عباءة جدي
قصة بقلم :السيد عبد الجابر
المدينة الأسكندرية
المسابقة :القصة
عباءة جدي
في ليلة شتوية شديدة البرودة حيث الأمطار لا تتوقف عن الهطول ،والرعد يصك الاذان ،والسماء تبدو كحبلى محملة بالمطر تنتظر مخاضها ،أحسست أني كدجاجة أنتُزع عنها ريشها الذي يقيها حر الصيف وبرودة الشتاء ؛فسارعت إلى عباءة جدي الصوفية الخامة الريفية الطراز والتي تتزين بأكمام فضفاضة بدت لي منذ أول وهلة كسرداب لجدي يخبأ التاريخ فيه؛ فتراه دائما يجري بساحته دافئا هادئاً لا يصيبه الفتور أبدا .
إرتديت العباءة فوجدت الدفء يتسلل إلي كتسلل يداي إلي مكتبة جدي العامرة بالكتب التراثية التي تغطي شتي مناحي العلوم -وبين يقظة ومنام وجدت جدي يقف بباب غرفتي بجسده العجوز وروحه الغضة النضرة و يديه الكبيرتين قاسية الملمس وابتسامته التي تتفجر حنوا وعطفا ،
وقف جدي علي باب الغرفة يحمل تلك الأبتسامة الساخرة التي يطلقهادائماعندما يستطيع بحنكته فك أي حصار يُضرب حوله فعلمت أنه إستطاع منذ قليل فك الحصار الذي أقامته عليه جدتي منذ أصيب بالوعكة الاخيرة.
طالعتني إ بتسامته البشوشة ووجهه الصبوح ؛فقمت من فوري أفسح له مكانا في سريري ودفئا في وسادتي- فتهادى إلي الحجرة بخطى حثيثة قيدها ذلك التيبس الذي أصاب شقه الايمن منذ بضع شهور؛ فأخذت بيده ليجلس ويبثني مكنون فؤاده فأبثه روحا من شبابي الفتي –وأبثه تأوهات نفسي فيبثني روحاً من الأمل وفيوضاً من الحكمة .
عندما جلس جدي على سريري وسرى الدفء في جسده و جرت الكلمات علي لسانه حدثني عن أول مرة رأى فيها جدتي وانساق في وصف تلك اللحظة وكيف مرت علي قلبه فسرى فيه لهيب ومرت عليها فخضبت وجهها بحمرة الخجل فطار الي أبيها ليخطبهامنه ،ووصف لي فرحته بأول طفل يرزقانه فكأنني أسمع صراخ الطفل وأنين الأم, ثم تذكر جدي أول يوم قضوه بالأسكندرية بعد أن نزحوا من الريف لهثاً وراء لقمة العيش ،وكيف أستطاعوا إيجاد هذا البيت الفسيح الذي يأوينا حالياً وكيف أصر على الإحتفاظ به رغم شظف العيش وإلحاح جدتي على تركه.
ثم مضي يحكي عن أيام الشقاوة كما يسميها وكيف كانوا يتخطفون جنود الإحتلال من الشوراع والأزقة وكيف ردوا الإحتلال عن بورسعيد ودحروا الصهاينة في سيناء.
بدا وجه جدي وهو يروي ذكرياته كشاشة عرض عملاقة تتجلى عليها كل خبايا نفسه ،فاذا مر بيوم حزين وجدت صفحة وجهه تتلون بظلمة قانية كلون السماء قبل هطول المطر وقد حُملت أجزاؤها بالمطر، أما إذا مر بذكرى سعيدة بدا وجهه كالقمر في ليلة التمام وكالشمس في يوم ربيعي مشمس والنسيم قد تهادى علي صفحة الكون الفسيح.
ومضى جدي بالذكريات تسلك به مسالك شتى، فتارة تسكننا قمم الجبال عند نجاح أحد إبنائه وأخرى يحتوينا قبر وارى فيه عزيزاً لديه ،حتي بدا الليل مصراً علي الرحيل وقد جمع أخر أشلائه- وهنا تسلل السقم إلى ذاكرة جدي والتعب الي أعضائه ؛فاستاذنني أن نكمل في يوم أخر فترفقت به ووافقته علي مضض, وعندما هممت أن أخذ بيد يه لإدخله غرفته إستوقفتني أشارة منه تبثني رغبته أن يبيت ليلته عندي فوافقت من فوري ،فلطالما تمنيت أن يحتويني صدره وتضمني ذراعيه – غير أنه لما ضمني هذه المرة إلي ذراعيه لم ألحظ تيبسا فيها ولا فتورا في عضلاتها- وكأنها ذراعي شا ب قد جاوزالعشرين منذ قليل- فـتأزرت بها ونمت ونام جدي .
عندما هبت تباشير الصباح نازعة عن المدينة حجاب ظلامها وجدت يدين توخزني وخزا شديدا وصوت أمي المرتفع يشق الأفاق ؛تنبهت فوجدتني لا زلت في عباءة جدي وفي يدي أجندة مذكراته ،وهنا إ ستشاطت أمي غضباً لتأخري عن إمتحان التاريخ ،وازداد بركان ثورتها فوراناً عند ما وجدت تلك المذكرات في يدي فعرفت علي الفور أني قد بت ليلتي معها ولم أقرأ مادة التاريخ ،فقمت من فوري أقبلها بين عينيها لتعلم أني إستذكرت تاريخي جيداً.
ورغم استمرار صراخها من تباطئي وجدتني أذهب لأتفقد جدي في نفس المكان الذي ألفته فيه منذ مولدي علي تلك الصورة التي أحتلت جدار حجرتي منذ مات قبل ولادتي بخمسة أيام فطالعتني أبتسامته العذبة التي لا تزال تزين وجهه فابتسمت له ثم خلعت عباءته وانصرفت.