ط
مسابقة القصة

عفواً ايتها الشمس ( ملخص ) مسابقة الرواية .بقلم / فوزى الطائى . العراق


عفواً ايتها الشمس
فوزى الطائى . العراق

مختصر الرواية

الشمسُ الجميلةُ تُشرقُ من افقٍ قريب, في سماء صافية بدت وكأنها خيمة كبيرة ضُربتْ على عدة مليارات من الناس. يتحكمون بمصائر عوالم الأحياء الأخرى على وجه الأرض. للإنسان سلطة كبيرة في دنياه, يأمر وينهى, ويقبل ويرفض, يزعل ويتصالح, ومن دون حدود لصلاحياته سيصبح عمله ضرباً من الفوضى, قرص الشمس الرائق يعلو, وحمرته تتبدد شيئاً فشيئاً, الحركة تزداد في الشوارع, والريح الخريفية المعتدلة تلامس الوجوه برقة فتنعش النفوس التواقة الى يوم سعيد ليس كباقي الأيام, ستمر ساعاته متعاقبة تجر أحداها الأخرى, ومع صعود الشمس الى رأد الضحى يكون كل شيء قد اكتمل: المدعوون من الإخوان والأقارب تقاطروا يصافح بعضهم بعضاً بابتسامات هادئة, وملابسهم الأنيقة تشع بألوان زاهية عادة, وروائح طيبة زكية تغمر المكان, لغط خفيف يتصاعد وكلام يدور بين الجلساء أكثره أسئلة قصيرة توجه من واحد لآخر وتموت بإجابة مقتضبة: الحمد لله, جزاك الله خيراً, أشكرك, نحن ايضاً نسأل عنكم, أين أنتم, ما هي أخباركم؟… ضوء الشمس الفضي بسحره يجعل الإنسان يدب ويفتح شهيته على الكلام, كل شيء يبدو طبيعياً, لحد الآن لم تظهر مشكلة أو موقف يعكر صفو هذا الجو الذي ابتدأت طقوسه مع بزوغ شمس هذا النهار, الضيوف جلسوا بتكتل: الشيوخ مع الشيوخ والشباب انحازوا لبعضهم, والأطفال أخذوا أطراف الأفرشة فجلسوا عليها متداخلين كطيور تلتقط الحب من غير انتظام, مضى شيء قليل من أول النهار اصبح كفيلا بإن ينسى الناس شمسهم التي أشرقت وبدأت تصعد في مدارج السماء, وحيدة هذه الشمس ليس معها إلا قدرة الله الكريم ورعايته لها, يُمكّنُهَا ان تنشر الحياة, وتبدد الظلام, وتحث الناس على العمل, والسعي في فجاج الأرض, تجعل الحيوان ان يرى درب مرعاه, ويتبين له علفه, فيسرح راغباً بإملاء معدته الخاوية, والنبات عمليات تصنيع الغذاء لديه مشتغلة بفضل ضوء الشمس, الأوراق نضرة والسيقان يدور من خلالها النسغ, حتى عوالم الجماد في النهار يصيبها ما أصاب العوالم الأخرى من إشراقة النهار فأصبحت ناصعة رغم كونها شواخصَ ميتة من دون روح واحساس, الجماد أكثر من الأحياء في هذه الدنيا, ولأن الإنسان أكرم المخلوقات “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً” فقد مضت سنة الله ان تكون مخلوقاته الأخرى في خدمة هذا الإنسان, ومنها الشمس بضوئها الأليف, ذي النعمة الكبرى, صانع  بمشاعرنا, تفرحين لها, وتحزنين إليها, فإن كان فرحاً أطلتِ المقام وابتسم لك أكثر من شروق, وإذا ما كان حزناً وأسى سارعتِ في خطاك المتوغلة في أعماق الوجود وهو يفتح لك بوابة المساء, نحسب أنك معنا اليوم في فرحنا, في الأمنيات الطيبة التي تأتينا من أقاربنا ومحبينا وأصدقائنا مع كلماتهم الرقيقة, وهداياهم المعبرة, ترسمين حدوداً للذكرى تمتد من قلب الى قلب, ومن حياة مضت, الى حياة أتت, نتغافل عنك, ولا تتغافلي عنا, ينعشنا ضوؤك وتزهو بك أرضنا وسماؤنا, هذه مدينتنا الصغيرة معطرة بأريج محبتك, تزدحم طرقاتها بالناس والعمل والجد والدعوات, اشراقات متجددة, وعيون تصافح عيوناً لا تحيد عن تسبيح الله في عُلاه, وعن الرغبة الأكيدة في بناء الحياة وتعميرها, تأخذنا الهموم صباحاً, تتناقص غداة, وتتلاشى في المساء, الإنسان لا يستطيع ان يمضي في مشوار الحياة بدون هموم, ان لم يجدها فمن المحتمل انه سيبحث عنها في اي مكان, وينفض عنها غبار الكسل, يرعاها, يغسل وجهها بماء روحه المتدفق من الإعماق, ناشداً ان تدب فيها الروح لتكون معه في الصحبة! ويبدأ الشكوى! وما بين شكوى وأخرى, تكون الشمس قد قطعت شوطاً في بروج السماء, تحنو, تفرح, تحزن, تبكي على من تشرق عليهم في الأرض, هذي بلادي تقطعها الشمس في دقائق معدودة, من جبال كردستان إذ تصنع لها قامة باسلة بين القمم الشماء, والسفوح الخضر, والوديان العامرة بالخيرات, الى أحواض دجلة والفرات وما يصب فيهما من روافد, وما يتفرع منهما من انهار, تسقي أرض العراق, وتغسل القلق البادي في عيون أهله, وتمضي مع انسياب الماء من الشمال الى الجنوب, بمسير رائق متدفق أزلي, إذ قامت الحضارات على تلك الضفاف, سومر, بابل, وآشور, لم ينس اجدادنا في تلك العصور ان يصنعوا إلهاً للشمس (شماش) العادل الذي يظهر الظلم والخطأ للنور, ويكون وكيلاً عن الشمس في تلك الممالك, والأهم يعنى بكل أمر جديد يرفع من شأن الناس, ويقودهم نحو ميادين العمل والفروسية وإقامة ميادين العدالة والخير والحكمة. حتى اذا لامست أشعة الشمس الصافية رؤوس الشجر في العراق الجميل, تكون صورة بلادنا اكتملت, شعب حي كريم, يسكن على ضفاف الماء والحضارة وينعم بنور الله المنبعث من قرص الشمس المتجدد في العطاء, السامي في النقاء, وهو ينعكس من أعالي المآذن والقباب والكنائس, يوحّد الله, ويدعو للخير والمحبة والسلام, بلاد يتوجها الإيمان, ويريد ان ينال منها الزمان, ينثر على وجهها ماء الكروب, ويتولاها بفتنة وحروب. احسب ان الفرات في بلادي رجلاً رائعاً ودجلة امرأة حسناء, تحابا, الفرات بالمحبة والوفاء والتضحية, تاريخه يقول ذلك, انظر قامت على شواطئه أخلد المعارك, وفي ميدانه تجلّت أروع البسالة والفداء, وبجنبه قامت الحضارات, سومر وبابل والكوفة وكربلاء والانبار, صاحب نخوة وعزيمة, واخلاق كريمة, اعجبت به دجلة صاحبة الجمال الفتان, متحدرة من جبال كردستان الشماء, تفل ضفائرها في ضواحي نينوى الحدباء, لتستحم في حمام العليل, وتنثر على خصلات شَعْرها أجمل الأعطار, كانت لها وقفة مع إله الشمس, في حضرة أشور بانيبال, فأخذت منه الحكمة والوقار, كانت تناجي الشمس اينما كانت (( في الإنكليزية (sun), وفي الفرنسية (soleil), وفي التركية (gunes), وفي الفارسية (خورشيد) )), وهي تبسط أشعتها الرائعة على مملكة الحضر, وتغسل الميادين والشوارع والوجوه, ما لم يستطع ان يغسله المطر, ولأنهما رائعتان الشمس ودجلة, صارتا حبيبتين, الشمس تكرم الناس بضوئها, ودجلة تسقي النفوس والأرض بمائها من دون منّ وأذى, وإذا ما انحدرت دجلة قليلاً وجدت بغداد الجميلة تنتظرها, تشمخ بحضارة العباسيين في الكرخ والرصافة وسامراء, وفي ضيافة بغداد دجلة تتزين, وترتدي أفخر ثيابها البيض عروسة تزف على أكتاف واسط وميسان الى عريسها الجميل, الفرات إذ تعقد قرانهما (القرنة) ويطيب اللقاء وتكمل السعادة, قصة تحكي مسيرة الحب والتضحيات والمجد والحضارات والبناء على أرض الرافدين المعطاء, والأيام تشهد, والشمس تبارك, والنخل يعد مائدة العشاء, سأجد ألف سبب وسبب لأحب بلادي أكثر من دون البلاد, اكتب تاريخي من مداد مقلتيها الجميلتين, وأتم صلاتي على ثرى أرضها الطهور, تشتعل هذه الأرض بالمجد والنور, أكرمها الله بالخيرات, وأودع في ثراها آثار الأنبياء والصالحين, تفوح منها رائحة الجمال والوداعة والالفة, عريقة بشعبها, متوحدة, جليلة, تتكلم عدلاً, وتنطق فصلاً, منذ عهد كلكامش أبت إلا ان يكتب على صفحات تاريخها سفر الخلود, قد علّمت الناس القراءة والكتابة والحكمة والحقوق, أشرقت مواكبها بالنصر على الأعداء, وقامت عشتار ترش بحبات الندى والماء درب القادمين, وتودع الذاهبين, عمَّتِ الفرحة في مواطن السيادة على حدود الأرض, من عروشك ايتها الأرض المجيدة, ولن يكون حاضرك أقل بهاءً من تاريخك الغابر في العصور, هو أحلى لو تركك الأعداء لحالك من دون أطماع وحسد, تنهضين اليوم على قدم واحدة, لكنها صلبة ومتماسكة, ويد تؤشر الى مستقبل وغدٍ قريب يشع بالنهوض, يستدعي السحاب, ويصافح النجوم, وسيكون اهلك بخير ايتها الأرض, كما بدأت بخير ستعودين, وتُرفع عن عيونك الغشاوة التي صنعها لك الدهر, في غفلة فاتت ولن تعود, يا ارضنا الحرة, إليك اغنيتنا ونشيدنا عبر الدهور: أنت المال والكنوز التي تنمو ولا تفنى مع العصور. دجلة, هل أنتِ الشمس؟ والفرات هل أنتَ القمر؟ الشمس والقمر تحابا وبقرانهما انجبا الكواكب والنجوم فازدهرت السماء, (المجد لله في العُلا, وعلى الأرض السلام, وفي الناس المسرة), مرحباً ايتها الشمس في أرضنا الطيبة واهلها الكرماء الاحرار وهم يسعون في مناكبها ويأكلون من رزق الله يؤمنون به واحداً أحداً لا شريك له, ويؤمنون بيوم البعث والنشور, اهلنا في توادّهم وتراحمهم, وعاداتهم الأصيلة التي جُبُلوا عليها وتوارثوها, فكوّنوا منها لحُمة خيرة, ونسيجاً اجتماعياً صحياً, بشعب حي وتاريخ مجيد, وما من أمة تنشد الرقي والتقدم لتقف كثيراً عند ماضيها, إلا بالقدر الذي تأخذ منه العبرة والحكمة, ثم تخطو للأمام بخطوات ملؤها الثقة والإقدام لصنع يوم جديد أحلى من أيامها الفائتة, تدعو نُجيمات السماء المتلألئة في مواقع عُلاها, والورود في البساتين, وديار الرافدين, ان تأتي اليوم لتحتفل مع شبعاد في سومر, وعشتار في بابل, وانانا في آشور, لتؤسس مملكة قوامها الحب والآخاء والمودة, والعلم, والفكر والآداب, وحتى نسمو بالروح العراقية, نصنع وردة كبيرة من ربى الموصل الحدباء, الأرض العصية على الأعداء بأهلها الشجعان النجباء, وأرض شمالنا الحبيب واخواننا الكرد الكرماء, وجنوبنا الشامخ بالعز والعطاء, مرحى ايتها الشمس الحبيبة وانت تشرقين على بلادنا وبلاد الناس, تباركين كل حر أبي, وتحرقين كل عدو متسلط جبان, يريد من الشعوب ان تذل, ومن النفوس ان تندحر وتهان, انتِ الشاهدة في كل زمان ومكان, على ما يفعله الإنسان بأخيه الإنسان, من قهر وتعسف وظلم وبهتان, وانتم ايها المستعمرون, وانتم ايها الحكام الظالمون, والأمراء الفاسدون, ما لكم بعد اليوم من وجود على أرض النور, (فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غُمّةً ثم اقضوا إليَّ ولا تنظرون) (إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذٌ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) ان ربنا معنا في كل حين:

          مَنْ رامَ وصلَ الشمسِ حاكَ خيوطَها

                                                   سبباً  إلى  آمالهِ   وتعلُّقا

وهؤلاء أطفالنا يزرعون في كل ركن من أركان نفوسنا وردة, يحملون أسباب الحياة والنجاح في أفكارهم الغضة, وتطلعات عيونهم البريئة الواثبة الى عهد جديد, يكونون فيه القادة الكُفاة والأبطال الحٌماة, يأخذون من كل مجد بطرف, ويطرحون على جانبٍ دواعي الكسل, وينفضون عن وجوه امهاتهم التعب, ويسعدون ما تبقى من عناصر الحياة الجميلة لأيتام كثروا في بلادنا, وكبرت في احداقهم دموع الحسرة والحرمان, لأب حنون, قتله شذاذ الآفاق من دون جناية, إلا لأنه يريد من وطنه ان يحيا, ومن شعبه ان يعيش, يا فجر الله في الآفاق, كن انت الملاذ لكل حلم به ليلنا يحلو, ونهارنا يسعد, معك سنمضي, معك نتلو حروف أمانينا على صفحات أيام عزوم, في محطات عز منتظرة. ومن اشتطط منها الى خارج طريق النور والصواب, وشق اجماعنا, فله ان يؤوب من ذلك, وان يأتي محملاً بالاعتذار, وان يعلن انتهاءه من هذا, من دون رجعة, أو عودة, وان يعطي ما أخذ, ويرضي الناس, ولا يبخسهم أشياءهم, وعلينا ان نفتح له باباً يدخل منها, ولا نتركه يمضي في غواية, لا تهديه الى طريق الرشد “إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين”, ونضع يداً بيد الى هدف اسمى وغاية أكبر, مما في نفوسنا من تطلعاتٍ, وغايةٍ يتحقق بها اسعاد المجتمع وعبوره الى طريق لا عثار فيها ولا توقفات, يسقط عليها المطر فيغسل أكنافها واعطافها, وتشمخ على جوانبها الاشجار والزهور, تزدهر البركة والعطور, يا تراب هذه الأرض الذي عفّر وجوه المجاهدين شرقاً وغرباً وعلقت ذراته في أهداب الساهرين على دين الله وأهل الله وبلاد الله, ثبّتْ أقدام خيل الفرسان, وأخرجْ لهما الماء والكلأ, ثم كُنْ الحافظ للأجساد الطاهرة, ويا هذه السماء التي ظللت هذه الأرض حتى انجبت اولادها ورعتهم خير رعاية, ويا تلك المقامات والقباب البهية الماجدة التي تلقي على النفوس الأمن والإيمان والطمأنينة وهي تحنو على رجال المبادئ والعقيدة, نستمد منهم الحكمة والعزم والإرادة, ويا نخل بلادي الشامخ في السهول والضفاف, يحكي قصة المجد زهواً وثباتاً وعنفواناً دائماً إذ تلقي النخلة بثمرها للأنبياء وتذهب جوع الفقراء, وتنشر أجمل الأفياء, وطننا الذي كان يؤوي ماضينا التليد, اجدادنا الذين جئنا من أصلابهم نؤمن بالله ونحب بلادنا والناس, يسكن اليوم أحداقنا, ولا نرضى لغريب ان يتحكم فينا, أو يقف في بوابات مقدساتنا, أو يدّعى حمايتنا, فليذهبْ, نحن بحماية أرضنا أقدر وأولى, لتخرج زمر الإلحاد والانفتاح من شوارعنا “لكم دينكم ولي دين” لا نرجو منكم صلاحاً لأمر, نحن أقوى منكم لدفع الشر عن نفوسنا واهلنا, ابقوا هناك, في بلادكم, وسنكون لكم أصدقاء, ما ترضوه لأنفسكم, ارضوه لنا, هل تقبلون ان نخط في رحالكم ونتحكم في إرادتكم, ومصائركم, وننصب سيطرات لكم في عقر داركم, نحن أحرار, فدعونا نعيش في بلادنا كذلك, مثلما أنتم تريدون ان تكونوا أحراراً في بلادكم.. الشمس زالت والضيوف أتموا الصلاة والغداء.. وبدأ جمعهم يتفرق كل ذهب الى مأمنه, والى داره, ومكان عمله, لم يبق إلا قلة من خاصة (حسن) يأتمرون بأمره ويتابعون تطورات ذلك اليوم البهيج:

ــ أمجد (أخ حسن الأكبر): مبارك لك الزواج وبالرفاء والبنين, جميل ان يكون للإنسان زوجان بعيدتان عن بعضهما واحدة في الغيب وأخرى في الجيب!

ــ الشيخ مهدي: من دون زواجات متكررة كيف نقضي على مرض العنوسة الخطر في مجتمعنا والمرأة عندنا تحوز الرجل لها وتقييده بقيدها فيصبح أسيراً عندها لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً, آباؤنا وأجدادنا لا يكتفون بواحدة, أنا أدركت هذه المهمة واليوم تنقصني زوجة رابعة اسعى لها جاهداً!

ــ صلاح (ابن أخ حسن): عمي هذا يوم سعيد لنا بلا شك اتمنى ان تحضر يوم زواجي لأتبارك بك.. كل شيء على ما يرام, سيارة العروس تم تزيينها والشباب للانطلاق حاضرون.

ــ محسن الشحاذ (الأبكم) جالس على طرف السجادة منشغل (بناركيلته), يوزع ابتساماته, ويومئ برأسه من دون ان يحفل به أحد.

*         *          *

ومثلما قطف حسن وهدى الثمرة, هناك عالم من الشباب يكبر محبّةً, إذ بدأ أحمد يزرع كلماته ورداً في حدائق الأمل لحبيبته (سارة) إذ يقول: من فجر عينيها تأتي نسمات المودّة, عذبة نقية طرية, سماء صافية وشلال ماء يتدفق من قمة جبل أخضر يكتسي بالأشجار والورود, صباح مشرق بالفةٍ منبعها القلب, لا يتسلل إليها شوب, تكاد وانت تشعر بها تمسك بدنيا زاهية جميلة, ترى الناس والأشياء تبعث بعطرها الى كل زائر في البستان, تسامح, تصالح وروح من الرضا تكبر مع كل يوم, ملأت كلماتي اشتياقاً لكل ما هو جميل, وخطواتي رغبة في المحاولة والتجريب لصعود سلم الأيام, كنت أشعر انها تنث علىَّ بهجتها, وتضع في يدي يدها الرقيقة الدافئة الحنون, لنطلق الى فضاء أرحب يمتد عمقاً في بيداء تسكنها العصافير واحلام مكدسة فوق وريقات الغصون, أو نمضي بمركب صغير يبحر بنا الى مرافئ جديدة في بحار الأشواق, كانت بي رغبة ان أقول كلاماً يعتادني بعد كل فراق, اجمع كلماتي وأرتب حروفي في دنيا محبتي الوحيدة إلا من أنا ونفسي, احفظ مخارج الحروف وابتسم مع كل كلمة تصلح للقول عند اللقاء. نهضت واقفاً كتمثال مددت يدي الى حبات المطر المتساقطة بين الحين والحين, وهي معبأة برائحة الندى والياسمين, الوقت عصراً, والناس في اعمالهم منشغلون, وهدوء يعم المكان, ثمة جدول صغير ينساب فيه الماء, وعلى رؤوس الأشجار القريبة طيور تحط وتطير, المساء عكس الصباح, هو أكثر وداعة, وأقرب الى مشاعرنا التي ما زالت مخبأة خلف نظرات العيون, ارتأينا ان نعبر الطريق تسابقت خطانا محملة بزهو غريب, لا أريد ان اسبقها بخطوة, حتى لا يكون ذلك غيرة تنشب في اعماق نفسها, وتحيل اللقاء الى مراهنات, كان الصمت يصنع لنا قصوراً من محبة, تعلو فوق كل كلام, مجداً باذخاً, تراه النفس, وعنفواناً بلون النقاء, وتعاهد على التجلي والبقاء, رسمته أناملنا, على صفحات من دفاتر الأيام, التي تمر ونحن فيها حبيبان, بعيدان عن روح الملل, قريبان من طود الأمل, لصنع يوم يشرق من بيت صغير, يا أمسنا الذي كان, ويومنا الذي نتسامى به الآن, وغدنا الرائق الفتان, رفقاً بنا نحن في مملكة لا نريد لها ان تهرم, وفي روضة لا نريد لها ان تذبل, وفي نور لا نريد له ان يخبو, يضمنا الليل بأجنحته الوردية الحالمة, ويمضي معنا النهار, يزرع لنا في كل خطوة زهرة, نشم منها رائحة أزكى من فرحة طفل بلعبة, وأحلى من ينبوع شوق بعد فرقة. ما زالت خطواتنا السائرة فوق طريق خضراء, تحرسها سعفات النخل, وذيول الشمس البنفسجية وهي تتوزع بانتظام حول افق المغيب فتكسب المساء لوناً برتقالياً يقع على قامات البنايات والأشجار, فتتسارع موجات الماء, فرحة جذلى, نحو شواطئ تأتلف مع الناس في صباح ومساء, لا يخلو هذا العمر من سعادة, مثلما نتوقع ان لا يمر من دون مشكلات, لكنها لن تسد الطريق التي مشيناها, ونرجو ان تكون سالكة وأمينة ومشرقة بالأمنيات:

ــ من أين نبدأ يا أحمد؟

ــ من دقة قلبي الأخيرة قبل ان تتكلمي الآن

ــ وما مضى لم يكن في الحسبان؟

ــ صفحة مكتوبة في سفر الزمان.. غير قابلة للضياع والنسيان

ــ ماذا فيها؟

ــ كلمتان اثنتان؟

ــ اسمانا مثلاً؟

ــ لا.. ليس فيها من ذلك؟

ــ اذاً ما هي تلك الكلمتان؟

ــ لا يعرفهما غيري

ــ ولا حتى انا؟

ــ ولا حتى أنتِ

ــ بأية لغةٍ كُتبتا؟

ــ بلغة نفسي التي لا تفهمها إلا نفسي

ــ اقرأ لي تلك الكلمتين.. ممكن؟

ــ اعذريني.. ليس الآن.. عاهدتُ نفسي ان لا أقولهما إلا في وقتهما

ــ هل ذلك الوقت قريب أم بعيد؟

ــ لا أعرف

ــ بدأت أقلق.. منذ أشرق وجهك بين كفّي وفي حنايا ضلوعي.. لم تتأخر ان تطلعني على أمورنا ما خفي منها وما ظهر..

ــ إلا في هذا الموضع

ــ سر هو؟

ــ مفتاح..

ــ مفتاح لمن.؟

ــ لي ولك

ــ أزِلْ عني قلقي يا أحمد

ــ ابقي عليه يا سارة!

ــ حرام عليك..

ــ حرام علىّ إذا أبحت لك بما تريدين!

ــ مرحباً بقلق يجعلك تكتشفين عوالم جديدة أولها نفسكِ!

ــ كيف..؟

ــ يزيد من طاقتك.. ويجعلك تسمعين بأكثر من أذنين. تبصرين بأكثر من عينين.. وتسعين بأكثر من قدمين.. وتمسكين بأكثر من يدين..!

ــ والى متى؟

ــ الى ان يقضي الله أمراً كان مفعولاً

ــ آمنت بالله

ــ غيّري دفة الحديث..

ــ بل.. أكرر عليك السؤال: من أين نبدأ ؟!

ــ حسنٌ..

نبدأ من الوجد الكامن في ذاكرة الأيام.. من زرقة السماء.. من راع ضاع مزماره فبكاه.. من اطلال شامخة في صحراء حب قديم.. من شروق قمر يجري وحيداً في السماء.. من الانتظارات في محطات الرجاء.. من النسغ المتدفق في الأوردة والأغصان.. من فرحة أم غاب عنها وليدها ثم كان اللقاء. من قطرات مطر تنزل على وجه طفلة تلهو بلعبتها, من خجل يكتسح وجه فتاة عذراء. نبدأ من قلم يكتب قصة تحكي ما يكابده الإنسان من عناء.. حتى يظفر بحياة سعيدة وتمضي أمام عينيه المرارات باكية شوهاء.. من دعوات في المساجد تتكرر في الصبح والمساء من ضحكة طفل على صدر أمه, من سفر بعيد في محيط الدنيا, وعودٍ حميد.

نبدأ من غيمة يملؤها برق ورعد, ويزينها قوس قزح, من ضوء النجيمات المتلألئة في كبد السماء, من سعافات النخل الراقصة للريح, من زنبقة خضراء تحتفل بالسعادة كل يوم وسط الماء, نبدأ من اطراف موجة تتلاشى عند الشاطئ وتبدأ من جديد, لنبدأ من منابع الصدق في دموع الفرح, من تلال الحزن الرابضة في نفس يتيم فقد أمه وأباه, وبات يعانق طيف الحنان, من فرحة شحاذ فقير عَدَّ نقوده آخرة النهار فرأى انها تكفي لشراء صبر جديد, لنبدأ من اهداب عينيك وهي ترسم ظلالا حول مقلتيك الجميلتين, كأنهما نجمتان مشرقتان, من جدائلك الحزينة السود, وابتساماتك الرائعة البيض, وكلماتك التي تطفو على بحر الشوق, ولا تغرق مهما تدفقت الريح وحاصرتها الأمواج والشطآن. نبدأ من حيث يدب الشيب في رأس الزمان وينخر الهرم بالأسنان, ويتولى ذاكرتنا شيء من النسيان, ويتفرق الأولاد عنا, ونعود كما بدأنا فرادى تحت رعاية الرحمن…

ــ أحسنت يا أحمد!

ــ أحسن الله إليك.. لكن قولي أنت من أين نبدأ؟!

ــ أما في قولك كفاية؟

ــ أحبُ ان أسمع منك.. سيكون جميلاً عندي كل ما تقولين

ــ حسنٌ

ــ نبدأ من جنح فراشة تجوب الحقول, ولا تحط إلا على الأزهار العاطرة والأثمار الطيبة, من حمامة فقدت حبيبها الغائب فصارت تغني وتبكي لعله يؤوب مع الزمان, نبدأ من بائعٍ جوال وعربته التي تبث أشجى الألحان, من فرحة فتاة (فاتها القطار) وحط على رأسها طائر لم يكن في الحسبان, من وردة تجود بعطرها لكل من يمر بالبستان, من نحلة دؤوب تمنحنا اشهى العسل وتعلمنا حب العمل, وتطرد عن نفوسنا الكسل, نبدأ من صرخة في اعماق وادٍ فتُحرّك من يصحو ويجيب, من طفل يحلم بيوم العيد, من عيون لأمٍ اتعبها الانتظار لولدها الحبيب في جبهة القتال ثم تفتح باب دارها فتجده أمامها كالهلال, نبدأ من طلقات جندي غيور يحمي تراب البلاد, نبدأ من صحوة ضمير مات من سنين وعاد نادماً يقدم ألف توبة واعتذار, من خشوع شيخ وقور يدعو ربه ساهراً في المحراب, من نشوةٍ لأمنياتٍ عزيزة قُطفتْ بعد عناء, من بشرى ملأت الأسماع والأبصار… نبدأ من حيث لا نحب ان تقع, وإذا ما وقعت, نحب الأحزان!

و كنت ابحث عنها في وجوه الفتيات ، وبين خلجات نفسي, شكلها يوحي الي بمجد أزلي يأتي من زمن عشتار سيدة الحب والجمال, الى فينوس, الى سارة الطاهرة زوج إبراهيم الخليل (عليه السلام), آه كم أتعبني هذا الوصف.. هو لم يكن ضائعاً إنما الجمال دائماً نادر وعزيز تماماً مثل الأحجار الكريمة: وجودها قليل, وتداولها محدود, وقيمتها عالية, الجمال أهم من الياقوت والزمرد والذهب, الجمال الإنساني كائن حي يتفاعل معك, والأحجار الكريمة صماء بكماء, (سارة) حبيبتي الجميلة انني ابغي من وراء جمالك الباذخ هذا ان تكون سمعتك طيبة وان تقبلي بي زوجاً.. وعندي استعداد اليوم لأن اتنازل عن باقي الشروط التي كانت تدور في عقلي عن الفتاة التي أروم الارتباط بها.. إياك ان تصدميني فتقولي لي لست على استعداد للزواج منك, انتَ لست أهلاً لي!.. مثلاً.. أو ملامح وجهكَ لست من النوع التي أحب.. أو تضعي شروطاً غير قادر أنا على تحقيقها.. لا.. قولي ما شئت من شروط.. ان كانت رُسُلك للقبول بي.. فلدي قابلية على الصعود للقمر من أجلك.. وسأستدين ما تطلبين من أموال.. وافتح لك منزلاً جديداً واشتري لك سيارة.. كوني معي ودُودة.. ضعي الشروط المادية جانباً. وخذي بدلها قلبي.. أريد منك ان تكوني الوردة التي لا تذبل في روضة حياتي اشم عطرها وأسعد.. أريد منك ان تكوني الأمل الوضاء الذي أصبو إليه وانطلق في الحياة دونما ملل أو كلل.. أريد منك ان تكوني دفتري الذي أكتب على صفحاته أحلى الكلمات, أريد منك أن تكوني رفيقة دربي التي لا أمل من صحبتها, ولا  انظر الى غيرها في الناس, ولا تفتر مشاعري تجاهها, اريد منك ان تكوني الدواء الشافي لجروح الزمن, أريد منك ان تكوني الغيمة الماطرة, تغسل وجهي ويدي ودربي وتنعش خطانا في الطريق, أريد ان تكوني حلمي الذي يتجدد, في كل ليلة بعشٍ هانئ في  فنائه تزقزق العصافير. كوني معي على الدرب شمساً شاهدة على فعل كل خير كما شهدتْ شمس أصحاب الكهف عليهم “وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله”, شهورٌ قليلة وأقف أمام محراب عينيك الوادعتين وجمالك القادم من فجر مشرق, سارة حلمي الذي كان, وبوابة سعادتي الآتية, سأحب ما تحبين وأخذ بكفك الصغيرة الى مرافئ البحار البعيدة, نسافر على ظهر موجة, تأخذنا الى شواطئ غريبة نكتشف فيها عوالم جديدة, ولأننا غريبان على تلك الديار سيعطوننا أهلها الهدايا ويفرحون بنا بينهم, وسأسأل عن عرّاف في تلك المدينة النائية أو عن كاهن, شيخ وقور كريم, يعرف ما لانعرف نحن عن أسرار الحب والحياة والأيام القادمة, نجلس قبالته, القلق يساورنا, ونفحات قلبينا تكبر, أقول له يا عم: أنا أحمد وهذه سارة سنتزوج قريباً في بيت صغير هناك في بلادنا ونعمل فرحاً يرقص فيه أهلنا, ونصنع طعاماً يأكل منه الحاضر والباد, يا عم قل لنا كلمة تسعدنا وحكمة نؤمن فيها, ونصيحة نأخذ بها.. سيضحك هذا الرجل الكريم وينظر إلينا بمحبة.. ثم يطلب منا الجلوس.. ينثر علينا شيئاً من اوراده الملونة.. وهي تعج بعطر فريد, ويشعل شمعة.. ويحرق بخوراً.. ويدعو.. بكلام يتوجه به الى السماء يأخذ أسمينا في ورقة صغيرة.. ويحرقهما في ضوء الشمعة ثم يضع الرماد في حرز صغير ينفث عليه ثلاثا ويقول لنا بلطف: هيا.. اسمعا: انتما في الحب شريكان.. لا ينتهي في قلبيكما أو يجف ما كتب الله لكما من حياة, هذه الكلمة السعيدة التي طلبتماها, والحكمة التي أردتما ان تؤمنا بها: لا تأمنا الزمان, والنصحية التي أريد ان تأخذا بها عجّلا ببناء الأسرة, فإنتمان خارجها طائران صغيران تتخطفكما الأشياء والأهواء, وستكونان أمنيين في البيت فللبيت رب يحميه, سنخرج من ذلك الرجل الطيب وصومعته الصغيرة العائمة على حدود أمواج بحر غريب, ستضحكين وترددين كلامه باستغراب ثم تقفزين فجأة كأرنبة صغيرة, وتسحبين يدي: أحمد! أحذر ان يكون هذا الرجل ساحراً.. (ولا يفلح الساحر حيث أتى), أو منجماً وقد (كذب المنجمون ولو صدقوا).. قلت هو ليس بساحر وإلا لأخذ أجراً عمّا قدّم لنا إنه جِدِّ حنون.. لكل شباب تلك القرية, امتلك من خبرة الحياة وفلسفتها شيئاً كثيراً.. ويريد أن يفيد منها الناس.. وهو ليس من المنجمين ايضاً بقدر ما هو خبير.. عفواً.. مازلتُ على فراشي.. أشعر بنعاسٍ لذيذ.. التفتُ يمنة ويسرة فلا أجد بحراً ولا شجراً, وسارة التي لم يكن لها وجود. سارة ايتها الحمامة المغردة في روضة أحلامي, يا غصن الزيتون المثقل بالأثمار, يا صبوتي وملاذي الذي تؤوي إليه الأشواق, سارة نسمة تبعث النشوة في نفسي, واغنيتي التي انشدها في الفرج والضيق, يا وردة طاعنة بالنضارة والشذى, يا معدن الطيب وقيثارة الأمل, صوتك ينساب مع الريح, وإطلالة وجهك هناء وبشارة, ما كنت أحفل بيوم منذ عرفتك إلا وتكوني أنت فيه ساعاته وبركاته, لا شيء قادماً من عمري سوى خطواتك الطارقة على قارعة الطريق, الى فنن في أعالي الشجر, القمر يحرسك في الليل, يسهر على راحتيك, والأنجم البراقة تحيط بك, ترصع هامتك بضوئها الفضي, وعالم من الدهشة والود والرضا, يتسامى من روحك الشفافة. أراكِ طوقاً جميلاً يفتح لي سُبُل الانطلاق في ربوع البهجة, أراكِ كوناً من العنفوان, وصحوة لا تنتهي عند كل ليلة, يقظة لا تنام, وثقة لا تخيب, تأتين لي على أجنحة الأيام, في امنيات جديدة, تبتكر لنا يوماً أحلى, وتفتح نافذة على قابل الأزمان, حبك يلغي مسافة البعد, يكسر عقارب الساعات, ودِفؤه يذيب الثلج في القمم الشاهقات, ينزل منها الماء شلالات, حبك يسكن في أزهار الياسمين, في ربوع لا تعود لأحد, في سماء متوحدة مع الكواكب والشهب, حبك يسكن شوقاً في عيوني الساهرات, لا خطيئة في حبك ايتها الأميرة ولا ندم, عرشك تبنيه لك البلابل من تغريداتها في الصباح, ومن هديل الحمائم الوادعة في المساءات, يا لوعتي التي لا أرجو لها خلاصاً, وخيبات عمري الجميل, وحلاوة تعبي المستديم, سأجي إليك مع الصدى, مع هطول الندى, مع تجلي الربيع للنسمات, مع ترانيم الذكرى, وساعة اللقيا, مع رنة الوتر الذي يصب النغمة في النفس الحيرى, للبلاد التي انجبتك ألف قبلة, وللأسرة التي رعتك ألف تحية مباركة طيبة, ولك ألف كلمة معطرة بأريج الريحان, حروفها اغنية للحنان, لن نخلف معك وعداً, ولن ننكث عهداً, معك سأبقى, ولأجلك أحيا.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى