مقدمة ديوان (تراتيل المساء ) للشاعرة دلال كمال راضي (بنت الحجاز)
بقلم عصام طلعت الرفاعي
—————————–
المقدمة
بالحب ينتصر العطاء ، والكلمة العذبة هي كأس الوصال والتي تروي صحراوات القلوب وصدور الرمال ، ليت شعري وهل يقف المرء أمام نبضات تترنح على وجع الحياة حولنا إلا منتصرا لها؟ إنما المرء ضعف في ضعف يتقوى بما أودعه المولى في ذاته من روح نقية عليّة ، وماذا لو انتصر الإنسان لإنسانيته ؟ وعاد مسرعا نحو القيم التي به تحلو وتعلو ، يا حظنا بمن عبر عن إنسانية الإنسان ودعا إليها في ثوب مُرصّع بفكره ونبضاته ، لينطق ما تحجر حوله ، وينطلق به في دهاليز المحبة والحياة .
(تراتيل المساء) تأخذني لتبيين معنى التَّرْتِيلُ وهو في القراءة الترسل فيها والتبيين بغير بغي وجاء في (لسان العرب) : (ترتيلُ القراءة التأَني فيها والتّمهُّلُ وتبيين الحروف والحركات تشبيهاً بالثغر المُرَتَّلِ وهو المُشَبَّه بنَوْر الأُقْحُوان يقال رَتَّلَ القراءة وتَرَتَّل فيها وقوله عز وجل ورَتَّلْناه ترتيلاً أَي أَنزلناه على الترتيل وهو ضد العجلة والتمكُّث فيه هذا قول الزجاج وترتّل في الكلام تَرَسَّل وهو يترتل في كلامه ويترسل والرَّتَلُ والرَّتِلُ الطيِّب من كل شيء) .
ولو وقفنا مع معنى المساء آخرُ النَّهار وقد تطول إلى نصف اللَّيْلِ وفي (المعجم الوسيط ) : (المَسَاءُ : ما يقابل الصَّباح ،والمَسَاءُ زمانٌ يمتد من الظهر إلى المغرب ، أَو إِلى نصف الليل) .
ودعوني أقول :إن عبير (تراتيل المساء) أشتمه منذ وقعت عين أنفي على عنوانه حيث يبدو منسقا ناصعا طيبا فيه ترسل وعذوبة ، وإذا كان الليل مجتمع الويل ، حيث تنطلق الشجون في معترك المشاعر من نافذة الذاكرة تطل أُمْسِيَةٌ فيها من الأتراح والأفراح ما فيها والقلب يصدق يكذب انطلاقة مآسيها :
فوداعا يا عالمَ الأحلام
وداعا لعيون لا تنام
عالم اللاراحة
عالم الخطيئة
فخطيئتي بلا ذنوب
وتراتيل المساء هي حياة ، تتجمع في نقش على لوح من المدى ، تنصهر آليات النهار في بوتقة شعرية ، تميل تهتز تتراقص تتوجع وتندمل هذه الأحداث في نسق متوارٍ متواز ٍ مع كنه الحياة ،علها سر أسرار النجاة ، بما تحمل من تطريب وامتاع ، ودعوة للخلق النبيل الذي يعلو فوق شهوات الإنسان وملذاته لتصل به إلى ملائكيته في عوالم الملك والملكوت ، فتراتيل المساء لدى الشاعرة لحنُ صباحٍ ، ماحقة الوجل ومنبع الأمان لأنها أصدقت ما كتبت وعزفت :
يا تراتيلَ مسائي
و لحن إصباحي
بسمة أملي
ماحقة لوجلي
يا أصدق ما كتبت
من حروف الغرام
وأجمل ماعزفت
من ألحان الهيام
لقد انطلقت الشاعرة معتزة ببنات الحجاز – ويحق لنا الفخر بكل ما هو عزيز لدينا وشريف – في إشارة إلى سليلات الأخلاق اللائي يتصفن بالصبر والغضبة للحق :
بناتُ الرجالِ سليلاتُ الأخلاق
صابراتٌ لا نفاق
لا شِقاق
إن غَضِبنَ نارٌ مُستَعِرةٌ
لا تُطاق
وتنتهي ب (أنت وانا) وهي إيماءة فيها إشارة لمختصر الأكوان ، بل ولصراعات نفسية اجتماعية لبطلي القصة الحياتية المعيشة ، فبهما الكون مغرد ومشرد ، ولو كانت مرآة الكون تعكس روحيهما متسقة متماوجة متوحدة لصار ت أبجديات الكون تراتيل عشق حقيقية بل جنة خلد أبدية :
أنت
أنا
معك
فيك
حولك
ظلك
تنتهي الثواني
ولا أكتفي
منك أبدا ..
إنه روحُ الله الإنسانُ يعتلى طينيته، وينبرى يبحث في عيون الخلق عن آدميته، سحقا له الموت الداكن الذي يقتل الطهر ! ولعل التخبط القيمي المعاش أضاع هوية عقولنا ، لم نهتد للعدل كعدل ، أو يمكن أن رأينا الظلم عدلا في غياهب اللاوعي ، وهذا ما دعا الشاعرة في (غيبوبة) تحتاج إلى غيبوبة فكرية تسبق الإفاقة الإنسانية لتلملم ما تبعثر منها كإنسانة :
أيها الزمانُ
أحتاج إلى غيبوبة
كي أبقى
في عالمي وحيدة
أجالس أنفاسي الجريحة
أغمرها
بين أضلعي الكسيرة
و أختبئ مجبرا
من نفسي الشريدة
إنها المأساة حين نكتب بأيدينا شهادةَ وفاةٍ للروح الملائكية المسجونة في أجسادنا ،نحن على ظهر البسيطة أراها تئن من حملها إيانا كارهة لنا أن نحيا قصةً تبعثر فيها خيط الأمل وما عاد للدمع شفقة ولا رحمة في قلوب البشر ويدعون أنهم بشر. فيأيها البشر، بثوا الروح الطيبة الساكنة فيكم وانحروا الشرَ حتى نتصالحَ مع مفردات الكون ونحن وأنفسنا وفي (نهايةُ عُمرٍ) تتمنى الشاعرة كونا وسفرا من اللاوجود إلى الوجود في ظل نعيم البياض وهو رمز النقاء والسعادة للكون حينما تتلاشى همومه :
كم تمنيت عمري خيالا..
يمتطي صهوة جواد القدر ..
ليقتل هموم الكون ..
و يسافر دون سفر ..
راحل أنا أرتدي بيض الثياب ..
و دمعة غياب لنهاية عمر .
وفي نص (دفاتر النسيان) اختصرت الشاعرة فلسفة العشق وصنوفه ، فهنالك عشق يسلب الوجدان ، وآخر يرمي بسهام الخذلان ولعل النتيجة الخوف من غدر الأزمان في صورة راقية أخذتنا لمعارك من خلال رمي وطعن ويكأن الشاعرة تشير إلى أهمية السلام في العشق والغرام :
بات للعشق صنفان
عشق يجود به الفؤاد
يسلب الوجدان
وعشق
يطعن بخنجر
الخيانة و سهام الخذلان
إن الشعر ينقل الحدث حقا مصبوغا بمسحة الوجد ، والشاعر يقطن ما بين الشدو والشجو ، فنرى بضاعة الشاعر عزيزة على من أبدعها وتلقاها وطالعها ، فيا حظ من في صدره نبض أديب فإنه رسول السلام لهذا الزمان يدعو للفضيلة ينبذ الرذيلة يهادن الكون يصالح النفس والبشر من خلال رسالة السلام في ثوب قوامه الفكر والوجدان ديدنه الصدق المتسق الممتزج مع فطرة رب الوجود .
عصام طلعت الرفاعي