ط
مسابقة القصة القصيرة

عبارة و كوابيس .مسابقة القصة القصيرة بقلم / حنان مهدى من الجزائر

حنان مهدي
الجزائر(مسيلة) ، رقم الهاتف :2130674645999 +
البريد الالكتروني :[email protected]
قصة قصيرة
عبارة و كوابيس !
جذبته العبارة المكتوبة على ورقة مربعة الشكل أعلى زاوية الحافلة : ” كلنا محمد -صلى الله عليه وسلم -” غاص لوهلة محملقا فيها وقد بدا أنها لامست قلبه وحركت شيئا ما بداخله، ربما هو شعور بشيئ من الفخر والاعتزاز والاحساس بالانتماء .
كان قد خرج لتوه من امتحان الأدب العربي، بدا جليا على تقاسيم وجهه العبوس تكدر مزاجه، رمى بكل ثقله على خلفية المقعد محاولا تناسي كل العالم من حوله فكل ما يريده هو أن يسير في فلك غير مأهول بمن يحيطون به، فلك يعدم فيه الموجودين و يحرك فيه الأحداث والمواقف والأمنيات التي سرقت بهجته في دنيا الواقع ..إنه يرى في تلك العزلة المفر للهروب من كل ما يثير غيضه .
على زاوية موازية له في الجانب الأيمن للحافلة كان يجلس صديقه أيمن. مر عليه سمير دون أن يسلم، ليس لأن هناك شيئا ما يحمله ضده .ولكن فقط لأن الأمر لم يخطر على باله. قد تكون مزاجيته المتقلبة هي ما جعلته يتصرف على ذلك النحو .
هروبه، جعل رأسه مدججا و مثقلا بالأفكار المتضاربة التي تعالج كل شيئ في آن واحد ..لم يفق من هذيانه إلا على وقع ربت للكتف وصوت خشن هلل مرحبا به :”عمت مساءا يا صديقي ..لم أرك منذ مدة طويلة”
رد بابتسامة مصطنعة سرق التعب والارهاق صدقها :” أهلا بك أيمن كيف الحال ؟ ”
أيمن:” اممم، سأكذب عليك إن قلت أني بخير تماما. لكن عموما هناك أمور على أحسن ما يرام”
رد سمير ضاحكا :” آه نصف من أمورك جيد، أتساءل أين ذهب النصف الآخر؟ ”
أيمن :” يا الهي يال مكرك !..لا زلت تجيد التلاعب بالكلمات، نعم ذلك ما ينقصني الآن حتى تصبح أموري جيدة ”
سمير :” ولم العجلة ؟عليك أن تتريث سيكون من الصعب أن تجد فتاة مناسبة هذه الأيام ! ”
أيمن:”دعنا من الأمر ولنتحدث عنك، هل من جديد ؟ ”
رد سمير بحماس و قد شع الوميض من عينيه :” كما تعرفني دوما !”
أيمن :” تبدو مرهقا. لكن وميض عينيك يوحي بشيئ ما ”
سمير : ” ماذا ؟ ”
أيمن :” أنت من سيخبرني ؟ ”
سمير:” الأمر ليس كما تعتقد..تعلم أن الفتيات آخر همي ” .
أيمن :” أوه ، حسنا أيها المتعالي “.
سمير: “أراك تحمل جريدة ..كم صرت أمقت أولئك الصحفيين أنا لا أصدق أخبارهم “.
أيمن :” لا يجدر بكاتب وشاعر مثلك قول ذلك..عموما هذا عدد مخصص لنصرة النبي محمد ردا على شارلي ايبدو “.
سمير ( بتذمر) :” العدد يذكرني بالأغاني التي تتغنى بعروبة فلسطين وقت الحروب..آآه كم هذا سخيف ! ”
أيمن :” ولم تستاء منها فهذا تعبير عن الانتماء والحس بقضايا الأمة !”.
رد بسخرية :” وهل تشك في عروبة فلسطين!؟ دعنا من ترهاتهم الأمر برمته تجارة ”
أيمن :” شاعريتك لم تظهر في حب الرسول الآن ..اذا لن تكتب قصيدة ؟”
سمير:” منذ نزول الرسالة و غير المؤمنين لم يقولوا كلمة طيبة عنه..لا أدري مالذي تغير الآن حتى صرنا نشعر بأننا نحب الرسول فجأة فنغني ونكتب ونعبر! ”
أيمن:” نظرتك قاصرة جدا، أعتقد أن هذا سبب فشل الروايتين السابقتين لك”
سمير:” سيبقى السوق آخر همي..”
وسكت الاثنان معا مطولا ينتظران انطلاق حافلة النقل الجامعي .عاد لحظتها سمير الى عالم يعيش فيه هذيانه و فكرة اضطراره لقطع مسافة عشرون كيلومتر في طريق صحاروي ممل ترعبه ، فلطالما كان يكره طرق مدينته الصغيرة فهو يرى فيها بأنها مرآة تعكس ما خفي ..مرآة تعكس الكره والبغض والتجاوزات وانحطاط الأخلاق،انها تعري الواقع وتكشف الحقيقة، ففي كل كومة أوساخ مرمية بعشوائية على حواف الطرقات وفي كل زلة ومخالفة تبدر عن الناس تسقط الأقنعة المنقمة والمزيفة بمساحيق خادعة.. حواف الطريق تضعه في قلب الواقع الهارب منه وتخبره عن حقيقة من يكون ،إنها عدوه الذي يضعف همته ويزيد من وجعه .
الغريب في أمره هو أنه شاب لا يكره الوطن كليا ولكنه لا يحبه بشكل مطلق أيضا. لكن شعوره الآن ليس سوى المقت. إنه شعور يتكرر بين الفينة والأخرى حين يزور البلدية أو حين يقرر استخراج وثيقة أو حين تعلن نتائج مسابقات التوظيف.. عدوه هو التجاوزات والتماطل واللامبالاة والتعامل السيئ والتخلف تلك المواقف التي تذكره بأنه يحيا عصور ما قبل الميلاد ..قد يكون الأمر ليس بتلك الدرجة من السوء عند الكثيرين لكن بالنسبة له فشاعريته غالبا ما تكون هي السبب في شدة لهجته ومبالغته ..مثاليته اللاواقعية قد تعبر عن الحقيقة أو قد لا تفعل لكنها بصدق تعبر عن حقيقة ما يختلجه .
سارت الحافلة، هناك بالقرب من احدى الزوايا وسط المدينة دوما تجلس امرأة مجنونة متسخة الملابس شعثاء الشعر بشعة المنظر تفترش فراشا مكدرا بالقذارة على التراب..كان البرد قارسا والشمس قد قاربت على المغيب وطبعت على السماء لونا برتقاليا يوحي بقرب موعد توديع يوم آخر من الحياة ..كعادتها كانت تتكلم بصوت عال، راح يتأملها ولم يعد يفكر في أنه يجب أن توضع في مصحة كما فعل أول مرة حين شاهدها منذ أربعة أعوام ..لقد تعود على المشهد وصار عاديا عنده .
ابتعدت الحافلة قليلا وبالقرب من تمثال برونزي للرئيس ” محمد بوضياف ” بأمتار ليست بعيدة عن المرأة ذات اللباس المتسخ والشعر الأشعث الملبد، شاهد مجنونا آخر بدا ثلاثيني العمر لم يسبق له ان رآه في المدينة، المثير في أمره أنه لم يكن يرتدي لباسا يبدو مقززا كالمرأة المجنونة بل كان عاريا تماما يجري في الطريق، مر بسرعة في لمح البصر بين عينيه .وبدا أن الغائب عن دنيا الواقع في دنيا الأحلام عاد ليحيا الهموم والأوجاع ..سمع ضحكات وهمسات من بنات جلسن خلفه فقرر العودة ليثمل عن الواقع من جديد وعيناه تزيغان و تتأملان بلا تركيز ذهول وضحكات الناس الذين اكتفتوا بتأمل المجنون العاري .
مرت الحافلة بالقرب من مقهى علق صاحبها ورقة كتب عليها ” كلنا محمد -صلى الله عليه وسلم- “ومثلها بالقرب منه علق حلاق شعر و نجار بجانبه وصاحب مطعم ..كانت سلسلة محلات طويلة في حي اكتظت شوارعه بالناس والسيارات التي تسير بعشوائية في طريق اصطفت أكوام من الأوساخ والقاذورات على حوافه تعلق نفس اللافتة .
راح يتأملها هذه المرة ببرودة وقد زالت تلك الغصة التي فيها شيئ من الفخر والاعتزاز ..و خرجت الحافلة في طريق صحراوي ممل وهو يتمنى لو أن الحافلة كانت طائرة تطير معانقة السماء. هناك، حيث تبدأ الأحلام ..حيث تحيا وتنمو دون وجود لكوابيس الواقع .

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى