قصة :عندما كنت حمارا نهضت مبكّرا على غير العادة … مع أول نور الفجر … شعرت بثقل كبير في رأسي … وكأن برأسي حجر .. جسمي كله متعب ومنهك… أشعر بالجفاف في حلقي ورغم ذلك لم أكن ضمآنا … لم أشعر في حياتي بمثل هذه الحالة الغريبة … اعتقدت أن الأمر مجرد مرض أو تعب غريب… تلمّست وجهي فلم أشعر بشيء … كانت أطرافي كأنها حواف حمار أو حصان… كانت قاسية جدا … رحت أحبو إلى أن وصلت أمام المرآة … تأملتني فوجدت وجها غير وجهي … وجدتني أنا غير أنا … كان الأمر مرعبا لدرجة الإنهيار … رحت أصرخ فوجدتني أنهق مثل حمار… كانت أذناي طويلتين جدا أطول من هوائي الإرسال .. أما وجهي فمدبب إلى الأمام ينتهي بمنخارين كبيرين كأنهما فتحتي كهف… الشعر يكسو وجهي وكل جسدي … لم أصدق نفسي … فهذا ليس وجهي بل وجه حمار … إن كان هذا الذي أراه في المرآة حمار… فمن تراه أكون أنا …وإن كان هو أنا فمن تراه يكون الحمار؟.. أصابني الدوار … أصابني الذهول… حاولت أن أصرخ فكتمت صراخي لأنه سيكون نهيقا مزعجا… تسللت من غرفتي نحو الشرفة وقفزت … كنت أعتقد أني سأموت عندما قفزت من ذلك العلو لكن لم يحدث لي شيء … ورحت أهيم على وجهي لا أعرف ما أفعل في هذه المصيبة التي حلت بي … كنت أتوارى عن المارة الذي كانوا ينظرون لي وقد خفت أن يراني أحد معارفي في شكلي الجديد وعندما أفقت من الصدمة علمت أن لا أحد سيعرف شخصيتي لأننى اليوم مجرد حمار بعقل وتفكير بشري.
كانت أمعائي تنهق هي الأخرى … تصرخ طالبة بعض الطعام … كنت أشعر بجوع شديد… وأمعاء البطن غير آبهة بالكارثة التي حلت بي … حاولت أن أبقى دون أكل حتى الموت … فلا أريدني حمارا … لما لم أتحول إلى أسد هسور أو صقر جارح أو حتى عصفور جميل أو أرنب جبان؟ لكن حمار !!!…. ما أصعب أن تكون حمارا
… رغم حموريتي لا زلت أفكر ولا زال عقلي يعمل … وما أعجب أن يكون لك عقل في رأس حمار…
بطني تصرخ بعنف … تقيم ثورة في أحشائي وأنا أحاول الانتحار جوعا ولكن ما ذنب الحمار الذي أخذ عقلي ؟ ولا أريد أن أتفلسف حتى لا أموت جوعا… طلع النهار وها أنا أسير هائما على وجهي … ناكسا رأسي إلى الأرض مثل كل البشر الذين يمرون بي ناكسين وجوههم إلى الأرض … لا أحد يهتم إلى الآخر .. كنت مثلهم قبل أن أتحول إلى حمار أو يتحول الحمار إلى أنا … كنت مثل الحمار أسير في الشوارع … معطل الفكر … أسبح في الفراغ … أعود في المساء لأنام مثل الحمير والبغال … لا أعتقد أن الأمر يختلف كثيرا .. فقد كنت حمارا من قبل مثل باقي الحمير السائرة من حولي … ماالفرق أن تكون حمارا أو بشرا في وطن حرية التنفس فيه يحسبها عليك القانون ؟… ولا زال الجوع الحميري ينغص علي … دائما جائع … عندما كنت بشر … أبيت على الطوى … لا آكل إلا النزر القليل من البقول والخبز الجاف … وها أنا اليوم في حموريتي جائع … وانتابتني رغبة في أكل العشب فقد اشتهيته طريا … مزينا ببعض الأزهار والبرسيم… رغبتي غريبة … كنت من قبل أشتهي لحما وحساء دافئا … لكنني اليوم حمار … وللحمير رغبات خاصة … وهجمت على عشب الحديقة العمومية ورحت أتفنن في القضم والهضم… كما كنت أتفنن في أيامي الخوالي عندما أقضم حلوى العيد … كان عشبا رائعا …فاجأني الحارس … حاولت أن أهرب … لكنني تذكرت أنني أفكر ولي عقل مثل البشر …حاول نهري فبقيت غير آبه به … ضربني بعصا بيده فلم أشعر بها … ولو كنت بشرا لكسرت لي ذراعا أو ساقا ….حتى وإن كنت اليوم حمارا فسأدافع عن نفسي … وبصكة واحدة على وجهه …. طرحته أرضا …وانتابتني هستيريا من الرعب والخوف … الأمر سيصل إلى العدالة والمحاكمة … ومحاضر الشرطة … وغرامة وسجن …. لكن الرعب تحول فجأة إلى ضحك … وبدلا من أسمع ضحكا صدر مني نهيقا متواصلا … فاليوم أنا حمار ومن ذا الذي يحاسب حمارا فلا القانون ولا الأعراف تمنعني عن ممارسة حريتي؟
ملأت بطني من تلك الأعشاب الشهية … وملأت المكان روثا … ورحلت … أجوب المدينة هائما … حتى وجدتني قبالة مجلس الشعب … تملكني الغيظ وأنا أرى تلك السيارات الفاخرة المصطفة أمام مدخل مجلس الشعب … وانتابتني نوبة من الجنون … عندما تذكرت أن هؤلا ء يغتنون من عرقنا … ودمنا .. ندفع بدلهم الرواتب وفواتير الكهرباء والغاز … نقطّع من لحوم أجسادنا ليعيشوا هم عيشة السلاطين ولا يفعلون لنا شيئا … سوى التعطر بالعطور الباريسية … والتزين بالأطقم الايطالية … ورحت أصك سياراتهم بأطرافي … ولم أترك أحدا يتقدم لي … حتى جعلتها حطاما … كنت فخورا بما فعلت … سعيدا جدا … وبعدها أطلقت قوائمي للريح ولم يتعقبني أحد … لا شرطي ولا حرس خاص … وكم شعرت بالفخر وأنا أرى البسطاء من الناس يصفقون لي ويهتفون ببطولاتي … فقد فعلت ما كان يتمناه كل واحد منهم ولطالما تمنيت ذلك ورحت أضحك وأضحك لكن الضحكات تصدر نهيقا نهيقا متواصلا….
لا أعرف كيف وجدتني في حديقة كبيرة تتوسط مبنى يشبه القصور في شكله … وكأني شاهدته من قبل … لكن لم أعرف أين ومتى شاهدت ذلك وبالتأكيد ليس مسكني ولن يكون…. وبسرعة البرق رحت أنشط ذاكرتي … فتذكرت مبنى رئاسة الوزراء … ورحت أجوب الحديقة بطولها وعرضها …. ولم يعترض سبيلي … عارض … وقد كنت من قبل أحاول أن أستنجد بهذا المجلس الذي يقولون أنه يخدم الشعب والأمة … حاولت مرارا الدخول وطرح مشكلتي على أي وزير كي يرفع عني الغبن … كي أنال حريتي … كي يعطوني حقي في الحياة … كي أنال كرامتي … كي أجد وظيفة تستر فاقتي … لكنهم لا يوظفون إلا الشقراوات من بناتهم وخليلاتهم وخليلات أولادهم وخلان نسائهم …. كنت كلما قصدتهم يقابلني حراسهم بالركل والصفع وها أنا اليوم أجوب في وسطهم حرا طليقا … ما أروع عالم الحمورية عندما تكون فيه حرا!… لم يكن أحد موجودا بالمبني … كل العاملين فيه … والوزراء يغطون في نوم عميق … في بيوتهم وقصورهم العظيمة … يستيقظون بعد الظهر وبعد السهرات الطوال … دخلت قاعة الاجتماعات التي تضم الوزراء فوجدتها خالية على عروشها … رحت أتأمل ستائرها المخملية … تلك المقاعد الطرية … وأطباق الفاكهة المصطفة … والروائح الطيارة من ياسمين وعطور … كان الأمر أشبه بأساطير ألف ليلة وليلة … شعرت بالتعب … فدخلت تحت طاولة الاجتماعات الممتدة على مد البصر وغصت في نوم عميق … ولا أعرف كم من الوقت نمت … لكني استيقظت على جلبة وضوضاء وضحكات فعلمت أن اجتماعا للوزراء سيعقد بعدما شبع أصحاب المعالي نوما … استرقت السمع من تحت الطاولة … فلم أسمع إلا كلاما عن الصفقات المبرمة والأموال المودعة في البنوك الخارجية … وبين مرة وأخرى أميز همس وزير عن آخر وهو يحكي لصاحبه عن ليلته الحمراء التي قضاها مع تلك المغنية أو تلك الراقصة … ويرد عليه الآخر هامسا : أنت بخيل جدا لما لم تصحبني معك كما صحبتك معي ذات مرة عند المذيعة الفلانية ؟… والراقصة فلانة …ووو……… كان الكلام أكثر بهيمية … رغبات … ضحكات ماجنة … صفقات … سهر … أبخرة من دخان حتى تحول المكان إلى ماخور مليء بالدخان… كل شيء حضر إلا مشاكل البشر … ولم أتمالك نفسي وخرجت من مرقدي … ورحت أصرخ والصراخ يصدر نهيقا … أيها العملاء … أيها الجبناء … يا تجار الشرف … يا أولاد الـ……………..ورحت أصك هذا على وجهه وذاك على ذراعه … وكثر اللغط والصراخ … وامتزج معهم نهيقي … في كل مرة أصيب فيها واحدا من هؤلاء المستبهمين أشعر بالفخر … وتغمرني رغبة عارمة في النهيق … ولم أترك شيئا لم أصبه … الجدران … التحف … الهواتف … الفاكسات … الطاولات … ملأت كل شيء خرابا وروثا … الزجاج يتطاير من كل الجهات … وفررت بجلدي هاربا متخذا ممرا نحو الحديقة … ومن الحديقة قفزت خارجا تاركا المكان وكأنه ساحة حرب … ورحت أركض وأركض… في الشارع … أشعر بنشوة الانتصار … بعد انكسار طويل … أركض وأركض مثل حصان … وليس حما ر… وأخذت أصرخ فرحا وسعادة لكن هذه المرة لم يكن الصوت نهيقا بل كان صوتا آدميا وكان صراخي أنا … واكتشفت أنني أنا … فقد تحولت إلى بشر سوي …. كما كنت من قبل … الناس في الشوارع يظنون بي الظنون … ويعتقدون أن بي مس من الجن … فشعرت بالحرج وأطبقت صمتا وأطفقت عائدا من حيث أتيت …
في غرفتي المتواضعة استلقيت على ظهري أتفرج على الأخبار التي استهلت باجتماع للوزراء … ويا فرحتي ويا بهجتي وأنا أرى وزير الاقتصاد يلف ذراعه في الجبس … وذاك يلف رأسه بالكمادات … وكثيرا منهم عيونهم زرقاء … سعادة غامرة وأنا أرى نشوة انتصاري في وجوههم وأجسادهم … سعادة طغت على الحرمان الذي عشته في فقر مدقع … سعادة طغت على البطالة التي حولت إليها رغما عني رغم شهادتي العالية وكفاءتي المشهود لها وأنا أعرف أن أغلب الوزراء لا شهادة لهم سوى شهادة الزور والبهتان والتجارة بالعرض والدين والشرف…
ليلتي تلك كانت أسعد الليالي … أول مرة أكون فيها حرا … أقول فيها ما شئت … أصفع وأركل وأضرب من شئت … وأخاطب الأسياد باستعلا ء … أشتمهم بلا خوف أو وجل … وتمنيت أن أجدني حمارا غدا … أفقت مبكرا مثل صباح البارحة … وأطفقت خارجا نحو الشارع … لم تكن لي رغبة في الأكل ولا في اشتهاء العشب … كانت لي رغبة جامحة في ممارسة حريتي والمطالبة بحقوقي …. وقفت أمام قصر النواب … رحت أصرخ بأعلى صوتي : أيها السفلة يا من تأكلون من لحومنا … يا من شيدتم من جماجمنا وأشلائنا قصورا عظيمة … وتحصنتم في بروج عالية … يا من نهبتم أحلامنا وسرقتم حريتنا وجعلتمونا عبيدا في وطننا باسم القانون … اللعنة عليكم جميعا … وأخذت أضرب سياراتهم الفاخرة بأقدامي … أركلها بعنف … بحقد … أحطم زجاجها بكل قوة … ولم أشعر بنفسي إلا وأنا مكبل بالأصفاد مرمي في قاعة المحكمة أمام القاضي … راح يطرح علي الأسئلة وأنا غارق في الخيال … خارج من المكان والزمان …. أتذكر يوما جميلا كنت فيه حمارا حرا … وأفقت على آخر جملة قالها لي … عندما طلب مني أن أقول كلمة أخيرة … لم أفكر … ولم أخمن في الأمر … وصرخت عاليا … أتمنى أن أكون حمارا في وطن مات فيه البشر وضمير البشر وفكر البشر وعقل البشر …. نظر إلى من أعلى رأسي إلى أخمص القدمين وصرخ صرخة ترددت في أركان المحكمة … خذوه إلى السجن
اترك تعليق