ط
كتاب همسة

قراءات فى روايات …. بهاء طاهر.للناقدة / فاتن التهامى

استعرض الكاتب إيهاب الملاح تحت عنوان ( بهاء طاهر ….عمر من السرد الجميل ) . أعمال المبدع بهاء طاهر فى لمحة ساحرة نتعرف من خلال مجموع أعماله وكتاباته ….لنصل معه الى العمل الروائى “واحة الغروب ” والذى حصل بها على جائزة الرواية العربية  فى الملتقى السادس للرواية وعقد بالقاهرة .

وفى هذا الملف  يطوف بنا الكاتب حول مجمل الإعمال قائلا :-

للقامات الإبداعية الكبيرة قيمتها المتفردة، وحضورها الفذّ وإشعاعها الثقافى والتنويرى الممتد، وهى تستلهم وتنتج وتكشف، وهى بينما تفعل ذلك كله تُبصر متشوفة بمستقبلها ومستقبل أمتها، يصدق هذا على الأديب القدير بهاء طاهر، الذى يكفى ذكر اسمه فقط لتنفتح طاقات نور وإبداع على تاريخ طويل وممتد من الإبداع والخصوصية والتميز.. وهو من القلائل الذين يحسنون الكلام قدر ما يحسنون السكوت، ويمتلكون موهبة الإصغاء والتقاط التفاصيل واستخلاص الأفكار الكبرى بقدر التغاضى عن التفاهات والترفع عن الصغائر وتجنب الانخراط والتورط فى معارك صغيرة واشتباكات تافهة.

بهاء طاهر نجح بأعماله ومواقفه الإنسانية الصادقة أن يكرس نموذج “المبدع النبيل”، الباحث عن اللحن الخافت الحزين للواقع المصرى وتاريخه، ظل عمره كله يبحث عن سر هذا اللحن ويطارده ونجح فى اقتناصه من خلال ما جادت به قريحته الإبداعية من روايات وقصص قصيرة وترجمات، صاغت فى مجملها تاريخًا مشرفًا وباهرًا لصاحبها، فى الوقت الذى تلقفها فيه الجمهور والنقاد على السواء بكل الرضا والمحبة والقبول.

ورغم أن المسافة الزمنية كانت تطول بين كل عمل أدبى والذى يليه، ولكن ما أن يخرج بهاء طاهر على الساحة الأدبية بعمل جديد حتى يصير (المتنبى) الذى يملأ الدنيا ويشغل الناس، وفى كل مرة يَخرُج فيها بهاء برواية جديدة من رواياته الساحرة المسحورة، لا بد أن ينال عنها وبها تكريمًا مستحقًّا وحفاوة بالغة، هكذا سجلت مسيرة بهاء طاهر “سيرة إبداعية” مصرية وعربية نادرة، توجت أخيرا بحصوله على جائزة الرواية العربية، فى الملتقى السادس للرواية الذى انعقد بالقاهرة خلال الفترة من 15 إلى 18 مارس الماضى.

فى هذا الملف.. عرض موجز لسيرة بهاء طاهر الإبداعية، رواياته الخالدة، وقصصه الفاتنة، نحاول أن نذكر بل نحرض على قراءة أعمال بهاء طاهر (لمن لم يُتح له التعرف على إبداعه من الأجيال الناشئة) واستعادة لذة قراءته لمن كان من أصحاب الحظوظ السعيدة والاختيارات الصائبة ممن طالعوا أعماله، أو بعضا منها.

«الخطوبة».. وخصائص البدايات

بهاء طاهر واحد من أنجب وأبرز كتاب جيل الستينيات الأدبى، الذى وصل إلى قمة النضج الفنى، وذروة الحس الدرامى فى أعماله القصصية بوجه عام والروائية منها بوجه خاص. وهو كاتب مُقلّ إذا ما قورن بكثيرين من أبناء هذا الجيل، فعلى مدار ربع القرن منذ صدور روايته الأولى «شرق النخيل» عام 1983، وحتى صدور آخر رواياته «واحة الغروب» 2006، لم يصدر له سوى ست روايات؛ أى بمعدل رواية كل خمس سنوات تقريبًا.

لكن بهاء طاهر لم يبدأ بكتابة الرواية، إذ صدرت مجموعته القصصية الأولى «الخطوبة وقصص أخرى» عام 1972، وكان صدورها حدثا مدويا فى المشهد الأدبى آنذاك، تناولتها الأقلام النقدية بالترحاب، وقال عنها شيوخ النقد ما أكد أن صاحب هذه المجموعة يتميز عن كل أفراد جيله، بأنه ذو روح فنية عالية، وأن له أسلوبه الذى يشى بخصوصية متفردة تنبئ بأن صاحب هذا الأسلوب له لغته الخاصة التى ستتحدد وتتبلور فى أعماله التالية.

فى هذه المجموعة الرائدة تسود أجواء الحصار والقلق والارتياب، أبطالها صغار مهزومون ومحاصرون، يشعرون بضآلتهم فى عالم مُعادٍ تديره قوى متسلطة تتوغل سلطتها فى كل شىء، وفى هذه القصص تبرز مجموعة من السمات العامة التى ستميز كتابة بهاء طاهرخلال تلك الفترة؛ فاللغة بالغة الدقة والصرامة البنائية واضحة، مع حذر شديد من بروز ذات الكاتب أو تسللها فى ثنايا السرد، كذلك الحذر من الجنوح نحو المجاز (التصوير والخيال والشعرية).

أما أبرز أصداء صدور هذا المجموعة فهو ما قاله الأديب الكبير والأب الشرعى لفن القصة القصيرة فى أدبنا المعاصر يوسف إدريس من أن بهاء طاهر “كاتب لا يقلد أحدًا.. هذا كاتب لا يستعير أصابع غيره”، وكان ذلك إرهاصا بفرادة وخصوصية إبداع بهاءطاهر، نبوءة تحمل معنى التقدير وثقة فى تجاوز صاحبها لآفاق أبعد. وصدقت نبوءة إدريس، وأصبح بهاء طاهر امتدادًا عبقريا وفذًّا لعباقرة القص العظام من يحيى حقى حتى يوسف إدريس نفسه، وبرز صوته القصصى هادئا متأنيا عميقًا يرتاد مسالك وأغوارًا مدهشة، متسلحًا بشاعرية رهيفة جعلته ينفرد بمساحة كبيرة من خريطة القص المصرى المعاصر لا يزاحمه فيها أحد.

وعلى امتداد رحلته الإبداعية التى بدأت عام 1962 وحتى الآن أثرى بهاء طاهر الأدب العربى، بروائعه السردية فمنذ صدور مجموعته الأولى الخطوبة 1972 وحتى صدور آخر إبداعاته المدهشة واحة الغروب نوفمبر 2006، تقف أعماله شاهدة على عمق الرؤية الفنية، وامتلاك مدهش لتقنيات السرد وحرفية القص. فتبرز مجموعاته القصصية المكينة «بالأمس حلمت بك» 1984، و«أنا الملك جئت» 1985، ثم تشمخ روايتاه البديعتان الأوليان «شرق النخيل» و«قالت ضحى» فى العام نفسه، وقد تم اختيار الروايتين كأفضل عملين أدبيين روائيين فى نفس سنتى صدورهما، وهذا أمر سوف يتكرر فى كل مرة يصدر فيها بهاء طاهر عملا جديدًا.

فى النصوص السابقة، التى صدرت كلها عن تأثر واضح بمجموعة من التحولات الجذرية التى ضربت مصر والعالم العربى خلال عقدى الخمسينيات والستينيات، وكان لها مردودها الكبير على كتابة بهاء طاهر واختياراته التقنية والأسلوبية، وظهرت خصائصه الكتابية بوضوح لا تخطئه العين المدربة، من حيث الميل إلى الاقتصاد اللغوى والتكثيف وصرامة البناء، لكن لغته ظلت تميل إلى التوازن بين الشفافية والمجاز وأصبحت ذات مستويات متعددة، وأصبح السرد أكثر يسرًا وتدفقًا ذلك لأن الرؤية أصبحت أكثر اتساعا ورحابة، وانصرفت كتابة بهاء طاهر إلى التعبير عن مأزق الوجود الإنسانى فى العصر الحديث، ولذلك نلحظ أن حضور الواقع الصلب يزاحمه حضور الفانتازيا والأحلام والأساطير وأشواق المتصوفة.

“صفية”.. و”حربى”

ويواصل بهاء طاهر العزف بمهارة فائقة على أوتار تلك الروح الإبداعية، فيؤلف رائعته «خالتى صفية والدير» 1991، يستكمل فيها الخيط الفنى السارى فى روايتيه الأوليين، وخصوصا استلهام البيئة المصرية الصعيدية شديدة الخصوصية والتى تتأبى على الغريب عنها وتستغلق على الغرباء منها، ولا تسلم دواخلها وأسرارها إلا لابن عزيز من أبنائها. يتخذ بهاء طاهر من تيمة “الثأر” فى الصعيد محفزًا على البحث عن خلق أسطورة التعايش والجوار السلمى بين أصحاب الديانات المختلفة، حب صفية الذى يتحول إلى كراهية تؤججها مشاعر الانتقام والغضب ليس ثأرًا لمن قتل زوجها القنصل “البك”، بل لمن اجترح مشاعرها وطعنها فى أنوثتها بإهمال ولا مبالاة.

يحكى بهاء طاهر فى حوار سابق أُجرى معه قبل عدة أعوام أن الكاتب لا يملك السيطرة فى أثناء الكتابة على مسار الأحداث والشخصيات، فبعض القصص قد تحمل فى أحشائها جنين رواية مكتملة، ورواية أخرى ينتهى بها المطاف إلى مجرد قصة قصيرة، وضرب مثلا على ذلك بشخصية “صفية” التى ظهرت كشخصية ثانوية فى قصة “المقدس بشاى” التى تطورت بدورها لتصبح رواية مكتملة وتحتل فيها صفية مكانها كشخصية رئيسية أو محورية تحرك الأحداث وتقود دفتها إلى مصيرها المعلوم.

يقول بهاء طاهر “أظن أن الكاتب الواعى هو الذى يترك كامل الحرية لشخصياته فى أن تفعل ما تريده وتتحرك وفق رؤيتها لا يفرض عليها الكاتب أى قيود أو ضوابط، وأن تأخذ أفكارها مجراها الطبيعى فى سياق الأحداث والبناء العام للرواية”.

تحظى «خالتى صفية والدير» باهتمام نقدى وافر، إذ كتب عنها عشرات المقالات والدراسات النقدية، وأفرد لها الناقد صلاح فضل فصلا كاملا فى كتابه «أساليب السرد فى الرواية العربية» كنموذج على ما أسماه “الأسلوب الدرامى”.

«الحب فى المنفى».. حديث الناس

وتأتى انتقالة تالية، لكنها لافتة وفريدة، للمبدع الأصيل الواعى، المهموم بقضايا وطنه وامتداداته القومية، فيكتب رائعته «الحب فى المنفى» 1994، وقل عنها ما شئت: مرثية للحلم الناصرى، توثيق فنى لمذابح صبرا وشاتيلا، استشراف روائى لتغول رأس المال وجموح العولمة وغسيل الأموال، رصد دقيق للتحولات الاجتماعية والثقافية التى طرأت على المجتمع المصرى خلال العقدين التاليين لحقبة الستينيات، توصيف لعلاقة المثقف بالسلطة زمن الأنظمة الشمولية وما بعدها.

تدور أحداث الرواية على خلفية عريضة تسع العالم كله والتى جمعت خيوط الواقع الإنسانى المعاصر بأزماته الوجودية وإشكالياته المعرفية وتناقضاته الإنسانية فى فنية متفردة ومن خلال لغة عذبة رائقة تفيض سلاسة وعذوبة، ورغم غلبة نمط الراوى المتكلم (الأنا) على هذه الرواية فإنه استطاع بحنكة وحرفية عالية أن يجعل هذا الراوى يحتوى أصواتا متعددة ومتباينة، وأن يجعل لكل صوت منها خصوصيته واستقلاله.

كل ما سبق جعل من الرواية حديث المدينة وقبلة القراء والنقاد والباحثين. وانتزعت صيحات الإعجاب من حناجر النقاد، فيصفها على الراعى بأنها “رواية كاملة الأوصاف”، ويعدها الناقد الكبير شكرى عياد “نمط جديد من الرواية الواقعية”.

«نقطة النور».. البحث عن الحقيقة

فى العام 2001، وبعد نحو 7 سنوات من صدور «الحب فى المنفى»، يكتب بهاء طاهر روايته الجديدة «نقطة النور»، يعاود بهاءالبحث عن “نقطة النور” داخل أنفسنا، والكشف عن الحقيقة الإنسانية وجوهر وجودها فى روايته الهادئة المظهر، وهى رواية فى ظنى لم تنل ما تستحقه من تأمل وتحليل، رواية خادعة، يغرى مظهرها السردى البسيط بتناولها على أنها عمل واقعى اجتماعى، تعد بصورة أو أخرى استكمالا لما طرح بعضه فى «الحب فى المنفى»، لكنى فى الحقيقة أراها أعمق وأبعد من هذا كله، فمن خلال تقنية تعدد الأصوات، سنواجه ثلاثة أصوات؛ “سالم” الحفيد، و”لبنى”، و”الباشكاتب” الجد، متباينة تماما فى لغتها وأحاسيسها وأفكارها وتصوراتها عن العالم وعن الأزمة التى يعانيها كل منهم.. حاول بهاء طاهر فى هذه الرواية أن يقيم تماثلا بينها وبين فكرة الفرق بين “الروح” و”النفس” و”الجسد” عند قدماء المصريين، حيث كان المصريون القدماء يفرقون بين (الكا) و(البا).. رمزوا للروح التى تصعد إلى العالم العلوى بـ(الكا)، والنفس التى تظل معلقة بين العالمين بـ(البا)، هذه الفكرة للأسف لم يلتفت لها كثير من النقاد وقارئو الرواية.

«واحة الغروب».. درة التاج

وتأتى «واحة الغروب» 2006، آخر ما كتب بهاء طاهر، لتستحوذ على اهتمام القراّء والنقاد وجمهور الرواية بشكل عام، بما طرحته من رؤية جديدة وتوظيف فريد لتقنية تعدد الأصوات، ففى حين نرى أن تعدد الأصوات لا يظهر بوضوح وجلاء فى رواياته الثلاث الأولى، نرى أنها شهدت تناميا ملحوظا وحضورا لافتا فى رواياته الثلاث الأخيرة، وخصوصا فى «واحة الغروب» التى يظهر فيها وبوضوح ظاهرة تعدد الأصوات، بما يجعلنا مطمئنين إلى أن نطلق عليها (رواية بوليفونية)، حسب المنظّر والناقد الروسى الشهير ميخائيل باختين.

فنحن لا نرى فيها صوتًا واحدًا مهيمنًا على مجريات السرد، بل نحن إزاء أصوات متعددة لا يطغى فيها صوت على صوت، فكل صوت يعبر عن نفسه وذاته بوضوح واستقلال كاملين. ويظهر هذا التعدد من خلال توزيع فصول الرواية الذى يوزع السرد على صوتين أساسيين (محمود- كاثرين)، وتستكمل السرد أصوات لاحقة (الشيخ يحيى)، وعلى هذا فحوارية الرواية ظاهرة جلية، واعتراف بهاء طاهر بشخصياته وبحقها فى التحدث عن نفسها بمعزل عن تصورات الآخرين لها.

هذا الشكل الحوارى (البوليفونى) الذى يسمح لأصواته أن تتحدث كيفما تشاء جعل الحقيقة نسبية ولم يجعلها مطلقة، ولم يسمح لأى من هذه الأصوات أن تحتكرها، أو أن تهيمن على ما عداها من أصوات، وبالتالى منح القارئ أيضًا أفقًا غير محدد لتصوراته وتوقعاته.

وعن هذا الطرح فى تحليل الرواية يقول بهاء طاهر فى حوار أجريته معه منذ سنوات عديدة “جميل جدا أن يكون هناك من يدرك هذه الجماليات الكامنة فى أعمالى الروائية.. أنت لا تتخيل كم أبذل من جهد فى محاولة تقمص كل شخصية من شخصيات الرواية، وأحاول أن أجعلها تفكر تفكيرها الخاص بها وتتحدث لغتها الخاصة بها”، ثم يضيف “أنا أعتقد أن فكرة التباين والاختلاف بين الأنماط اللغوية للأصوات الروائية هى فكرة خطيرة وجوهرية، وكثيرون يعتقدون أن تعدد الأصوات هو فقط تعدد الرواة أو الساردين فى الرواية دون الانتباه أو الالتفات إلى أن الصوت الواحد قد يحتوى بداخله الكثير من الأصوات المتعددة والمتباينة بما يوازى بينها وبين الصوت الواحد”.

                                      عرض وتقديم / الخبير الإعلامى

                                             فاتن التهامى

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى