ربما هي فرصة منحني إياها القدر لأتعرف إلى “شروق” بطلة ديوان “أميرة الوجد” للشاعر فراس حج محمد من نابلس – فلسطين، فكأن لقائي بشخصيتها الموصوفة بدقة على مدار ثمان وعشرين قصيدة ومائة من الخماسيات هو بمثابة استعادة لثقة بإنسانية كنت ظننتها غادرت عالمنا البتة، فنجح الشاعر في استرجاع كل ذاك الكم من المشاعر التي افتقدناها بفعل الحياة المعاصرة وضغوطاتها المادية المقلقة للروح، المميتة للجسد في آن.
تقرأ في صفحات الديوان المائة وسبع وتسعين صفحة من القطع المتوسط شعراً مفعماً بالحياة، نابضاً بالحب الإنساني الشفيف، فتتنقل بين جمال الصورة، وحياة المشهد، إلى في فضاء التخيل، فـــ “شروق”، إشراقة زلزلت كيان الشاعر فألهمته أجمل تغريد وأعذب لحن، فينتابك شعور بالغبطة والسرور لتنحني إكبارا وإجلالا لذاك الشعور الإنساني المحض.
ففي قصيدة بعنوان “صدق الحبيب” يذكر اسم أميرة الوجد صريحاً “شروق” فلا مجال لأن تكون أخرى البتة، فهي إشراقة في حياته، وهي الغرس والنبت وكل ما يبعث على الحياة، فيقول ص(42):
أشـرق شـروقا بـاذخا حـلق لأعـلى ما تريد
نبت المنى في روحنا والـغرس ريـان القدود
وفي قصيدة “من غيرك” عتاب ولوم لـ”شروق” على كل ما جنت عليه عبر النت والمحمول. هنا لا يخلو أسلوب الشاعر من الحداثة ومواكبة العصر فــ “النت” و”الفيس بوك ” قلب حياتنا رأسا على عقب ، فيقول معاتبا لها/ ص(54):
من أشقى القلب وأتعبه
من أردى النفس وأتعبها …
من رتب أن نهوى المجهول؟
ونعد الحرف على الكشكول
ونشنف آذان (النت)
ونسطر آلام المحمول؟
من قال “صباح الخير”
و”نهارك فل”
من قال “اليوم جميل فَلْتفرح”
ولتبعد عنك ظنون الشر
من أخبرني عبر (التشات):
“الموت يخطف أحبابي”
“ويعيد صياغة أشيائي”؟
من عاد إلى بيت الأحلام
يشكو الوحدة والغربة
من عاد إلى (كيبورد) الحاسوب
يضغط بين (الأيقونات)
ليضيف الاسم إلى الأسماء
لأكون صديقا في (الفيس بوك)
من قرر أن يحذف طيفي
فالشاعر يأخذنا طواعية وبسلاسة لنتابع عتابه لــــ “شروق ” من ..؟ ومن ..؟ ومن..؟ كأنه يجلد مشاعره لتواطئها مع رسائل (التشات) والمحمول.
وفي قصيدة أخرى بعنوان “عودي إلي” يطالب (شروق) بأن تردّ إليه روحه وعمره فلا حياة بدونها على الإطلاق. يقول مخاطباً / ص (59):
ردي عليّ عمري كله أنت الحياة بعذبها الرقراق
وفي قصيدة أخرى بعنوان “مات من شوقه إليّه” يقول/ ص(62):
إن أتـاك الـنعي يـوما أبـلـغـيـهـم بـالـبـقـية
مـات يـرجوني بـحب مات من شوق إليّه!!
يدفعك بكل ما أؤتيت من عزم لتبحث عن صفات شروق أكثر؛ فهي مبعث الحياة، ودفقها في شرايين الشاعر.
وفي معلقة الذكرى والأمل بمناسبة ذكرى ميلاد “أميرة الوجد” لوّن بريشة فنان حركة خيلاء لأميرته تسحر اللب، فحرّك معها الأرض والنجوم والهلال فتخالها ملاكا يكسر الضياءَ بهاؤه فيقول مصوراً حركتها/ ص (74):
إذا درجتْ تـهـز الأرض لـيـناً! وتـرتجف الـنجوم مـع الـهلال
أنادي الوهم والأوهام تتـرى يموت الصوت من وجعي يخيب
ســألت الله يـهـديـها بــوصـل فـحالي قـاتــل، دمـــــعي سـكيب
ويعود ثانية لتكنولوجيا العصر وتأثيرها الواضح في بث الشجن والحزن لعدم وصلها حتى برسالة عبر الإيميل ففي قصيدة بعنوان “الحروف الأربعة ” يخاطبها متوسلاً وصلاً بإيميل يشكو الخواء / ص (92- 93):
ذريني أفتش عن خبايا الروح
في رسم الحروف القابعات
نجوما في فضاء البوح والحرمان
يا سيلا من الردة ….
سنا (الإيميل) يشرق في الحروف الأربعة:
– شيء كما الغابات مملوء شذا الرقة
– رمت بالعطر عبر العالم المحدود
– من وهم الحاسب الآليّ مجدول من الدقة
– كورد وارد في علبة تشكو الخواء
إذا لم تحتو الطيف المرابي
الشاكل الآمال ممزوج الهوى ردة
– قلق على قمر كما قدّ القرار قميص
يوسف واجتاح المدى برده.
أما الخماسيات ففيها شأن آخر، ينتقل الشاعر مختالاً بين صباحات ومساءات وخيالات وصور وأحداث لا يتوانى في الإمعان بإبهارك في صور بهية اخترت منها على سبيل المثال لا الحصر ما أدهشني حقاً. ففي الخماسية رقم (24) يعود ثانية لـ (شروق) صراحة ويطالبها ببث عطر وأريج يفوق المدى المتداني، فيقول/ ص(121):
وفي الخماسية (87) يود لو تبقي على إهمالها له فيغدو شهيد عشق معلن، ويوثق بالعدد (خمسون ألف) رسالة، ففي عظم الرقم مدعاة لشهادة حق من قلة الرد الشافي لجرح عميق، فيقول/ ص(184):
ظلي على الإهمال، خير وسيلة فـهي الــطريقة للشهيد العاشق
وتســلقي حجب الغيوم وسارقي سمعي وعيني يا لقلبي الخافق
خـمـسون ألـف رسـالة أرسـلتها يا لـيـتـها ظـفـرت بـرد حـاذقِ
أما في الخماسية (92) فيدعو روحه للراحة والسكون والدعة فلا شيء في الأفق إلا الأوجاع تتداعى كموج بحر بمد وجزر ونار تشتعل بنار الشؤم، صورتان غاية في رسم القلق الذي يعانيه جراء إهمال متعمد، فيقول/ ص(189):
يا روح نامي فلا يهديك مضطهد مـوج عـلى رسـله يرميه ينتعل
هـذي جـوانحنا الآهـات تشعـلها تـهب شـارحة في الأفــق تنتقل
تـهذي بـرغبتها فـي كل سابـلة والذات منها بنار الشؤم تشتعل
أما في الخماسية (97) فيعاود الإصرار على هواها مهما باعدت بينهما صنوف الحياة، فلن يسأم من حب تعاظم في قلبه حتى جن الفؤاد به وابتلي وأضحى سره وعيده والهوى وكل أصل في حياته ومستقبله فيقول/ ص(194):
هي مهجتي سري وعيدي والهوى هـي أغـنيات الـنفس في لحن حلا
هـي كـل مـا غنيت في ليل الهوى هـي كـل صـبح في شروق قد علا
هــي كــل مــا بــاح الـفـؤاد بـسره هـي دفـقة الـشريان في حرف تلا
ينهي “شاعر الوجد” – كما يحلو لي أن أسميه الآن، وقد التهمت كل بيت شعر له بشغف – ديوانه وكأنه يعدك بالمزيد، فتراه يفيض عذوبة وشجناً؛ كأنه بلا قصد منه يعدك بالمزيد، ويوجد في نفسك رغبة في جديد يبشرك فيها بوصل يرتجيه ليشفي شغفه للحياة.
فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون