ط
مسابقة القصة القصيرة

قداحة .مسابقة القصة القصيرة بقلم / صابرين علي صالح الحسني/ اليمن

مشاركة في مسابقة القصة القصيرة
صابرين علي صالح الحسني/ اليمن
[email protected]

*قدّاحة*

إنّهُ النداء الأخير للصعودِ على مَتن القطار.
تصاعد دخان القطار الأسود مع صفارةٍ مصاحبة لتشغيل المحركات.
المَشهد عشوائي مضطرب، فالكُلّ على عَجلٍ بالجلوس ووضع الأمتعة، ومَن سبقَ إلى مقعدٍ وهمّ بالجلوس، كذلك يُخرِج رأسه مِن النافذة للوداع أو رسم قُبلاتٍ على الهواء.

لمْ يَكنْ هُناك مَنْ أودّعهُ… كنتُ أركض، وكان جُل اهتمامي بتحيّز مقعدا يطلُ على النافذة، مُتشوّقةً للطبيعة التي ستؤنِس وِحدتي طول الرحلة مع بعض الموسيقى.

وفي أثناء البحث وبِدء تُحرّك عجلات القطار وجدتُ مقعدا، ولكن للأسف ليس بجانب النافذة وهو الأخير، جلستُ ولمْ أنظرْ ملامح الجالس بجانبي،
ولكنهُ شَعرَ بأنني لستُ مرتاحةً في مقعدي.

فطلب منّي مقاطعا لأنفاس الراحةِ بَعد البحث. أرجو منكِ الجلوس في مكاني مارأيك؟!
صَمتُّ وهلةً وقلتُ في نفسي: إنّها فُرصةٌ وإنّهُ لشخصٍ نبيل.

نَظرتُ إليهِ وكأنهُ يُكلِّم شبحاً، لم يَنظرْ ليْ، وزاد ارتيابي بالاعجاب بأخلاقهِ
وحين نهض مِن المقعدِ بدا غير متوازن، لمْ أكترث له وجلستُ بقرب النافذة، وبينما كنتُ أشاهد المناظر الطبيعية، سمعتُ صوت قدّاحة! وحينما ألتفتُ للصوتِ وقعتْ القدّاحة مِنهُ؛ نعم أنّه الشخص بجانبي بدأ يتحسس بحثا عنها وحينها ….!

أدركتُ أنّ الشخصَ الذي بجانبي لا يرى، تواترتْ علي كثير مِن المشاعر والشعور بالشفقة، وبسرعة مددتُ يَدي وناولتَهُ إيّاها، وقلتُ في نفسي: لهذا السبب غيّر مقعده معي.. أخذها منّي وقال لي بعد أن أشعل سيجارته:شكرا فأنا كما تيقنتِ أعمى!!

وحينها ظللتُ أتأمل شكله باطمئنان، حيث إنّهُ لا يراني وكان رغم فقد بصرهِ، لهُ عينان حادتان تشبها النسر، وأنفٌ مستقيمةٌ بزاويةٍ قائمة، وفمٌ مُكتَنِزٌ وشاربٌ غزيرٌ كثيف، شَعرهُ أسود مُموّج قمحي البشرة.

وبعد إمعانٍ أكثر في ديسمهُ قاطعَ ارتيابي
صوتٌ !!
تذكارااات تذكاارات مَن يَشتري!!
ناديتُ صاحب التذكارات، وكان معه صورٌ سياحيةٌ تَصفُ المنطقة، وأخذتُ مِنهُ صورةً
قال لي: ب 20 عُملة سيّدتي.
أخدتُ المالَ وناولتَهُ
وفي شفقةٍ مِنّي للأعمى قلت له: هَلْ تُريد تذكارا ؟

قال لي: أي صورة
قلت له: مَعلَم سياحي
هزّ رأسه موافقا ومدّ يده يبحثُ عن عُملات، ودفعتُ لصاحب التذكارات السعر عينه، وقلتُ لهُ، وقَدْ ناولتهُ الصورة: هذا تذكارٌ.
أجابني بابتسامةٍ ساخرة: تذكار لا أراه.

قلتُ لهُ: صورة مَعلَمٍ
قاطعني قائلا: لا أراه!. كيف تَصفين ذَلِكَ لشخصٍ لا يَرى؟
وحينها أمسكتُ بالصورة، ونَظرتُ سارحةً. كيف أصفها؟ قال: بِمَا أملك مِن حواس،
وسكتُ عاجزةً، تذكرتُ قصتي، وبدأتُ أصِف لهُ مُغمّضةً عَينيّ تذكار… تذكار

ذلك الحضن، الذي تحمله مشاعرنا في حقيبةٍ، نسير بها وحرارة الشمس تحنو عليها لتدفئها، ذلك العطر المُنساب مِن كلمةٍ تَسمعها، مِن نغمةٍتحركها الحياة بين شفتيك، وتبقى معك مِن الذاكرة المحنطة، إلى المؤطرة،
وفتحتُ عينيّ ورأيت ابتسامة على وجهه قائلا: هكذا يكون التذكار، لهُ صورةٌ يمكن أن أراها؛ وبينما هو مبتسمٌ قال: كم الوقت الآن، قلتُ لهُ: إنهُ الغَسق، الوقتُ الذي تصبغ الشمس خيطانها بلون النبيذ،
وفيهِ يختمُ الأصيل آخر صفحة النهار
ههههه أقصدُ الخامسة والنصف.

كلامُكِ الرائعُ جَعلني أرغب برؤية ذلك الأصيل. هل من الممكن أن تكوني مشكاةَ عينين عالقتين في جَوف مُظلم؟

جرّبتُ أن أفقد ذاكرتي بكل ما رأيت، محوتُ بيانات الفص الجبهي مِن الدماغ، وألتحفَ الظلام وأرخى سدوله على جفن العين، وقلت: إن الغَسق أن تُصاب أمي بوعكةٍ عارضةٍ وتذهب للمشفى وَحدهاوأنا بعيدة كأن الروح تسرّبت مِن الشرايين واحدا تلو الآخر،
ويخبرك أحدهم باتصالٍ أنها ستغيب ليلة، الغَسق أنْ يَسحب القلبُ حياتهِ مِن كل الوطن، وتَشعر ببرد الموت في أطرافك إلى إشعارٍ آخر بالحياة.

حينها تَوقّف القطارُ في محطةٍ ، وقال مقاطعا: كم الغَسق مؤلم ؟!
حان مَوعد نزولي الوداع …هذهِ أجملُ رحلة كنتُ فيها مُبصرا.

مدّ يَدهُ إلى جيبهِ وناولني قدّاحةً، قلتُ لهُ: شكرا لا أدخّن. قال: هذا تذكارٌ يُشبه الوداع!!

وأنا أتأمل تلك اللحظة منذ البداية بينهما وحقيقة الأمر، وقد رأيتُ المَشهد صامتا، بأنها استرختْ على المقعد، وهي تُشعل القدّاحة تارةً وتُطفِئها أخرى،
وقلت: كيف يكون الوداعُ قدّاحةً؟

توريةً يعني الشُعور بالتبلّد، اختناق الأنفاس، ولهيب مُنتَزع من المغادرة.

هكذا فهمتُ الصورةَ دون أن أسمَع شيئا من الأصوات، فأنا لاأسمع؛ لكنّي لستُ بحاجةٍ إلى حاسة السمع لأفهم ، فالواقعُ اشتقاقٌ آخر لمْ أسمَعه.

محطتي التالية الوداع أقصد- قدّاحة- تذكارٍ لمْ أسمعه.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى