ط
مقالات بقلم القراء

في العلاقة بين الجنون والابداع..بقلم / سيدة بن على عشتار من تونس

سيدة بن على

معشر الناس ما جننت ولكن***أنا سكرانة وقلبي صاحي

في لسان العرب جَنَّ الشيءَ يَجُنُّه جَنّاً سَتَره وكلُّ شيء سُتر عنك فقد جُنَّ عنك وجَنَّه الليلُ يَجُنُّه جَنّاً وجُنوناً وجَنَّ عليه يَجُنُّ بالضم جُنوناً وأَجَنَّه سَتَره ويقال في معنى الجنّة لغة انها البستان او الحديقة الوارفة التي تخفي وراءها اشياء ساحرة مجهولة وورد في معجم المعاني الجامع حول معنى كلمة جنون انها تعني زوال العقل أو فساد فيه أمّا الجنّ اصطلاحا فهو عالم من العوالم الغيبية التي نصدق بوجودها ويرى ابن عقيل أن الجن سموا بذلك لاستجنانهم واستتارهم عن العيون
شعراء كثيرون يكتبون ولا نفهم ماذا يريدون بما يكتبون …كلماتهم اقرب ما تكون الى الهذيان فنخمن ربما كتبت في لحظات سكر حيث ينعتق اللاوعي من سجنه ليعبر عن نفسه عبر الحروف …الهذيان وجموح الخيال ليس صفة مقصورة على نخبة معينة دون شك لكن ميزة الشاعر هو القدرة على اقتناص تلك اللحظات وتدوينها باسلوب يخترق مشاعر المتلقي لا عقله ويحدث بها اهتزازة ما… ربما الشاعر نفسه لم يتعمدها أو يخطط لها …ما السر في سحر هذه الكلمات التي كثيرا ما تكون متنافرة ولا رابط منطقي يربطها ببعضها البعض?… كلمات تشي بحمّى أو بمس خاص …هوس خاص …جنون لكنه ليس بالجنون .و اقتران الشعر بالجنون هو فكرة ليست طازجة الم يمنع افلاطون الشعراء من دخول جمهوريته الفاضلة(يوتوبيا) بقوله ممنوع دخول الشعراء الى المدينة الفاضلة ..كل الشعراء مجانين ,فصوت الشّاعر هو صرخات مجنونة تنعتق من سجن القلب الى حرية المفردات لتعلّم الآخرين ان الالهة هي مصدر ألم الانسان …خيال الشاعر يخلق اوهاما كبيرة ويجمّلها كي يصدقها الآخرون فهو عدو المنطق والواقع ولذلك وجب اقصاؤه وكما ربط الشعر بالجنون قرنت العبقرية بالجنون أيضا والعبقرية هي نسبة الى وادي عبقر الّذي يقع في نجد وهو وادٍ سحيق اعتقد العرب قديما انه مسكون بشعراء من الجن منذ زمن طويل، ويقال ان من امسى ليلة في هذا الوادي جاءه شاعر أو شاعره من الجن لتلقينه الشعر،وقد كان لكل شاعر من شعراء الجاهلية حسب اعتقادهم قرين من هذا الوادي يلقنه فلافظ بن لاحظ صاحب امرؤ القيس وهبيد بن الصلادم صاحب عبيد بن الأبرص و هاذر بن ماهر صاحب النابغة الذبياني و مدرك بن واغمصاحب الكميت بن زيد أي صدفة هذه التي جعلت من الشعر والجنون او من العبقرية والجنون توأما لا فاصل بينهما الا شعرة دقيقة او خيط رفيع في نظر عرب الجاهلية على بداوتهم وانفصالهم عن العوالم الاخرى والحضارات العريقة كحضارة اليونان وغيرها وفي نظر افلاطون وقد شاعت لدى العرب علاقة الشعر الصوفي خاصة بالجنون كما شاعت علاقة الجنون بالعابدات،فهذه احدى الجواري تنشد
معشر الناس ما جننت ولكن***أنا سكرانة وقلبي صاحي
ممّا يمكن الاتّفاق عليه نسبيّا أنّ اغلب كبار الكتاب والشعراء المبدعين يتميزون بتركية نفسية معقّدة نوعا ما بل ان بعضهم انتهى بهم الامر الى الجنون فعلا مثل نيتشة الشاعر الفيلسوف المتألّه الذي اخترق عالم الإله وأعلن موته بعد أن أوسعه جلدا واحتقارا كردّة فعل لاحتقار الإله نفسه للإنسان …جعل من الاله خصما له وقرر هزيمته الى ان نجح في طرد الهه…. القديس الشيطان نيتشة جعل الكثيرين يفقدون السيطرةعلى وعيهم ويكتشفون زيفه ….تحاشى المتكلمين المتحذلقين الذين يرهقون الواقع بالقوانين والتّنظيرات …مجّد الغرائز وأعلن عداءه لكل التّعاليم الأخلاقيةالّتي تدعو الى كبتها فالروح التي يتحذلق المتحذلقون في تمجيدها والسعي وراءها كامنة في الغرائز ولا يمكن اشباعها بالمنطق والعقل والقول الفلسفي بل بالحواس …هاجم نيتشة سقراط لأنه قدم العقل على صوت الروح ونداء الغرائز واعتبره مذنبا استحق عقوبة القتل من الاثينيين الذين سقوه السم لانه اراد أن يسلبهم الحياة لكن سقراط نفسه اعتبره التحليل النفسي في القرن التاسع عشر حالة مرضية عرفت بما يسمى
ب “شيطان سقراط “… جن نيتشة ولم يكتب شيئا طبلة سنوات جنونه ..انهزم العقل الجبّار في أوج عطاءه ..هل هي العقوبة التي استحقها لالحاده أم هو وهم العظمة الذي انهار وتلاشى بهزيمته اما الدولة والاخلاقيين ام هي هزيمته أمام الحب وتخلي حبيبته عنه أم أن سبب جنونه صدقه الخالص مع ذاته الذي جعله في قطيعة مع عقله ثم فقدانه فذلك العقل كان هو سبب شقاءه
أمّا الشّاعر الالماني فريدريك هولدرلين فقد دبَّج مئات الصفحات في سنوات جنونه الأربعين وأبدع الكثير من الروائع والقصائد العبقرية بعضها كتب قبل وفاته بايّام قليلة. ..هذه القصائد جمعها الشاعر الفرنسي بيير جان جوف ووقع طبعها تحت عنوان: «قصائد الجنون الهولدرليني …عاش ثلاثة وسبعين عاما نصفها صحو ونصفهاالآخر جنون ….في محاضرة لهيدجير بعنوان «هولدرلين وجوهر الشعر» تساءل لماذا نبحث عن جوهر الشعر عند هولدرلين وليس عند اي شاعر آخر …?ما الشيء الذي يميز هولدرلين عن كل شعراء الارض ويجعل منه التجسيد الاعلى لجوهر الشعر؟ما يميز هولدرين هو رفضه التورّط مع الواقع والمساومة على حقيقته الدّاخلية …فضل الفشل في الحياة على النجاح فيها كاذبا مع نفسه والآخرين …عاش على حافة الجنون قبل ان ينتهي اليه فعليا فراى ما لا يمكن رؤيته بالعين المجرّدة راى ذلك العالم الذي يخرج عن العقل والمنطق عالم الحلم».
حين سئل الكاتب الفرنسي أندريه موروا: هل صحيح ان جميع الروائيين مجانين أو عصابيون؟ أجاب : الأصح أن نقول أنهم كانوا سيصيرون عصابيين لولا أنهم أصبحوا روائيين نفهم من جواب اندريه مورو ان العصاب هو الذي يصنع المبدعين ولولاه لما كان بلزاك أو ديستويفسكي أو فلوبير كذلك قال الرّوائي والشاعرالأ أمريكي تشارلز بوكوفسكي حين صرّح في رسالة لأحد أصدقائه بأنّه أصبح شاعرا كي لا يموت مجنونا ..يقول في رسالته إلى صديقه كارل فيسنر الذي أصبح من أبرز النقاد والشعراء في أمريكا بعد ذلك:”
صديقي الذي أكرهه أحياناً وأحبه أحياناً لدي خياران إما أن أبقى في مكتب البريد وأصاب بالجنون، وإما أن استمر في الكتابة وأموت جوعاً، وقد قررت الموت جوعا فالكتابة عند ديستوفسكي هي ضرورة وحاجة نفسية ملحة وليست اختيارا او فعلا يقدم عليه الكاتب لهدف ما ببساطة لان الكاتب نفسه لا يعرف لماذا يقدم على هذا الفعل وهنا نفهم وصية ديستويفسكي حول الكتابة في قصيدته الخالدة تريد أن تصبح كاتباً؟
يقول :
إذا لم تخرج منفجرةً منك،
برغم كل شيء
فلا تفعلها.
إذا لم تخرج منك دون سؤال،
من قلبك ومن عقلك ومن فمك ومن أحشائك
فلا تفعلها.
إذا كان عليك أن تجلس لساعات
محدقاً في شاشة الكمبيوتر
أو منحنياً فوق الآلة الكاتبة
باحثاً عن الكلمات،
فلا تفعلها.
إذا كنت تفعلها للمال
أو الشهرة،
فلا تفعلها.
إذا كنت تفعلها
لأنك تريد نساءً …. ….
فلا.. تفعلها.
إذا كان عليك الجلوس هناك
وإعادة كتابتها مرة بعد أخرى،
فلا تفعلها.
إذا كان ثقيلاً عليك مجرد التفكير في فعلها،
فلا تفعلها.
إذا كنت تحاول الكتابة مثل شخص آخر،
فانسَ الأمر.
إذا كان عليك انتظارها
لتخرج مدويّةً منك،
فانتظرها.. بصبر.
إذا لم تخرج منك أبداً،
فافعل شيئاً آخر.
إذا كان عليك أن تقرأها أولاً لزوجتك
أو صديقتك، أو صديقك
أو والديك أو لأي أحد على الإطلاق
فأنت لست جاهزاً.
لا تكن مثل كثير من الكتّاب،
لا تكن مثل آلاف من البشر
الذين سمّوا أنفسهم كتّاباً،
لا تكن بليداً ومملاً ومتبجّحاً،
لا تدع حب ذاتك يدمّرك.
مكتبات العالم قد تثاءبت حتى النوم
بسبب أمثالك.
لا تضِف إلى ذلك.
لا.. تفعلها.
إلا إن كانت تخرج من روحك كالصاروخ،
إلا إن كان سكونك سيقودك للجنون
أو للانتحار أو القتل،
لا تفعلها.
إلا إذا كانت الشمس داخلك
تحرق أحشاءك،
لا تفعلها.
عندما يكون الوقت مناسباً،
إذا كنت مختاراً
ستحدث الكتابة من تلقاء نفسها
وستستمر بالحدوث مرة بعد أخرى
حتى تموت
أو تموت هي داخلك.
لا توجد طريقة أخرى.
ولم توجد قط.
يمكن القول بعد هذا الاعتراف الصّريح من بوكوفسكي أنّ فرويد لم يخطئ في نظريته القائلة بأن الشخصيات المبدعة والمتألقة في مجالات الفن والادب فبعد تحليله لعدة عينات منها وجد انها مبدعة لا بفعل عامل الفطرة بل بفعل دوافع نفسية مع استثناءات قليلة فهذه الشخصيات تتميز بالذّكاء مما لا شك فيه اضافة الى انها شخصيات مرهفة وواقعة تحت تأثير الشّغف والحاجة الأكيدة الى جذب انظار الناس اليهم والاستحواذ على اهتمام النساء واعجابهم بالاضافة الى تأكيد الذات فهذه الامور كلها هي من مكونات شخصية الفنان الغير عادية، فالفنان برأي فرويد انسان يعاني من العصاب الذي هو اضطراب عصبي وظيفي وقد ارجع العصاب الى اضطراب في الوظيفة الجنسية التي يسميها بالطاقة الجنسية الليبيدو فالعصاب يجعل الفنان يتجه لا شعوريا باتجاه ما أطلق عليه فرويد بالتسامي سبلوماسيون او الاثارة التي يحولها الى هدف جديد غير جنسي أمّا عالم الطب النفسي الكبير إيسكيورول فيستشهد بشخصيات كبرى من التاريخ لاثبات ان المبدع غالبا ما يكون حالة مرضية في الأصل فيذكر باسكال وروسو وغيرهم وبعده ياتي طبيب نفسي ااسمه “لولوت”ليكتب السيرة الذاتية المرضية لسقراط بعنوان “شيطان سقراط ” والسيرة الذاتية لباسكال بعنوان “تعويذة باسكال ” فكل عبقري بالنسبة له به نوع من المس وحالة الابداع هي هوس يبلغ حده الاقصى وهذا أندريه موروا يذهب الى أن ّ الفن يشفي من العصاب والمبدعين الذين تركوا بصماتهم في التّاريخ كانوا مشاريع مجانين لولا وجود الفن في حياتهم
كيف ينظر العرب الى هذا النّوع من الجنون الابداعي ?
نلاخظ ان الكتاب والشعراء العرب بصفة عامة يتحاشون الخوض في حديث يمكن ان يشير الى اصابةبالعصاب او عقد نفسية معينة واذا حدث واعترف أحدهم بذلك فيكون اعترافه على سبيل المزاح والسخرية لابعاد الشبهة عنه او يفعل ذلك اذا كان مدركا للعلاقة بين الجنون والابداع فيحاول ان يوهم الاخرين انه مبدع بدليل ان به مس الفنانين والمبدعين والحال انه ابعد ما يكون عن ذلك والنقاد العرب بصفة عامة يتحاشون فتح هذا الملف المحاط بالغموض لما يمكن ان يسببه من احراج للكثير من المبدعين العرب والكتاب العرب عامة يتجنّبون الخوض في حالاتهم النفسية أثناء عملية الابداع وما يعانونه من توتر نفسي خشيةَ أن يُنعتوا بالجنون رغم ان هناك من انتهى به الأمر الى الانتحارمثل الشّاعر الكبير خليل حاوي بينما الكتاب الغربيون لا مشكلة لديهم عادة في الاعتراف بامراضهم او علاجهم في مصحات نفسية فالجنون الابداعي بالنسبة لهم ليس عيبا بل هو محبب أو شرط وضريبة لا بد من دفعها كي يكون المبدع مبدعا ولولا اعترافات المبدعين الاوروبيين لما أمكن لنا رصد حقيقة هذه العلاقة بين الابداع والجنون فالاوروبيون تجاوزوا مرحلة الخوف من ان ينعتو بالجنون فقد خلصهم التّحليل النفسي من هذا الرعب بل ان بعضهم يفتخر بها لانها شهادة على ابداعه وتميّزه
هل أنّ كل عبقريّ مجنون وكل مجنون عبقري? حتما لا فالعلاقة بين الجنون والعبقرية علاقة معقّدة وحسّاسة جدا ومن الصّعب الحسم فيها
كانت هذه محاولة لا أكثر لملامسة الشمس داخل بعض من العباقرة المجانين أو المجانين العباقرة

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى