ط
كتاب همسة

فكر مختلف في يوسفيات الشاعر العراقي : واثق الجلبي ..

بقلم

داود السلمان

الاطار العام للنّص:

يعطينا النّص فرضيات، هي انعكاسات للواقع (الواقع لأي زمان ومكان، لا يُحدد بزمن معيّن) هو – أي النص- وإن كان من بنات أفكار الشاعر، وما رسمه من خيال ابداعه، لكنه بوح لمعاناة، تخص الشاعر ذاتيًا، وعام يشمل معظم الناس، كون الشاعر هو مترجم حقيقي لهذه المشاعر المتدفقة، سواء كانت ايجابية، أم سلبية؛ (ايجابية كحالة فرح، سرور، انتصار على الذات، حصول منفعة – وسلبية كحصول ضنك من ظلم وتعاسة الحياة – الوجود أو الواقع المرير الذي يعيشه انسان اليوم، جرّاء ما يمرّ به هذا الانسان بحسب تغيرات الزمكان). ونستطيع القول بأن الشاعر هو الأكثر ايلامًا من سواه، واكثر احساسًا بالفوادح والفواجع، لأنّ الشاعر يمتلك احساسًا مرهفًا، اكثر من الفنان (الرسام) الفنان (الممثل) والكاتب – القاص والروائي، وغير ذلك.

الشاعر ترجم ذلك، أو قُل عبّر عنه بـ “النار” والنار قد ترمز الى (الجحيم، العذاب، الهجر، الفراق، البِعاد…الخ) إذ يستطيع الانسان أن يُعبّر عن كلّ هذه المفردات بكلمة واحدة: (النار). وهذا قمة الابداع لدى المُبدع الفطن، وهو في ذات الوقت، اختزال، بل استطيع أن اسميه: قطع شوط طويل في ساحة الفكر، بهدف الوصول الى غاية مرجوة، نروم من خلالها ايصال فكرة غير واضحة المعالم، أو هي صعبة المنال، الشاعر فقط هو الذي يرى ملامحها من بعيد.

يقول:

لي ذكرياتُ النارِ تسرقني من ألفها للآن لم أفقِ

حسواً كأن الماء يشربني في بردهِ شيءٌ من الغرقِ

إذا كانت كلّ هذه المحن تمرّ على الشاعر، رقيق الاحساس، فهذا تحصيل حاصل، إنه لا يستطيع أن يفوق من جرّاء الصّدمة هذه، بعدها ستحصل تضحيات جسام، وحده الذي يدفع ثمنها، أي الشاعر، وبالتالي لابد أن يتحمّل الوزر ومغبة الأمر، كونه حساس، وغيره قد ينهار في بداية الصدمة.

ذهنية الوصف:

علاوة على كلّ مما سبق، اعطى الشاعر وصفّا دقيقًا، أراد من خلاله، أن يُعطي صورة واضحة – متكاملة لشدة الخَطُب، وصعوبة الموقف، الذي يمرّ به، أو الذي رءاه بأُم عينه، أو استشفه عبر احساسه، ففلسفه بلمحة وجودية كيرجاردية (نسبة الى الفيلسوف الوجودي كيجارد) إنسانية، كأنّه ترجم الأشياء ببُعد هذا الوجود، البُعد الحقيقي لصورة الاشياء هذه، لا بصورة ميتافيزيقية ماورائية، تُأخر نتائجها بعد حين، أي لكشف الغطاء عن صورة الاشياء التي لا نراها شاخصة أمامنا.

ونستطيع أن نلتمس بهذا الوصف، ايصال الصورة الشعرية متكاملة خالية من الرتوش، أي كما يصور المصوّر الفوتوغرافي، لمنظر طبيعي، أو لبناء شاهق، أو لغيمة رباب. وهنا يظهر الحسّ الابداعي لدى الشاعر، فالصورة جاءت غير مجسّمة أو “فوتوشوب” بقدر ما هي جاءت، كما التقطها المصور، صورة حقيقية، واضحة نقية مدهشة.

يقول:

أعطيتهُ كفي فأغرقني فتضاحكتْ في موتهِ حدقي

عصفتهُ أسربة مُهلهلة دانتْ لسحرِ حكايةِ الورقِ

ما بين اصبعها حكايتها أن يستقيلَ لبُعدها ودقي

لحظاتنا والألف في نزقِ تربو على الدهرين في نزقِ

منحى روحي:

دائمًا ما أجد كثيرًا من الشعراء، ينحون في قصائدهم منحى روحي تصوفي (بعضهم دون أن يدرك ذلك، بل يشطح به الخيال الشعري، فحسب) فيشعر إنّه ينظر الى فكره الذي تدور حوله الاشياء

، لا الأشياء هي التي تدور حول فكره – كما عبّر ايمانويل كانت الفيلسوف الالماني في كتابه “نقد العقل المحض” –. وهي نظرة تصوفية، كأنّه جعل الله شاهدًا على تلك الأحداث التي جرت. فهاجت مكامن الألم لديه، بصفته شاعر، يتألم بأبسط الاشياء أو المسميات حيث تتحرك بوصلة الألم كخفة يد.

عينٌ تريدُ الله مُسبلة تُعطيهِ من شجوٍ بها دَفقِ

للشاعرِ المحزون أغنية في عودها لحنَانِ من قلقِ

وهذا يذكرني بما قلته في كتابي “الله في فكر عمر الخيام” إذ قلت إن الخيام، وعلى اعتباره متصوف، كانت جُل قصائده الصوفية يخاطب فيها الله مباشرة ويذكر الخمر، ويعني الذات الإلهية، وهو الأكثر وضوحًا من بقية الشعراء.

قلت في كتابي:” إن الخمر التي يشير اليها الخيام، والتي اسماها في هذا المقطع الطلى، هو لا يعتقد الخمر الدنيا- كما نوهنا سلفا- والتي تنتهي خلال سويعات وربما لحظات، بقدر ما يقصد بها الخمرة الالهية، أي الذوبان في العبودية والسكر في معراج الوصول الى الذات الالهية، ويتم بالنشوة وفقدان الالم الدنيوي للشعور باللذة الحقيقية، هذه اللذة غير المنقطعة وليس لها حدود، ولا تنفد كما تنفد خمرة الدنيا، ويفقد شاربها عبق بهجتها كأن شيئا لم يكن”.

فهذا المنحى الذي نحاه الشاعر واثق الجلبي كان على دراية به، لا جاء على حين غرة، كما اعتقد بل قد اجزم.

نهاية النّص:

النص، وإن كان قصيرا، إلّا الصورة الشعرية جاءت متكاملة، غير منقوصة، كأنك تشاهد لقطة سينمائية لمشهد يعبر عن حالة معينة، كأن تشاهد رجل وامرأة، سيتبادر الى ذهنك أنهما حبيبين.

النهاية كانت موفقة بصورتها التي رسم ملامحها الشاعر؛ ولو اراد أن يضيف لها بعض الأبيات، فتحما سيضع فاصلا، ثم يبدأ ببناء هيكلية جديدة تعزز من البناء العمودي، بحيث لا يخلُّ بالبُعد الهندسي لخارطة القصيدة، إذ لو اكتفيت بقراءة الجزء الأول من القصيدة، ستقنع ذاتيًا.

يقول الشاعر:

كم فيك يا دنيا مُشاكسة أن تكسري جُنحا فتنسحقي

أو تقتلي طفلا فيحمله نعشٌ ليسقي بعضَ محترقِ

أفٍ لك من ثابتٍ جَلدٍ أرداكِ في ضيقٍ من الطرقِ

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى