عباس كياروستمي
مخرج ايرانى عالمى راحل
رحل عباس كياروستمي وستبقى سينماه خالدة وشاهدة على عبقريته خلال أكثر من أربعين عاما، كانت أعمال كيارستمي تمثّل السينما الشعرية للحياة والناس. كان يوظّف في أفلامه أسلوبا متميّزا مع مشاهد تتدفّق باتجاه نهر من الأحداث المتكشّفة وغير المتوقّعة، مع توتّرات ضمنية تنهار فيها الخطوط التي تفصل الواقع عن الخيال.
الأسلوب البسيط لأفلامه كان يصوّر الحبكات البطيئة التي يحاكي فيها الفنّ الحياة بتأثيرات صامتة ومنوّمة.
كانت أفلام كيارستمي دليلا على الحياة وهي تمرّ وتتحرّك إلى الأمام عبر مسارات متلاشية تذكّرنا بموتنا الذي لا مفرّ منه وبلحظات وجودنا القصيرة في عالم واسع من الطرقات والدروب التي لا تنتهي.
المشهد الأخير من فيلمه “الريح ستحملنا” يحكي قصّة فريق من الرجال الذين يصلون إلى إحدى القرى لتصوير مراسم تشييع امرأة عجوز. ويظهر احد هؤلاء الرجال وهو يلقي بعظم بشريّ في نهر ضيق. العظم يطفو فوق المياه المتلاطمة ويمرّ عبر حشائش خضراء يتغذّى عليها قطيع من الماعز، بينما طيور تغرّد في مكان بعيد على وقع هدير الأمواج.
الحياة لا تتوقّف، بل تسير في دوّامات من الضوضاء والصخب. والصورة تظلّ مؤطّرة في ظلال الذاكرة: لقطات مقرّبة للحياة مع تفاصيل الحركات والمشاعر والأشكال العشوائية التي بدونها تكون الحياة بلا معنى.
طوال فترة اشتغاله بالسينما، صنع كيارستمي سلسلة من الأعمال الفيلمية والفوتوغرافية التي تحتفل بالشعر الذي كان يجده دائما في الأشياء المتحرّكة، في المطر والطرقات والأشجار، من خلال صور متقشّفة بالأسود والأبيض مع ملاحظات بصرية تمازجها موسيقى.
في فيلمه الوثائقيّ طرقات ، يحكي المخرج سبب انجذابه للطرقات فيقول إنها تذكّره بزمن طفولته. وهذه الطرقات تحلّ محلّ الطرقات التي يتخيّلها من سنيّ عمره المبكّرة.
الفيلم كان ثمرة مشيه الطويل والمتأمّل والمنعزل في فصل الشتاء بحثا عن أماكن تصوير مناسبة لأفلامه. كان أحيانا يمشي آلاف الأميال في الطبيعة المفتوحة. وكانت متعة رؤية الطبيعة الجميلة دافعه الأساس لالتقاط تلك الصور.
ومادّة الفيلم تعتمد على مجموعة من ثلاثين صورة للثلج كان كيارستمي قد التقطها في طهران بين عامي 1978 و 2003، بالإضافة إلى بعض اللقطات المتحرّكة التي استعارها من فيلمه “طعم الكرز”.
كان كيارستمي خلال تنقّلاته يقود سيّارته بيد، بينما اليد الأخرى مثبّتة على آلة التصوير. وكان يعشق آثار حبّات المطر على زجاج سيّارته الأمامي أثناء أسفاره في الطبيعة الريفية.
وهو كان دائما يفضّل الريف على المدينة. وحتى معظم أفلامه تدور أحداثها في المجتمعات الريفية والقرى. وما يميّزه ليس كونه مخرجا سينمائيّا فقط، بل افتتانه أيضا بأعاجيب الطبيعة وأسلوب تعامله المتفرّد مع صورها.
يبدأ فيلم “طرقات” بلقطة واسعة لسيّارات تتحرّك داخل الطبيعة. ثم يتحدّث كيارستمي بصوته عن اكتشاف اهتمامه بالطرقات والدروب بعد أن تبيّن له أنه صوّر الآلاف منها في أفلامه.
وفي الفيلم تظهر الطرقات عبر طبيعة قاحلة وبلا بشر. وأيضا وكما هو الحال في أفلامه، هناك في هذه الصور حضور شبه دائم للسيّارة. والبطل في أفلام كيارستمي كثيرا ما يكون خلف مقود سيّارته.
الغربان أيضا تظهر كثيرا في أعماله ومن ضمنها هذا الفيلم، وهي تعيش طويلا كشاهد صامت على تاريخ البلد.
كما أن للأشجار أيضا حضورها الدائم، إمّا بسبب جمالها المحض، أو باعتبارها ناجية من مخاطر وجودها وسط بيئة غير مضيافة. كما أن الأشجار عنده هي رمز للديمومة والقدرة على التواؤم.
والملاحظ أن كيارستمي يوظف الطرقات كرمز في الشعر، فيتحدّث في الفيلم عن الطرقات في الشعر الفارسيّ وفي شعر الهايكو اليابانيّ مقتبساً بعضا منها.
الفيلم الذي يبدأ وكأنّه تأمّل صامت سرعان ما يتحوّل إلى سرد، ثم يظهر الثلج في صور متتالية، وكلّ صورة توحي بحالة عاطفية. ثم نرى المخرج وهو يلتقط صورة من داخل سيّارته، وفي الجوار نرى كلبا ينبح، بينما تتناهى إلى أسماعنا أصوات غربان وموسيقى ناي ياباني.
كاميرا الفيديو تتابع الطرقات التي يسلكها كيارستمي هو ومجموعة من الكلاب والطيور. حركاتها وأصواتها تتناوب مع الصور الثابتة والمتحرّكة لأشجار جرداء وأرض مغطّاة بالثلج.
ثم يظهر رجل على حصان، وخيال مآتة وكلبان. وبالقرب من نهاية الفيلم، يظهر في خلفية إحدى الصور اللون الأحمر البرتقاليّ لانفجار القنبلة النووية وسحابة الفطر. هذا أوّل وآخر ظهور للون في الفيلم. والكاميرا تصوّر النار وهي تلتهم صورة الكلب ببطء.
وبينما تتحوّل الصورة إلى رماد، يظهر على الشاشة دعاء بالانجليزية من كتاب نهج البلاغة للإمام عليّ يقول فيه: اللهم إنّا ندعوك أن تنزل علينا سماءً مُخضِلة مدرارا غير خُلّب برقها ولا جهام عارضها”. والمقصود أن تتذكّر صدمة ذلك اللون والصوت ونظرات الكلب الذي يواجهنا.
كان عبّاس كيارستمي ينظر إلى الطبيعة كمصدر للإلهام. وكانت رغبته في أن ينظر ويتأمّل تفاصيل الطبيعة كافية لتجعل منه مخرجا عظيما ومتميّزا.
ولطالما اعتبر أن التصوير أكثر نقاءً من السينما، لأنه متخفّف من عبء الرؤية والسرد والتسلية. وكان يؤمن بأن القدرة على الخلق تأتي أحيانا من القدرة على التدمير، لأن كلّ صورة تدخل العقل تحلّ محلّ صورة أخرى
الخبير الإعلامى / فاتن التهامى