يكاملها .. كاد يغمى عليه إنه الحادث الذي
ماتت فيه “أمنية” و حسب المنشور أنها كانت مع عشيقها …
انتفض مذعورا كمن أصابته صاعقة ثم جثا فوق ركبتيه مستجديا المرأة الجريحة :
  _ من هذا الرجل ؟  
  _ قلتُ لك أنّه ابني ذهب ليرى أخته من الرضاعة ..” أمنيةّ” وهي من عمره و وعدني أنه سيحضرُها معه
لرؤيتها قبل أن .. لكن القدر لم يمهله ليحقق رغبتي ..أ عرفت الآن فاجعتي ..إ  
ألجمتْهُ المفاجأة و شلّتْ حواسه الخمس،سحب هيكله المتعب ببطْء تحت ثقل رأسه الذي أسكره النبأ، أ يفرحُ
الآن فالحقيقة بين يديه أم يحزن لأنه ظلم توأم روحه ولم يقبل فيها حتى العزاء..؟إ
شعور مبهم يحركه نحو المجهول ،أطلق رجليه لنهم الريح ، والأنين يصعد و يهبط بصدره سنفونية كالتي
أبدعها وتره السادس..صوتها في أذنيه، لمستها برائحتها عادت تحوم حول أنفه الذي لم يشتم رائحة منذ
أزيد من شهر.. وسياط التأنيب المستعجلة تؤدي ما تبقى من الوصلة .. 

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى