كتب / عبد الرازق الشاعر
حين تقف وسط المعركة، لتراقب بعين باردة ما يجري حولك دون أن تفعل أي شيء لتحول دون المزيد من سفك الأحزان، فأنت لست محايدا أبدا، ولو كنت تملك شارة أممية. وإن لم تثر فيك شظايا الأجساد وصرخات اليائسين في محيط الرعب أي انفعال لمجرد أنك تركب دبابة مصفحة، فاعلم أن الصدأ الذي يغطي حواف المقعد الذي يحتويك قد أصاب شغاف قلبك. واعلم أنك لن تخرج من الحرب سالما، حتى وإن لم تصب برصاصة غادرة من أخ كان لك أو عدو كان دوما عليك.
وفي الحرب، حين تنقلب كل السيوف ضدك، وترى جفني صديق الأمس تضيقان حول مؤخرة البندقية، وأصابعه التي لطالما لوحت لك عند اللقاء وعند الوداع تلتف في نزق حول الزناد، لتصوب ماسورة بندقية صدأة نحو جمجمتك، فاعلم أن وقت الفعل قد حان، وأنك لن تخرج من الحرب دون أن تغمس يديك في حبر شرايينه، أو تلوذ بفرار غير آمن من حفرة أعدت لك باقتدار.
فيلم “الأرض المحايدة” لم يكن محايدا أبدا، ولم تمر قصته على قلوبنا المتعبة بردا وسلاما، لكنها أشعلت في جوانحنا غضبا لطالما أسرفنا في كبته. في غسق الليل، تخرج سرية بوسنية نحو الحدود الصربية لتنال قسطا من الدماء في وطن لم يعد لأحد. وفجأة تشرق الشمس، فتفضح ما وارى الليل من رؤوس متعبة. وفي ثوان معدودات، اختلطت فيها مزق اللحم برذاذ الدماء وصرخات الجند، يجد شيكي نفسه وحيدا دون رفاق في خندق محايد.
لكن عسس العدو لا يتركون لشيكي رفاهية الاختباء، فينزلون شركا بشريا مربوطا بلغم أرضى على وشك الإنفجار. ويرى شيكي مواطنه البوسني راقدا فرق اللغم، يرقب بعينين زائغتين سماء لم تعد زرقاء أبدا، يقلب عينيه بين طيور الحديد التي تساقط كل حين عناقيد غضبها فوق إخوة فرقهم الدين، وجمعتهم الكراهية. لا من ولا سلوى هناك .. فالكل يترقب موتة تليق بضيق أفقه ومحدودية بصيرته. لكن أن ترقد فوق لغم لتمارس صمتك وسكون جوارحك إلى مدى لا يعلمه إلا الله، فهو أمر يفوق طاقة مواطن لم يكن يحلم سوى بكسوة خبز يابسة يتقاسمها مع أطفاله.
وعندما يكتشف بعض جنود الصرب مكان شيكي، يطلقون نحوه الرصاص، فيبادلهم قصفا بقصف، ويسقط رجلا منهم ويفوز برفيق غير مرحب به في خندق لا يتسع إلا لدين واحد. ويقف الندان وجها لوجه، وعجزا بعجز. يعلم شيكي ونينو علم اليقين أن البقاء في الأرض المحايدة لن يدوم طويلا، وأن الأسرع نزقا سيحظي بعدد أكبر من الأنفاس. أكياس الرمل تحيط رقبتين لن يجيدا الانتصاب طويلا في معركة لن ينتصر فيها أحد، لكنها مغامرة تستحق المحاولة على أي حال.
وفجأة، يدرك الرجلان أنهما في أرض محايدة .. ليست لأحد. وأن بإمكانهما التلويح للقادمين من شتى الأمم ليشهدوا منافع لهم كي يخرجوهم من مأزق وجودي وجدا فيه نفسيهما ذات إفاقة. يجرب اللدودان صوتيهما، وحناجر بندقيتيهما. وفجأة، تحلق في الأفق طائرة فرنسية تابعة للأمم المتحدة لتكمل مسار الأحداث. أراك تتساءل عن مصير شيكي ونينو، وهل سينفجر اللغم، لتتطاير أجساد الثلاثة الذين جمعتهم دون موعد أرض محايدة، أم ترى سيصلح الأمميون ما أفسد الدهر؟
أسئلة لا أعتقد أنها كانت تعني دانيس تروفيك وهو يساعد العمال بنفسه في حفر الخندق وحياكة ملابس الحرب. كانت الأسئلة التي تشابكت في رأس الرجل أكبر من تلك الأسئلة التي تحوم في رؤوسنا الصغيرة. وأجزم أنه لم يكن يعنيه مصير شيكي أو نينو، فما الرجلان إلا جنديان في وطن مليئ بالجنود والبزات العسكرية. ولماذا تهتم يا صديقي بمصير رجلين لا يختلفان شكلا ولا لونا ولا ديانة أو عرقا عمن قتلوا هنا أو هناك؟
أكاد أجزم أن تروفيك كان يهتم لمصير أمة، وجدت نفسها ذات يأس في خندق يزداد ضيقا مع كل انفجار. وأنها على شفا لغم أرضي لن يبقي من تاريخها ولن يذر. كان دانيس يضعني ويضعك أيها القارئ الطيب في اختبار افتراضي قاس. ماذا لو واجهت عدوك يوما في خندق ضيق، وكان عليك أن تقتله لتنجو أن تموت ليعيش؟ وماذا لو طالعت في عينيه تاريخ حزنك وأنت تصوب نحو ملامحه الباهتة رصاصتك الأخيرة؟ كيف تخرج أيها الصديق من خندق عنادك وتنتصر على تصنيفات السياسيين وحمق الأصوليين لتنتصر إنسانيتك على تعطشك الغبي للدماء؟ وكيف تنقذ أمة وضعها الأمميون فوق لغم أرضي يمنع حراكها ذات اليمين أو ذات الشمال؟
لم يهتم دينيس بلون البزات وعدد القتلى، بقدر ما اهتم بتشابه الصرخات ولون الدماء فوق خريطة كانت واحدة قبل أن تتمزق إلى أشلاء تحت رعاية أممية فاسدة. هل كان دانيس تروفيك يعنينا حين تحرك بكاميراته الذكية ليرقب ما خلفته الحماقات في نفوسنا، وما تركته سنوات الخلاف العجاف على ثيابنا من لطخات يأس قانية؟ وهل كان يرسمنا وهو يشق الخريطة إلى نصفين ويضعنا خارج حدود الخلاف كي يسمح لنا أن نتمرد على صناديقنا المغلقة لمدة ساعتين ونصف لنعود بعدها أكثر وعيا وفهما ودراية؟ أم أنك لا زلت تريدني أن أنهي لك قصة الفيلم لتعرف من مات من أبطال الفيلم ومن بقي؟
عبد الرازق أحمد الشاعر